الحّل السوري على الطريقة العربية
تــدل الـتـطـورات السياسية فـي امللف السوري على مقاربات مختلفة لألزمة من محورين على األقل، أولهما يتمثل بمسار التطبيع الرباعي الـــذي بـــدأ ثـاثـيـا بــني الـنـظـام وتـركـيـا بقيادة روســيــة، ثـم أضيفت إليه إيـــران التي ال يمكن فـــي أي حـــال تـــجـــاوز حــضــورهــا عــلــى األرض وفي مفاصل صنع القرار السياسي واألمني والعسكري الــســوري. أمـــا الثاني فهو املسار العربي الــذي بـدأ بخطواٍت متسارعةّ تكاد ال تلحقها تـحـلـيـات املــراقــبــني واملـتـخـصـصـني. لكل من املسارين تعقيداته املختلفة عن اآلخر، فهناك بعض التقارب املرحلي في املصالح بني األقـطـاب اإلقليمية األكـثـر تأثيرًا فـي املنطقة، وهي إيران وتركيا والسعودية، يدفع كل منها ولـحـسـابـاتـه الــخــاصــة إلـــى املـــضـــي فـــي امللف السوري من منظور جديد. وفي املقابل، هناك خافات ال يمكن أغفالها أيضا، من أهمها أن الحضور العربي على األرض مــعــدوم تماما مقابل الحضور التركي الذي يتحكم بمساحة وازنة من الخريطة السورية، ومقابل الحضور اإليـــرانـــي الــــذي بـــات الـــقـــوة األكـــثـــر تــأثــيــرًا في عموم مناطق سيطرة النظام، فهل ثمة تعادل في موازين القوى بني هذه املحاور، وهل يمكن لإلغراء باالنفتاح على األســد، أعتى مجرمي الحرب في القرن الواحد والعشرين، وإغرائه بقضايا مثل إعـــادة اإلعـمـار أن يـــوازي باألثر قــوة املليشيات والجيوش املتحكمة بالواقع الـــســـوري؟ ثــمــة فــي املــقــابــل تــنــافــر مــصــالــح ال
يمكن إغفاله بني القطبني الدوليني األكبر من جهة، أميركا وروسيا، وبينهما على االتحاد واالنفراد مع القطب الصيني الـذي بدأ دخان تنينه السياسي يتصاعد بقوة في املنطقة من جهة أخـرى. سيعقد هذا التنافر بني األقطاب الــكــبــرى كــثــيــرًا جـــهـــود األنــظــمــة الــعــربــيــة في مقاربتها الـخـاصـة بــســوريــة، لـكـنـه قــد يفتح أمامها في املقابل مروحة واسعة من الخيارات الــجــديــدة واإلمـــكـــانـــات املـخـتـلـفـة. يـهـمـنـا هنا الحديث عن املقاربة العربية باعتبارها األكثر بـــــروزًا. أظــهــرت املـــؤشـــرات األولـــيـــة أن اإلدارة األميركية تغض الطرف مبدئيا عن تحّركات حلفائها اإلقليميني في الـدول العربية، وهي بكل األحــوال ال يمكنها أن تمنع مؤسساتها السياسية األخرى من اتخاذ مواقف مناقضة لسلوكها هـــذا، فـمـشـاريـع الـقـوانـني الـجـديـدة الـتـي تـعـاقـب عـلـى التطبيع مــع األســـد سيف يصنعه الكونغرس، وتجرده اإلدارة أيا كانت، ديمقراطية أم جمهورية، عند الـحـاجـة، كما هـو حــال قـانـون قيصر وغـيـره مـن العقوبات املـخـتـلـفـة. وتـبـقـي هـــذه اإلدارة عـلـى مستوى الـخـطـاب الـــذي وســـم مـوقـفـهـا تــجــاه القضية السورية منذ بدايتها على حاله، أي التمسك بالقرارات الدولية ذات الطبيعة املرنة املطاطة التي يمكن أن تركب على كل القياسات، وحسب طبيعة فهم أصـحـاب املصالح املختلفة. هذا يعني، من حيث النتيجة، أن املوقف األميركي هـــو الـــامـــوقـــف، ألنـــهـــا بــحــضــورهــا املــبــاشــر عــلــى األرض مـــن خـــال جــنــودهــا وقــواعــدهــا الـعـسـكـريـة، ومـــن خـــال حلفائها مــن مجلس
سـوريـة الديمقراطية الـذيـن يسيطرون على أهم مناطق سورية قاطبة، قادرة على اجتراح الحلول للواقع املستعصي، إن أرادت تغيير نهجها، أو على تعطيل أي حل ال يناسبها أو ال يناسب رؤيتها للقرارات الدولية التي تعلن تمسكها الرسمي بها إن أرادت اإلبـقـاء على سياستها الراهنة. مــن دالالت تعقيد املـشـهـد الـــســـوري الــراهــن أمــام القمة العربية التي عقدت في جــدة في خضم األمواج اإلقليمية والدولية املتاطمة حـــضـــور الـــرئـــيـــس األوكـــــرانـــــي، زيـلـيـنـسـكـي، ضيف شرف عليها، ولهذا رسائل سياسية متعددة تجاه الـــروس واألتــــراك واإليـرانـيـني أطـــــراف املــقــاربــة األولـــــى للتطبيع مـــع نـظـام األســـد مـن جهة أولـــى، فقد اتـهـم زيلينسكي في وقت سابق كا من نظامي املالي واألسد بدعم روسيا في حربها على شعبه، وبدعم الـــجـــرائـــم الـــتـــي تـرتـكـبـهـا تــلــك الـــقـــوات بـحـق مواطنيه وباده. ومن جهة ثانية، ثمة رسالة تقول إن السعودية قادرة على املناورة ليس إقليميا فقط، بـل ودولـيـا وفـي أعقد امللفات الـتـي منها املـلـف األوكـــرانـــي األكـثـر سخونة فـــي الـــعـــالـــم. قـــد يـــكـــون مـــن شــــأن ذلــــك أيــضــا تهدئة جبهات التحدي التي فتحتها بعض دول الـخـلـيـج مــع الــغــرب بــشــأن مـوقـفـهـا من الحرب الروسية األوكرانية وبشأن تجاوزها املوقف الغربي املعلن من التطبيع مع األسد، واألهــــم واألخــطــر انفتاحها السياسي على الصني وقبولها مبادرات الحل التي قدمتها األخــيــرة لـلـخـافـات مــع إيــــران. قـــرأ سـوريـون كثيرون حضور زيلينسكي بأوجه متعددة، ولعل واحــدا من أجمل التعليقات عليها كان وصـف زيلينسكي بأنه الـسـوري الوحيد في القمة، بمقاربة ال تخلو من خيبة أمل شعبية واسعة من املواقف الرسمية العربية املطبعة مقابل موقف زيلينسكي الذي سمى األشياء بـمـسـمـيـاتـهـا، هــنــاك مـــن رأى أن دعـــوتـــه إلــى حضور القمة كانت ضربة معلم، حيث أجبرت كل وسائل اإلعام الغربية على تغطية القمة، وحيث خلخلت الحسابات حتى لدى الروس الـــذيـــن امــتــعــضــوا أشـــــد امـــتـــعـــاض مــنــهــا. في املـقـابـل كـــان حــضــور أمــيــر قـطـر الـشـيـخ تميم جـانـبـا مــن أعــمــال الـقـمـة ومــغــادرتــه جـــدة من دون إلقاء كلمة فيها وقبل إلقاء األسد كلمته ومن دون لقائه ذا أثر كبير في نفوس غالبية السوريني املناهضني لألسد ونظامه، ولطاملا شعر هؤالء أن املوقف القطري هو الوحيد الذي احترم معاناتهم وتضحياتهم وآالمهم، وأنه الوحيد من بني املواقف العربية التي ما زالت تأخذ الجانب الصحيح من التاريخ، وتسرد الحكاية السورية كما هي بألسنة الضحايا ال املجرمني القتلة. يتساء ل السوريون الثائرون واملعارضون في سياق هذا السباق املحموم عــن معاني التطبيع مــع األســـد، وهــل يمكن أن يختلف النهج املتبع في حل االستعصاء السوري عن الذي اتبعه الحكام العرب سابقا فــي إنــهــاء الــحــرب األهــلــيــة الـلـبـنـانـيـة أو في معالجة آثـــار االحــتــال األمـيـركـي للعراق أو في الراهن من معالجة الخافات الليبية أو اليمنية أو السودانية؟ الحل املنتظر سوريا أكــبــر مـــن قـــــدرات الـــعـــرب، والـــتـــدخـــل املــأمــول سـوريـا أعلى مـن سقف أفـكـار الـقـادة العرب، فالحقيقة التي باتت جلية اآلن أمام الشعوب العربية أن ظـفـر األنظمة ال يمكن أن يخرج مـن لحمها، وهــي إن تنافست فـي مـا بينها على بعض النفوذ، فإنها، في النهاية، تجد مــــن مــصــلــحــتــهــا االتــــحــــاد بـــوجـــه شــعــوبــهــا الطامحة للحرية والكرامة والعدالة. أمــا ما يـــراه الــســوريــون املـكـلـومـون مــن هــذا الـحـراك العربي، فليس أكثر من مخاض جبل أسفر عن فأر بوجه أسد قبيح سيختفي يوما ما، ونبقى نحن وتبقى سورية.
إن تنافست األنظمة العربية في ما بينها على بعض النفوذ، فإنّها، في النهاية، تجد من مصلحتها االتحاد بوجه شعوبها