الكتابة مهنة
قلٌم في يٍد ومعول في األُخرى من المثير للسخرية أّن الكتّاب يوفرون عمًال وماًال لُدورّ النشر والصحافة والنقاد والمكتبات والمؤسسات الثقافية، وال يصيبون شيئًا من ذلك
يعيش أغلب الكتاب حياة ذات وجهني، ال عاقة لها بالشر والخير، لئا يعتقد الــقــارئ بـأنـنـا نحيله إلــى روايـــة روبــرت لــــويــــس ســـتـــيـــفـــنـــســـون «دكــــــتــــــور جــيــكــل ومـــســـتـــر هــــايــــد»، ولـــــو أن هـــنـــاك كــتــابــًا ارتكبوا جـرائـم وكتبوا روايـــات؛ ومنهم مـــن طـــاولـــه اإلعــــــــدام. هـــــؤالء قـــلـــة نـــــادرة، سنتكلم عن األكثرية، الذين حملوا القلم بـيـد وبـالـيـد األخـــــرى املـــعـــول، كـنـايـة عن أنـهـم كـانـوا عــمــاال أو مـوظـفـني؛ فالكثير مـــن الــكــتــاب املــشــهــوريــن بـــــدأوا حياتهم بـمـمـارسـة أعــمــال خـشـنـة، وكـتـبـوا عنها فــي روايــاتــهــم أو تـجـاربـهـم الشخصية، وأحـد الكتاب السوريني مثال جيد؛ فقد عــمــل فـــي مــهــن كـــثـــيـــرة؛ حـــاقـــًا وحـــمـــاال فـــي مــيــنــاء الـــاذقـــيـــة، مــصــلــح دراجــــــات، فـصـحـافـيـًا وكـــاتـــب مــســلــســات إذاعـــيـــة، وكــــان أيــضــًا مــوظــفــًا مــرمــوقــًا فـــي وزارة الثقافة السورية. إنـه هو نفسه الروائي السوري املعروف حنا مينه. لـــم يـقـتـصـر عــمــل الـــكـــتـــاب عــلــى األعـــمـــال الـعـاديـة، بـل كـان منهم أطـبـاء وباحثون وصـحـافـيـون مثل الـدكـتـور عبد السام الـــعـــجـــيـــلـــي، الـــــــذي كــــــان طــبــيــبــًا نــاجــحــًا ومعروفًا في بلدته الرقة؛ مهنة لم يتخل عنها، على الرغم من تعدد مواهبه، كان روائـيـًا وقـاصـًا وكاتب مقاالت سياسية وفكرية، وسياسيًا مــارس السياسة في البرملان السوري. وكان في عداد «جيش اإلنــــقــــاذ» فـــي فـلـسـطـني، ومــثــلــه املــصــري نجيب محفوظ، كــان موظفًا عتيدًا إلى حني التقاعد. ولــئــا يــذهــب الــظــن إلـــى أن هـــذه الحياة الـــشـــاقـــة ذات الـــوجـــهـــني اقـــتـــصـــرت على الـــعـــرب، فــالــعــالــم مــلــيء بــهــم، فــالــروســي أنــــطــــون تـــشـــيـــخـــوف كـــــان طـــبـــيـــبـــًا، كـتـب الـقـصـة القصيرة واملـسـرحـيـة والــروايــة، وال شــــك فـــي أنـــــه كــــان واحــــــدًا مـــن أعـظـم الكتاب في العالم في هذه الفنون الثاثة. وال بد من اإلشارة إلى فرانز كافكا الذي عمل فـي مؤسسة للتأمني على حــوادث العمل، كذلك الفرنسي بلزاك الــذي عمل فــي تــجــارات خــاســرة، والـفـرنـسـي اآلخــر غــــي دي مـــوبـــاســـان الــــــذي كـــــان مــوظــفــًا صـــغـــيـــرًا فــــي عــــــدة وزارات... والــقــائــمــة تطول، وتشمل ربما أغلب املهن املعروفة والـتـي انـقـرضـت. الـافـت فيها أن القسم األكبر منها الذين يعملون في الصحافة
والتدريس، وهم األقرب إلى حمل القلم. تـــمـــلـــي هـــــذه االزدواجــــــيــــــة عـــلـــى الــكــاتــب تقسيم حياته بـني عـالـم الكتابة وعالم األعمال غير األدبية، طاملا الكتابة ال تدر املال، بينما العمل اآلخر مدفوع األجر. ما يعني أن الكاتب ال يستطيع أن يعيش في حال أراد أن يكون كاتبًا فقط، وإنما عليه أن يقتطع من حياته زمنًا يكون فيه إنسانًا آخر. وكـــــــــــي نـــــــكـــــــون أقـــــــــــــرب إلـــــــــــى الــــــــواقــــــــع، فــــســــوف نـــســـتـــعـــني بـــبـــعـــض خـــاصـــات اإلحصائيات فـي الـغـرب، والـتـي تشير إلـى الـفـارق الخيالي الكبير بني بعض الكتاب الذين ال مردود ماديًا من كتبهم، وهم النسبة األكبر، وكتاب قلة تتجاوز مــداخــيــلــهــم املـــايـــني، وهــــم مـــن الــكــتــاب النجوم. عمومًا إن الذين يعيشون من قلمهم في بلد كفرنسا ال يصل عددهم إلـــى الـثـاثـمـئـة. أمــــا اآلخـــــرون فـعـددهـم
نــحــو عــشــريــن ألــــف كـــاتـــب، يـتـقـاضـون حقوق كاتب متواضعة، وربما زهيدة، بل وغير منتظمة. هـــذه الــخــاصــات ال تنطبق عـلـى الـبـاد العربية؛ فالنسبة الساحقة مـن الكتاب العرب مضطرون ملمارسة أعمال أخـرى لــتــأمــني مـــصـــدر لــلــدخــل يــعــيــشــون مـنـه، بينما قـلـة قليلة جـــدًا، تـكـاد ال تـزيـد عن أصـــابـــع الـــيـــد الــــواحــــدة، يـــشـــكـــل الــكــتــاب مصدر دخلهم، وال يعني هذا مواهبهم، أو عـــــلـــــو كـــعـــبـــهـــم فــــــي األدب، وإنـــــمـــــا
يقتطع الكاتب من حياته زمنًا يكون فيه إنسانًا آخر عــلــى األغـــلـــب مـــا وفــــرتــــه لــهــم عـاقـاتـهـم الشخصية الــجــيــدة مــع بـعـض الجهات الـثـقـافـيـة الــتــي ال خــبــرة لــهــا فـــي األدب، وربما الحظ. املاحظة املثيرة لاستغراب والرثاء أن مـــصـــادر دخـــل الــكــتــاب الـــعـــرب، املــحــدود جــــــــدًا، تــعــيــنــهــم عـــلـــى دفـــــع تـــكـــالـــيـــف مـا ينشرونه من كتب. واملثير للسخرية، أن هؤالء الكتاب املغبونني الذين ال يجدون مـقـابـا ملـواهـبـهـم وال جـهـدهـم، يــوفــرون الـعـمـل واملـــــال، لــــدور الـنـشـر والـصـحـافـة والــنــقــاد وأصـــحـــاب املـكـتـبـات ومـوظـفـي الــــــــــوزارات واملــــؤســــســــات الـــثـــقـــافـــيـــة، وال يصيبهم شــيء مــن هــذه املـنـافـع، لكنهم صـامـدون. يعتبرون األدب حياتهم، وال يــتــصــورون الـعـيـش مــن دونــــه، ويــعــزون أنفسهم بأن األدب ليس مهنة، بل هواية. ... لكنه مهما قيل، فهو مهنة.