Al Araby Al Jadeed

خطة «المركزي المصري» للشهور المقبلة

- شريف عثمان

عندما وافق صندوق النقد الدولي على إقراض مصر 3 مليارات دوالر، كـان االتـفـاق أن تحصل على الـقـرض على أقـسـاط على مدار السنوات األربع القادمة، حتى تكون هناك فرصة للصندوق ملتابعة التزام مصر بالشروط التي تعهدت بتنفيذها قبل صرف كل قسط. لكن يبدو أن الحكومة املصرية لم تلتزم بالتنفيذ، حيث تمسكت بسياسة تثبيت سعر الجنيه املصري مقابل الـدوالر حتى اآلن، بعد تخفيض واحد مطلع العام الحالي، ولم تتمكن من بيع حصتها في قائمة من الشركات أعلنت عنها، باستثناء ما يقرب من %10 من الشركة املصرية لالتصاالت، وشركة باكني للبويات، بإجمالي قيمة للصفقتني ال يتجاوز 150 مليون دوالر. أيــضــا لـــم تـتـمـكـن الـحـكـومـ­ة مـــن فـتـح املـــجـــ­ال لـلـقـطـاع الــخــاص، وتخفيف قبضة مؤسسات الدولة على االقتصاد، كما تعهدت للمؤسسة الدولية. والشهر املاضي، سجل املؤشر الذي يقيس نشاط القطاع الخاص غير النفطي في البالد تراجعا للشهر التاسع والعشرين على التوالي. كانت النتيجة أن الصندوق لم يصرف الدفعة الثانية من القرض، ولم يرسل فريقه ملتابعة االلتزام املصري بالتعهدات، حيث كانت الصورة واضحة للجميع، وقيل إن زيارة فريق الصندوق تأجلت إلى شهر يوليو/تموز املقبل. يقول بعض املتابعني القريبني من السلطات النقدية واملـالـيـ­ة فـي الـبـالد إن البنك املــركــز­ي يرغب في تأجيل أي تخفيض جديد في قيمة العملة املصرية إلى ما بعد نهاية السنة املالية في الثالثني من يونيو/حزيران، حتى ال تكون هناك تأثيرات سلبية على املوازنة العامة، في وقت تسعى فيه الحكومة لتخفيض العجز ليصبح %6.5 من الناتج املحلي اإلجمالي. وإذا ما كان البنك املركزي يرغب فعال في اتباع هذا املسار، من دون التسبب في املزيد من التراكم للبضائع في املوانئ، انتظارا لتوفير املقابل الـــدوالر­ي، أو وصـول السعر في السوق املوازية ملستويات عليا جديدة، فال بد أن يكون لديه ما يكفي من الدوالر لتلبية االحتياجات األساسية خالل فترة تقترب من األربعني يوما، تفصل بيننا وبني السنة املالية الجديدة. األرقــام املتداولة تشير إلـى تمكن البنك املركزي من الحصول عــلــى أربـــعـــ­ة مــلــيــا­رات دوالر إضــافــيـ­ـة مـــن إيــــــرا­دات الـسـيـاحـ­ة، باإلضافة إلى مليار دوالر أخرى من مبادرة استيراد سيارات املقيمني بالخارج، وهو ما قد يسهل مهمة البنك املركزي خالل األربعني يوما القادمة. لكن يبقى السؤال هنا عن الخطوة التالية، أي اعتبارًا من بداية السنة املالية الجديدة، والتي يفترض وفقا لتلك التوقعات، التي أيدها تقرير حديث صادر عن «سيتي بنك» أن تشهد تخفيضا جــديــدًا فــي قيمة الـجـنـيـه، مــن نـاحـيـة ملـحـاولـة ســد الـفـجـوة بني بالعرض والطلب على العملة األجنبية، ومن ناحية أخرى أمال في اجتذاب األمــوال الخليجية لشراء حصة الحكومة املصرية في الشركات التي تم اإلعالن عن تخارج الحكومة منها. ومــرة أخــرى تجد الحكومة املصرية نفسها مضطرة التخاذ إجـــــراء­ات استثنائية، تسمح لـهـا بتدبير بضعة مــلـيــار­ات من الـــدوالر­ات، غالبا من خـالل بيع األصــول املصرية، تحصل بها على قبلة حياة تنقذها ألشهر قليلة، ثم لتعود األزمــة بعدها بصورة أكثر حدة، بينما نكون قد دفعنا التكلفة من االستغناء عن األصول، وأيضا من خالل حشر املزيد من املصريني تحت خط الفقر، بعد اإلضعاف املتتالي للعملة املصرية. هــذا السيناريو تـكـرر عــدة مـــرات خــالل الخمسة عشر شهرا املاضية، ولم يقربنا حتى اآلن من حل أزمة الـدوالر في مصر، حيث ما زالت السوق املوازية نشطة، يرتفع فيها سعر الدوالر في أغلب األوقات، وال ينخفض إال قليال، وفي حاالت نادرة، وهو ما شجع غير القادرين على شراء العملة األجنبية على التوجه بأموالهم إلى سوق الذهب بأشكالها املختلفة. ولألسف الشديد تناست الحكومة املصرية املشكلة الحقيقية، املتمثلة في ضعف املـوارد من العملة األجنبية واستمرار عجز الحساب الجاري، واتجهت بالعديد من القرارات الجديدة نحو محاولة كبح جماح ارتفاع أسعار الذهب، وكأنه مطلب جماهيري في بلد يقترب أكثر من ثلثي سكانه من خط الفقر. والعجيب واملحزن في ذات الوقت، هو أن اإلجراءات التي اتخذت للنزول بأسعار الـذهـب فـي الـسـوق املصرية لـم تــؤت أكلها إال قليال، بينما تشير التوقعات إلى تأثيرات شديدة السلبية لها، حيث يتوقع أن تتسبب في املزيد من الطلب على العملة األجنبية خالل الفترة القادمة. إذًا نحن على مسار واضــح نحو بيئة يــزداد فيها الطلب على الدوالر في مصر، سواء من خالل محاوالت الحكومة «مساعدة املصريني» على االستثمار في الذهب، كما اإلضافات املتتالية للدين الــخــارج­ــي، والــتــي تسبب ارتــفــاع الـفـائـدة املستحقة كل عام بالعملة األجنبية إلى مستويات غير مسبوقة، بينما تقل األصـول التي لدينا، والتي اعتدنا أن نلجأ لبيعها حتى نتمكن من سداد التزاماتنا الدوالرية. ويحدث كل ذلك دون أن ننجح في تخفيض عجز الحساب الجاري، أو عجز امليزان التجاري، وهما أصل الداء، والسبب الرئيسي في تراجع قيمة الجنيه خالل أكثر من خمسة عقود على أقل تقدير. نكرر السياسات التي تسببت في حدوث األزمات في البالد، ثم نعجب من تكرار األزمــات، ونتبع نفس أدوات الحل املؤقتة، ثم ننتظر تغيرًا في النتائج، وهذا ال يصح. لـن تحل أزماتنا إال مـن خـالل تقليص عجز املـيـزان التجاري، وهــو مـا يتطلب فــرض قيود شـديـدة على الــــوارد­ات، أو إحــداث زيـادة كبيرة في الصادرات، واألخيرة لن نتمكن من تحقيقها رغم املحاوالت املضنية على مدار السنوات السابقة، األمر الذي يضعنا أمام اختيار وحيد، وهو الحد من االستيراد. هذه الخطوة ضرورية وعاجلة، وإن لم نفعلها باختيارنا، وفي السلع أو الخدمات التي يمكننا التوقف عن استيرادها، فانتظروا يوما تفرض علينا فيه، ولن يكون لنا وقتها حرية اختيار ما نتوقف عن استيراده، وقد يطاول وقتها قمحا أو لحما أو وقودًا أو سلعا وسيطة ال غنى عنها، وتؤكد تجارب العديد من الدول أن التأخر في اتخاذ هذه الخطوة يزيد من صعوبتها، ويجعل تكلفتها أكثر إيالما!

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar