عن الخروج األميركي من العراق
يكاد ملف الخروج األميركي من العراق، الذي يثار بن فترة وأخـرى، يكون أقرب إلــــى قــصــة مـــن قــصــص الــخــيــال الـعـلـمـي الـتـي تختلط فيها الـحـقـائـق واألوهــــام، كـمـا يـصـعـب الـــوصـــول فـيـهـا إلـــى نهاية واضـــــحـــــة. وجـــــديـــــد فــــصــــول هــــــذا املـــلـــف تـــابـــعـــنـــاه بــــدايــــة مــــع الـــتـــصـــريـــح الـــالفـــت الذي أطلقته ألينا رومانوسكي، سفيرة الواليات املتحدة في بغداد، والذي أكدت فيه «بـاقـون فـي الــعــراق، ولــن نـرحـل، ألن العراق يمثل أهمية استراتيجية كبيرة لــنــا». والــظــاهــر أن رومـانـوسـكـي قـــررت، هـــــذه املــــــــرة، أن تــتــخــلــى عــــن «وقــــارهــــا» الـــدبـــلـــومـــاســـي، وأن تــعــلــنــهــا صــريــحــة واضحة لكل األطـــراف، ولـم تكتف بذلك، بـل طافت على كـل الـقـيـادات الفاعلة في املشهد السياسي، وبضمنها القيادات املـــلـــيـــشـــيـــاويـــة الــــتــــي هــــــــددت بــمــواصــلــة الــجــهــاد حــتــى خــــروج آخــــر أمــيــركــي من الــــبــــالد، وأبــلــغــتــهــم أن ال شــــيء يـــحـــدث، وال أحــد يـجـيء مـن دون رضــا واشنطن ومباركتها. وبالطبع، ما قالته السفيرة يـــعـــد بـــمـــثـــابـــة رســـــالـــــة إلــــــى طـــــهـــــران أن واشـنـطـن لــن تسمح بـاسـتـمـرار الـتـوغـل اإليراني في العراق والهيمنة على قراره. لـــم يــكــن ذلــــك ســيــئــًا بـالـنـسـبـة لـعـراقـيـن كــثــيــريــن، بـــل اســتــبــشــر بــعــضــهــم خــيــرًا، خـصـوصـًا بـعـدمـا أعــربــت رومـانـوسـكـي عـن قناعتها بــأن «العراقين ال يريدون دولـــة تسيطر عليها املـلـيـشـيـات»، وهـذا يعني أن اإلدارة األميركية ستعمل، في الـقـريـب، على إبــعــاد سيطرة املليشيات على الدولة إن بالترهيب وإن بالترغيب. لـم تكن إحـاطـة ممثلة األمـــم املتحدة في بغداد، جينن بالسخارت، أمـام مجلس األمـن، بعيدة عما طرحته رومانوسكي، فــقــد أشـــيـــر فــيــهــا إلــــى «جـــهـــات مسلحة خارج إطار الدولة» وهذه الجهات تعمل فـــي ظـــل «ظـــاهـــرة اإلفـــــالت مـــن الــعــقــاب»، واألمر يتطلب معالجة. إعــــــالن الـــرئـــيـــس األمــــيــــركــــي جــــو بـــايـــدن تمديد حالة الطوارئ على خلفية «وجود تــــهــــديــــدات غـــيـــر عــــاديــــة لـــأمـــن الــقــومــي والسياسة الخارجية للعراق والواليات املــتــحــدة» لــيــس بــعــيــدا، هـــو اآلخـــــر، عما طــرحــتــه رومـــانـــوســـكـــي، إذ مـــثـــل إشــــارة الفــتــة قــد تـنـطـوي عـلـى إجــــــراءات تنوي واشنطن اتخاذها بعد نفاد حالة الصبر لديها على عدم التزام حكومة بغداد بما وعـــدت بــه مــن الـعـمـل عـلـى وقـــف الـتـوغـل اإليـــــرانـــــي، والـــقـــضـــاء عـــلـــى املــلــيــشــيــات، خصوصًا بعد تسنم عناصر مليشياوية مناصب وزارية في حكومة محمد شياع الــســودانــي، وبـمـا يعنيه ذلــك مــن إعطاء دور أكبر من السابق لتلك املليشيات في القرارات الحكومية. هـــل حــــان الــــوقــــت، إذًا، إلجــــــراء الـتـغـيـيـر املطلوب فـي الحكم فـي بــغـداد، وإن عبر «عملية جراحية» كبرى كالتي يروجها محسوبون على واشنطن، أو حتى بعض مـن كـانـوا خصومًا لها إلــى وقــت قريب، واكتشفوا أن ال تغيير جـديـًا ممكن، من دون تدخلها على نحو مباشر؟ الـــواقـــع أن تـغـيـيـرًا مـــن نـــوع «الــقــمــاشــة» التي يريدها هؤالء ال يمكن أن يدور في خلد إدارة «الديمقراطين» الحالية التي يـحـاصـرهـا الــوضــع الـــدولـــي، املــاثــل بكل تعقيداته التي أوجدتها حرب أوكرانيا، كما يضغط عليها الوضع داخل أميركا نـــفـــســـهـــا فـــــي ظـــــل االنـــــقـــــســـــام الـــحـــاصـــل فـــي الـــكـــونـــغـــرس، وأيـــضـــًا بــعــد أن ألـغـى الكونغرس تفويضًا للرئيس باستخدام الــقــوة العسكرية مــع الــعــراق. ومــا يمكن ألميركا فعله اليوم هو ممارسة نوع من الضغوط على حكومة بغداد، مرة أخرى وأخرى، كما فعلوا في واقعة إلزام العراق بـوقـف تهريب الـــدوالر إلــى إيـــران، ومنع الــتــحــويــالت املــالــيــة الــخــارجــة عـــن نـظـام التعامل الدولي، وقد تجد حكومة بغداد نـفـسـهـا مــضــطــرة لــالنــصــيــاع للضغوط األمـــيـــركـــيـــة وتـــحـــجـــيـــم دور املــلــيــشــيــات على نـحـو مــا، لكنها، مـن ناحية أخــرى، في وضـع ال تحسد عليه مع إيــران التي تفرض عليها ضغوطًا من نوع مختلف، جديدها أخيرًا ما كشف عنه القائد في الحرس الثوري، محمد باكبور، أن بالده «أعطت فرصة محدودة» لحكومة محمد شياع السوداني لطرد املناهضن إليران من شمال الـعـراق، و«إذا لم يحدث شيء فإن ضربات الحرس الثوري ستستمر». وباملختصر املفيد، يبدو أن اللعبة ال تزال في أولـهـا، وأزمـــات الـعـراق التي تجذرت خالل األعوام العشرين التي أعقبت الغزو األميركي للعراق سوف تظل تتوالى بن شد وجذب بن املحسوبن على واشنطن و«وكالء» إيران ورجال مليشياتها ربما إلى أمد قد يطول.