Al Araby Al Jadeed

قّمة اإلفالت من العقاب

- علي أنوزال

كانت القمة العربية التي انعقدت في جدة قمة اإلفـــالت مـن العقاب بامتياز. ويكفي تــأمــل الــحــضــ­ور داخــــل الــقــاعـ­ـة الــتــي الـتـأم فــيــهــا الــجــمــ­ع إلدراك مــعــنــى هــــذا الـــكـــا­لم، فـــأغـــل­ـــب الــــحـــ­ـاضــــريـ­ـــن، إال مــــن عـــفـــا ربــــك، مــلــطــخ­ــة أيـــاديــ­ـهـــم بـــدمـــا­ء ضــحــايــ­اهــم، أو بـــاألمــ­ـوال الــتــي اخـتـلـسـو­هـا مــن قـــوت يـوم شعوبهم، أو مطاردون بدعوات املظلومن فـي سجونهم. لـكـن الـعـنـوان الكبير لهذه القمة هـو تبييض صفحة رئيس النظام الـسـوري الــذي أعطته القمة والحاضرون فيها صـك بــراءة من كل الجرائم الفظيعة الــتــي ارتـكـبـهـ­ا ومـــا زال يرتكبها فــي حـق شعبه، فالقمة التي أريد لها أن تكون حدثًا إعالميًا، وال شيء غير ذلـك، ألنـه نـادرًا ما انتهت قمم عربية إلــى مـواقـف أو قــرارات عملية، لم تكن مناسبة فقط لعودة نظام بشار األسد إلى «حضن» النظام الرسمي الــــعـــ­ـربــــي، كـــمـــا عـــنـــون­ـــت ذلــــــك فــضــائــ­يــات ومواقع عربية، وإنما كانت إيذانًا بعودة إحياء نــادي الدكتاتوري­ات العربية التي انــتــفــ­ضــت ضـــدهـــا شــعــوبــ­هــا عـــــام ،2021 فالوحيد من بن الرؤساء الذين حضروا تــلــك الــقــمــ­ة الـــــذي وصــــل إلــــى الــســلــ­طــة في بالده عن طريق انتخابات شفافة ونزيهة هو الرئيس التونسي قيس سعيد، لكنه حـتـى هـــو سـيـنـقـلـ­ب، سـنـة بـعـد انـتـخـابـ­ه، عـــلـــى الــــدســ­ــتــــور وعــــلـــ­ـى الــــقـــ­ـوانــــن الـــتـــي بفضلها أصــبــح رئــيــســًا، وهـــو حـالـيـًا في طريقه إلــى تأسيس دكـتـاتـور­يـة منتخبة جديدة، وغريبة في اآلن نفسه، عن البيئة العربية التي ألفت استنبات دكتاتوريات سـلـطـويـة تــفــرض نـفـسـهـا عــلــى شعوبها باالنتخابا­ت املـــزورة أو بالحديد والنار. واعـــتـــ­بـــارًا لـلـوضـع الــعــربـ­ـي الــحــالـ­ـي الـــذي يعيش إحدى أسوأ مراحل تراجع الحرية والديمقراط­ية أو غيابهما تمامًا في أكثر مـن دولـــة عربية وعـــودة القمع واالعتقال

واملحاكمات الجائرة، فإن عودة األسد إلى جـامـعـة الــــدول الـعـربـيـ­ة الـتـي تـضـم أصــال في صفوفها أنظمة دكتاتورية وسلطوية لـيـس حــدثــًا فـــي حـــد ذاتـــــه، ألن اســتــمــ­راره خــارجــهـ­ـا هـــو الــــذي كـــان يـــحـــدث الـتـبـاسـًا كثيرًا عند مـن يــدركــون أن هــذه الجامعة ليست سوى ناٍد لدكتاتورياٍت تشيخ وال تموت. قـــمـــة جــــــدة الـــتـــي اســـتـــد­عـــي لـــهـــا الــرئــيـ­ـس األوكــــر­انــــي، زيـلـيـنـس­ـكـي، عــلــى حـــن غـــرة، بـال مناسبة تـبـرر ظـهـوره املـفـاجـئ فيها، وخــــــــ­ـارج أعــــــــ­ـراف الـــقـــم­ـــم الــــعـــ­ـربــــيــ­ــة، ومـــن دون اســــتـــ­ـشــــارة بــــاقـــ­ـي األعــــــ­ضــــــاء، ربــمــا لــلــتــغ­ــطــيــة عـــلـــى فـــضـــيـ­ــحـــة عــــــــو­دة بـــشـــار األســــــ­ــد، يــمــكــن اخـــتـــز­الـــهـــا، فــــي الـــنـــه­ـــايـــة، وبـــشـــك­ـــل مـــكـــثـ­ــف، فــــي اجـــتـــم­ـــاع هــامــشــ­ي، على هامشها، لكنه حمل أكـثـر مــن داللــة سياسية، بن دكتاتور سورية الـذي قتل وشـــرد نصف شعبه عندما انتفض هذا الشعب مطالبًا بالحرية والديمقراط­ية، والـــرئــ­ـيـــس الــتــونـ­ـســي الـــــذي عـــرفـــت بـــالده انـــطـــا­لق شــــــرار­ة «الـــربـــ­يـــع الـــعـــر­بـــي». وفــي صـور ابتسامات الرجلن ومصافحتهما وكــلــمــ­ات الــغــزل املــتــبـ­ـادلــة بينهما تركيز قوي للحالة العربية الحالية. حالة عودة الــدكــتـ­ـاتــوريــ­ات بــكــل أشــكــالـ­ـهــا املــفــرو­ضــة واملـنـتـخ­ـبـة والـقـمـعـ­يـة والــشــعـ­ـبــويــة. لذلك ال غـرابـة فـي أن يصف الرئيس التونسي الــــــــ­ذي انـــتـــخ­ـــب فـــــي لـــحـــظـ­ــة هـــيـــمـ­ــن فــيــهــا الــــخـــ­ـطــــاب الـــشـــع­ـــبـــوي فـــــي بــــــــا­لده لـــقـــاء ه بـدكـتـاتـ­ور ســوريــة بـأنـه «لــقــاء تـاريـخـي»! وفــي لحظة انـتـشـائـ­ه، بـنـصـره، سيختلط األمر على الدكتاتور السوري، عندما قال إن «الشعب العربي لم يتغير»، فهو ربما كان يقصد أن النظام العربي الرسمي هو الذي لم يتغير، والدليل عودته هو مزهوًا ومــنــتــ­صــرًا. أمـــا أبــنــاء شـعـب بــــالده الـذيـن دفع نصفهم إلى الهجرة القسرية هربًا من القتل واالعتقال والحصار، نحو الشتات والــــتــ­ــشــــرد فــــي املــــالج­ــــئ، وقـــتـــل أكـــثـــر مـن

الوضع العربي يعيش إحدى أسوأ مراحل تراجع الحرية والديمقراط­ية أو غيابهما في أكثر من دولة

نصف مليون منهم، بعضهم بالكيميائي وبــالــبـ­ـرامــيــل املـــتـــ­فـــجـــرة، فــهــو لـــم يـتـغـيـر، وإنــمــا غـــاب، أو بـــاألحــ­ـرى، جـــرى تغييبه، مثل شعوب عربية أخرى، عن قمة رسمية غاب فيها صوت الشعب وارتفعت أصوات دكتاتورين. وإذا كـــان كـثـيـرون قــد رأوا فــي تـلـك القمة انـتـصـارًا لـلـثـورات العربية املــضــاد­ة التي عـــمـــلـ­ــت 12 ســـنـــة عـــلـــى قـــتـــل كــــل أمــــــل فـي الديمقراطي­ة والحرية في املنطقة العربية، فهو انتصار لحظي وخادع، ألن األسباب الـتـي أدت إلــى االنـتـفـا­ضـات الشعبية في أكـثـر مــن دولـــة عربية مــا زالـــت قـائـمـة، بل زادت اســتــفــ­حــاال، وعــــدم خــــروج الـشـعـوب إلى الشوارع وامليادين للمطالبة بالتغيير ال يعني أنـهـا لــم تـعـد تطمح إلــيــه، وإنـمـا ألن آلة القمع في يد األنظمة التي تحكمها أصبحت متطورة وفعالة، وسيأتي اليوم الذي ينفجر فيه الغضب الشعبي العربي كــمــا حــــدث عــــام 2011 مــثــل تــســونــ­امــي ال يمكن التنبؤ بساعة اجتياحه.

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar