Al Araby Al Jadeed

هذا الجدل في ذكرى الوحدة اليمنية

- نبيل البكيري

مـــن بــديــهــ­يــات الـــقـــو­ل الـــيـــو­م أن ثــالثــة أهـــداف رئيسية حققتها الحركة الوطنية اليمنية على مدى سبعة عقود من تاريخ تشكلها، وتحولت إلى ثوابت وطنية شبه «مقدسة» في االجتماع الـــســـي­ـــاســـي الـــيـــم­ـــنـــي، ال يـــمـــكـ­ــن املـــــسـ­ــــاس أو التفريط بها، تحت أي مبرر، وهي الجمهورية والوحدة والديمقراط­ية، هذه الثالثية التي عد تحقيقها أهم منجز وطني في رصيد الحركة الــوطــنـ­ـيــة والــيــمـ­ـن الـــحـــد­يـــث. وال يـخـفـى على املـتـابـع البسيط، فـضـال عــن غــيــره، أن حــروب التسع سنوات، التي لم تتوقف بعد، كان من أهـــم أهــــداف مشعليها الــخــالص مــن كــل هـذه الثوابت، من نسف الجمهورية بعودة اإلمامة الــزيــدي­ــة شــمــاال نقيضًا لـلـجـمـهـ­وريـة ونسفًا لــلــوحــ­دة بـــعـــود­ة شــبــح االنـــفــ­ـصـــاالت جـنـوبـًا، ومــــــوت الـــديـــ­مـــقـــرا­طـــيـــة، بــنــســف الــجــمــ­هــوريــة والـوحـدة معًا، فال ديمقراطية بال جمهورية وال جــمــهــو­ريــة بـــال وحــــــدة، وال يــمــن حـديـثـًا ومــســتــ­قــال دون هــــذه الــثــالث­ــيــة مـطـلـقـًا. ولـكـن يبقى الهدف املركزي من هذه الحرب إسقاط النظام الجمهوري، باعتبار الجمهورية نواة رئيسية للوحدة والديمقراط­ية معًا، فال وحدة وال ديــمــقــ­راطــيــة دون هــــذا األســــــ­اس الــفــكــ­ري والفلسفي والسياسي ماثال على أرض الواقع، الذي بفضله تحققت كل تلك األهداف األخرى. فالجمهورية اليوم ليست مجرد خيار سياسي ترفي في اليمن، فهي خالصة نضاالت طويلة لـلـيـمـنـ­يـن قـــديـــم­ـــًا وحـــديـــ­ثـــًا. فـالـخـصـو­صـيـة الـيـمـنـي­ـة، فــي مــا يتعلق بـالـجـمـه­ـوريـة، فـكـرة ونـــضـــا­ال وواقــــعـ­ـــًا، تـجـعـل فـــكـــرة الـجـمـهـو­ريـة مقدسة، ألنها تمثل خالصة نضاالت اليمنين الفكرية والسياسية والثقافية قـرونـًا صبت جميعها في بوتقة تحقيق النظام الجمهوري وقيامه، وهو الذي أسدل اليمنيون، بإعالنه، الــســتــ­ار عـلـى عــهــود طـويـلـة مــن ظـلـم اإلمــامــ­ة ولـــصـــو­صـــيـــتـ­ــهـــا شـــــمـــ­ــاال وظــــلـــ­ـم الــســلــ­طــنــات واإلقــطــ­اعــيــات واملــشــي­ــخــات جــنــوبــًا. وبفضل قـــيـــام الـــنـــظ­ـــام الـــجـــم­ـــهـــوري، تــحــقــق­ــت لـلـيـمـن والـيـمـنـ­يـن بـقـيـة األهـــــد­اف الـوطـنـيـ­ة األخـــرى كـالـوحـدة، التي كانت حلمًا يصعب تحقيقه من غير مقدمة النظام الجمهوري، الذي يمثل خـالصـة اإلرادة الوطنية وناظمها املــركــز­ي، وكذلك الديمقراطي­ة بوصفها آلية إلدارة هذه الجمهورية وإدارة التنوع الثقافي والفكري واالجـــتـ­ــمـــاعــ­ـي فـــي الـــيـــم­ـــن. ومـــــن هـــنـــا يـتـأتـى الـحـديـث الــيــوم عــن ثالثية الـثـوابـت الوطنية اليمنية شبه املقدسة دستوريًا، التي بسقوط جـذرهـا الرئيس ومقدمتها كلها، أي النظام الجمهوري، ال يمكن بعدها الحديث عن يمن ديمقراطي موحد أو اتحادي، وال يمكن بعدها حتى الحديث عن هوية يمنية موحدة سيفرط بـــهـــا، بـــاخـــت­ـــراع هــــويـــ­ـاٍت مـــزعـــو­مـــٍة ومـتـخـيـل­ـة إلمـــامــ­ـة زيـــديـــ­ة فـــي شــمــال الــشــمــ­ال، وهــويــات أخـــــــر­ى مــتــخــي­ــلــة ومــصــطــ­نــعــة فــــي الـــجـــن­ـــوب والشرق والوسط. فيدرك املتتبع لتاريخ اليمن جــيــدًا أنـــه ربــمــا لـــم يـتـحـقـق عــلــى مـــدى قـــرون طويلة أن اتسمت كل هذه الجغرافيا املمتدة عبر الـزمـان واملـكـان بمسمى اليمن، املعروف تاريخيًا وتطابق ألول مـرة االســم التاريخي مــع الــداللــ­ة واملـسـمـى السياسي الـقـائـم اليوم إال تحت مظلة الجمهورية اليمنية، في تالق تــاريــخـ­ـي فــــارق ألول مـــرة أن تـتـفـق التسمية التاريخية مـع الجغرافيا السياسية لليمن، كهوية يمنية عابرة للتاريخ. وبالعودة إلى اللحظة الراهنة، وحجم السفه والـطـيـش والتسطيح الـــذي يــقــدم فــي سياق الـــحـــد­يـــث عــــن الــــوضــ­ــع الـــيـــم­ـــنـــي الــــعـــ­ـام وعـــن الــوحــدة واالنــفــ­صــال والـــدولـ­ــة والـجـمـهـ­وريـة، ستجد الـعـجـب الـعـجـاب مــن الـتـفـاهـ­ات التي تـصـدر أنها أفكار سياسية حكيمة ورزينة، وهـــي ال تــعــدو عـــن كــونــهــ­ا تــفــاهــ­ات ال تـرقـى حـتـى لـتـقـديـم­ـهـا وتــصــويـ­ـرهــا كــأفــكــ­ار قابلة لـلـنـقـاش، ألنــهــا تفتقر إلـــى أدنــــى أسـاسـيـات املنطق البراغماتي أو السياسي املجرد، عدا عن املنطق الفكري السليم، الجدير بالنقاش واالحترام، فقد طغت على املشهد لغة الغرائز ونـــقـــا­شـــات مــنــطــق مـــا قــبــل الــــدولـ­ـــة ومــــا قبل الوطنية، فـتـقـدم األمـــور بمنطق العصبيات املذهبية والقبلية املتخيلة، هذه العصبيات مــــا قـــبـــل الـــــدول­ـــــة ومـــــا قـــبـــل الـــوطـــ­نـــيـــة، الــتــي تـجـاوزتـه­ـا الــحــركـ­ـة الـوطـنـيـ­ة اليمنية بـاكـرًا واســتــطـ­ـاعــت أن تـــؤســـس الجــتــمـ­ـاع سياسي يـمـنـي مــتــقــد­م جـــدًا عـــن كـثـيـر مــمــا ســــواه في املنطقة. فمن منطق هـذه الغرائز التي طغت الـــيـــو­م الــحــديـ­ـث عـــن أن جــنــوب الــيــمــ­ن أو ما أطلقت عليه العقلية الكولونيال­ية البريطانية فــــي خــمــســي­ــنــيــات الــــقـــ­ـرن املــــاضـ­ـــي الـــجـــن­ـــوب الــعــربـ­ـي، مــع أن هـــذا الــجــزء الــهــام مــن اليمن تـاريـخـيـًا وهـــو الـــذي بموجبه أطــلــق مسمى اليمن على بقية هذا الجغرافيا، هو باألساس يمنات التاريخية املمتدة من باب اليمن حتى سواحل املكال وحوف، عدا عن أن الجنوب لغة فــي لـغـة الــعــرب املــتــعـ­ـارف عليها هــي اليمن ومنها عرف اليمن باليمن والشام بالشمال، أي يمن الكعبة وشمالها. وعلى منوال هـذا املنطق أيضًا، يأتي منطق الــقــائـ­ـلــن إنـــه يـنـبـغـي أن يـمـضـي اإلخـــــو­ة من أنــــصـــ­ـار املـــجـــ­لـــس االنـــتــ­ـقـــالـــ­ي الـــجـــن­ـــوبـــي فـي مشروع االنفصال وإعالن دولتهم الجنوبية، التي يجري اإلعداد لها بتمويل ودعم خارجي إمـــاراتـ­ــي واضــــح، وصــمــت وتـــغـــا­ض سـعـودي أوضـــــح عـــن هــــذا املـــشـــ­روع االنــفــص­ــالــي الـــذي لـن يـقـوض وحـــدة اليمن فحسب، بـل تماسك جــغــرافـ­ـيــة الـــجـــز­يـــرة الــعــربـ­ـيــة كــلــهــا. فمنطق االنفصال يمكن تكراره بلغة الغرائز نفسها في أي بقعة من أرض الجزيرة العربية كلها اليوم، وال سبيل إليقاف منطق الغرائز هذا إال بالحفاظ على فكرة الدولة الوطنية الحديثة. هــذا املنطق املفتقر إلــى أبسط قـواعـد املنطق السياسي املــجــرد، فـضـال عــن قـــراءة التاريخ وقـــــــر­اءة الــــواقـ­ـــع والـــحـــ­قـــائـــق الــــيـــ­ـوم، سطحي ركــــيـــ­ـك ومــــكـــ­ـشــــوف، تــــمــــ­ولــــه قــــــوى خــلــيــج­ــيــة تــعــتــق­ــد أن تــقــســي­ــم الـــيـــم­ـــن مــــن مـصـلـحـتـ­هـا، ويتغافل أصـحـاب هــذا املنطق الـغـرائـز­ي عن حقائق الــواقــع الــيــوم، وأن غالبية كبيرة من اليمنين رافــضــة هـــذا املـــشـــ­روع، وأنــهــم بهذا املنطق السطحي يقدمون أهم ثوابت الحركة الـوطـنـيـ­ة اليمنية هـديـة عـلـى طـبـق مــن ذهـب ألصـحـاب مـشـروع اإلمـامـة الزيدية الحوثية، الـتـي يـحـاول أصحابها أن يـتـصـدروا مشهد الـــحـــف­ـــاظ عــلــى الـــثـــو­ابـــت الــوطــنـ­ـيــة، وهــــم أول الكافرين بها والذين يرتكز مشروعهم أساسًا على نسف أهم هذه الثوابت الوطنية ونواتها الـــجـــم­ـــهـــوري­ـــة. صــحــيــح أن اإلمــــام­ــــة مــشــروع انفصالي، وهو من سبب هذا االنفصال اليوم على األرض، وأن هزيمته ال تتأتى من بوابة التنكر للوحدة اليمنية، فهذه كانت وال تزال املظلة الشرعية الوحيدة التي ال يمكن هزيمة املــشــرو­ع اإلمــامــ­ي إال مــن خـاللـهـا. فقانونيًا، ال شــرعــيــ­ة ألي مـــن الــنــظــ­امــن الـــســـا­بـــقـــن، ال شماال وال جنوبًا، وال شرعية إال للجمهورية اليمنية، ومن يتمسك بهذه الشرعية وحده من يمكنه االنتصار على مشروع اإلمـامـة. يدرك اليمنيون الــيــوم جـيـدًا أن أهــم أســبــاب إطالة أمـد معركة استعادة الـدولـة وإسـقـاط انقالب جـمـاعـة الــحــوثـ­ـي الـطـائـفـ­يـة، طــــوال الـسـنـوات الــثــمــ­انــي املـــاضــ­ـيـــة، كــــان الـــهـــد­ف مــنــه تفكيك اليمن، وإبقاءه كانتونات متصارعة، يضرب بعضها بـعـضـًا، لـقـد بـنـى بعضهم سـرديـتـه الــخــاصـ­ـة عـــن الــيــمــ­ن وجــمــهــ­وريــتــه ووحـــدتــ­ـه وديمقراطيت­ه بطريقة سطحية تخلو من أي منطق سياسي حصيف وحكيم وبراغماتي. تقول حقائق التاريخ السياسي والواقع اليوم إن اليمن الجمهوري لم يشكل خطرًا على أحد، وإن الخطر الذي هدد الجوار اليمني أتى من مشروع عودة اإلمامة، ال مشروع الجمهورية،

وإن خطر التقسيم والتشظي للمنطقة سيأتي مــن مــشــروع التقسيم لـلـيـمـن، ال مــن مـشـروع وحدته الـذي كان رافــدا ألمن املنطقة العربية واستقرارها كلها، والخليجية تحديدًا، فلم يسجل مطلقًا أي تهديد للخليج منذ صبيحة إعالن قيام الجمهورية اليمنية في 22 مايو/ أيـــار .1990 أمــا يمنيًا، فما ينبغي أن تدركه الــغــالـ­ـبــيــة الــعــظــ­مــى مــــن الــيــمــ­نــيــن، أن يـمـنـًا جمهوريًا موحدًا، كما أرادته إرادتهم الوطنية الـــــحــ­ـــّرة مـــنـــذ تـــأســـس­ـــهـــا وعــــلـــ­ـى مـــــدى تـــاريـــ­خ نضالها الطويل الــذي تحققت من خالله كل هـــذه الــثــواب­ــت الـوطـنـيـ­ة، هــو املــخــرج الوحيد لهم من كل هذه األزمات والحروب والفوضى، وأن الطريق الستعادة إرادتـهـم الوطنية هو السبيل الوحيد الستعادة دولتهم والحفاظ على ثوابتهم الوطنية املقدسة، وأن هذا كله ال يتأتى مـن خــالل اسـتـمـرار النخبة الراهنة في تصدر املشهد، وإنما السبيل بتجاوز كل مــن يتنكر لثوابتهم الوطنية ويتماهي مع كــل املـشـاريـ­ع مــا قـبـل الـوطـنـيـ­ة، وأن أي تخل عـــن أحــــد هــــذه الـــثـــو­ابـــت هـــو تــخــل عـــن الـيـمـن الكبير الـــذي عـرفـنـاه. الجمهورية والـوحـدة والــديــم­ــقــراطــ­يــة ثـــوابـــ­ت وطــنــيــ­ة مــقــدســ­ة عند جل اليمنين، إنهم يدركون اليوم جديًا أنه ال يمكن لإلمامي أن يكون جمهوريًا ووحدويًا وديــــمــ­ــقــــراط­ــــيــــًا، وكــــذلــ­ــك أيــــضـــ­ـًا االنـــفــ­ـصـــالـــ­ي، فــمــشــر­وعــاهــمـ­ـا مــــا قـــبـــل الـــوطـــ­نـــيـــة الــيــمــ­نــيــة، ومـــــا قـــبـــل الـــــدول­ـــــة والـــجـــ­مـــهـــور­يـــة والــــوحـ­ـــدة والديمقراط­ية، وال يستندان إلى أي مشروعية شعبية، بل إلى مشروعية الدم واإلكــراه التي لم يعد لها وجود في عالم اجتماع السياسة اليوم التي أصبحت اإلرادة الوطنية الشعبية الحرة الطريق الوحيد املوصول إليها. ختامًا، وحدة 22 مايو كانت وستظل خالصة نضاالت اليمنين األحرار وحركتهم الوطنية على مــدى عــقــود، ومــن يفكر بالتخلي عنها إنـــمـــا يـتـخـلـى عـــن تـــاريـــ­خـــه ونــــضـــ­ـاالت آبــائــه وأجـــــــ­ـــــداده، وعــــــن أهــــــم مــكـــتــ­ـســـبـــا­ت الــوطــنـ­ـيــة الــيــمــ­نــيــة، لــيــس ثـــمـــة مـــن مـــبـــرر ســيــاســ­ي أو أخـــالقــ­ـي يــمــكــن أن يــجــبــر الــيــمــ­نــيــن عــلــى أن يتخلوا عن وحدتهم التي تمثل رمز وطنيتهم وكرامتهم واستقاللهم وسيادتهم الوطنية.

ليس ثمة من مبرر سياسي أو أخالقي يمكن أن يجبر اليمنيين على أن يتخلوا عن وحدتهم التي تمثل رمز وطنيتهم وكرامتهم واستقاللهم وسيادتهم الوطنية

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar