هذا الجدل في ذكرى الوحدة اليمنية
مـــن بــديــهــيــات الـــقـــول الـــيـــوم أن ثــالثــة أهـــداف رئيسية حققتها الحركة الوطنية اليمنية على مدى سبعة عقود من تاريخ تشكلها، وتحولت إلى ثوابت وطنية شبه «مقدسة» في االجتماع الـــســـيـــاســـي الـــيـــمـــنـــي، ال يـــمـــكـــن املـــــســـــاس أو التفريط بها، تحت أي مبرر، وهي الجمهورية والوحدة والديمقراطية، هذه الثالثية التي عد تحقيقها أهم منجز وطني في رصيد الحركة الــوطــنــيــة والــيــمــن الـــحـــديـــث. وال يـخـفـى على املـتـابـع البسيط، فـضـال عــن غــيــره، أن حــروب التسع سنوات، التي لم تتوقف بعد، كان من أهـــم أهــــداف مشعليها الــخــالص مــن كــل هـذه الثوابت، من نسف الجمهورية بعودة اإلمامة الــزيــديــة شــمــاال نقيضًا لـلـجـمـهـوريـة ونسفًا لــلــوحــدة بـــعـــودة شــبــح االنـــفـــصـــاالت جـنـوبـًا، ومــــــوت الـــديـــمـــقـــراطـــيـــة، بــنــســف الــجــمــهــوريــة والـوحـدة معًا، فال ديمقراطية بال جمهورية وال جــمــهــوريــة بـــال وحــــــدة، وال يــمــن حـديـثـًا ومــســتــقــال دون هــــذه الــثــالثــيــة مـطـلـقـًا. ولـكـن يبقى الهدف املركزي من هذه الحرب إسقاط النظام الجمهوري، باعتبار الجمهورية نواة رئيسية للوحدة والديمقراطية معًا، فال وحدة وال ديــمــقــراطــيــة دون هــــذا األســــــاس الــفــكــري والفلسفي والسياسي ماثال على أرض الواقع، الذي بفضله تحققت كل تلك األهداف األخرى. فالجمهورية اليوم ليست مجرد خيار سياسي ترفي في اليمن، فهي خالصة نضاالت طويلة لـلـيـمـنـيـن قـــديـــمـــًا وحـــديـــثـــًا. فـالـخـصـوصـيـة الـيـمـنـيـة، فــي مــا يتعلق بـالـجـمـهـوريـة، فـكـرة ونـــضـــاال وواقــــعــــًا، تـجـعـل فـــكـــرة الـجـمـهـوريـة مقدسة، ألنها تمثل خالصة نضاالت اليمنين الفكرية والسياسية والثقافية قـرونـًا صبت جميعها في بوتقة تحقيق النظام الجمهوري وقيامه، وهو الذي أسدل اليمنيون، بإعالنه، الــســتــار عـلـى عــهــود طـويـلـة مــن ظـلـم اإلمــامــة ولـــصـــوصـــيـــتـــهـــا شـــــمـــــاال وظــــلــــم الــســلــطــنــات واإلقــطــاعــيــات واملــشــيــخــات جــنــوبــًا. وبفضل قـــيـــام الـــنـــظـــام الـــجـــمـــهـــوري، تــحــقــقــت لـلـيـمـن والـيـمـنـيـن بـقـيـة األهـــــداف الـوطـنـيـة األخـــرى كـالـوحـدة، التي كانت حلمًا يصعب تحقيقه من غير مقدمة النظام الجمهوري، الذي يمثل خـالصـة اإلرادة الوطنية وناظمها املــركــزي، وكذلك الديمقراطية بوصفها آلية إلدارة هذه الجمهورية وإدارة التنوع الثقافي والفكري واالجـــتـــمـــاعـــي فـــي الـــيـــمـــن. ومـــــن هـــنـــا يـتـأتـى الـحـديـث الــيــوم عــن ثالثية الـثـوابـت الوطنية اليمنية شبه املقدسة دستوريًا، التي بسقوط جـذرهـا الرئيس ومقدمتها كلها، أي النظام الجمهوري، ال يمكن بعدها الحديث عن يمن ديمقراطي موحد أو اتحادي، وال يمكن بعدها حتى الحديث عن هوية يمنية موحدة سيفرط بـــهـــا، بـــاخـــتـــراع هــــويــــاٍت مـــزعـــومـــٍة ومـتـخـيـلـة إلمـــامـــة زيـــديـــة فـــي شــمــال الــشــمــال، وهــويــات أخـــــــرى مــتــخــيــلــة ومــصــطــنــعــة فــــي الـــجـــنـــوب والشرق والوسط. فيدرك املتتبع لتاريخ اليمن جــيــدًا أنـــه ربــمــا لـــم يـتـحـقـق عــلــى مـــدى قـــرون طويلة أن اتسمت كل هذه الجغرافيا املمتدة عبر الـزمـان واملـكـان بمسمى اليمن، املعروف تاريخيًا وتطابق ألول مـرة االســم التاريخي مــع الــداللــة واملـسـمـى السياسي الـقـائـم اليوم إال تحت مظلة الجمهورية اليمنية، في تالق تــاريــخــي فــــارق ألول مـــرة أن تـتـفـق التسمية التاريخية مـع الجغرافيا السياسية لليمن، كهوية يمنية عابرة للتاريخ. وبالعودة إلى اللحظة الراهنة، وحجم السفه والـطـيـش والتسطيح الـــذي يــقــدم فــي سياق الـــحـــديـــث عــــن الــــوضــــع الـــيـــمـــنـــي الــــعــــام وعـــن الــوحــدة واالنــفــصــال والـــدولـــة والـجـمـهـوريـة، ستجد الـعـجـب الـعـجـاب مــن الـتـفـاهـات التي تـصـدر أنها أفكار سياسية حكيمة ورزينة، وهـــي ال تــعــدو عـــن كــونــهــا تــفــاهــات ال تـرقـى حـتـى لـتـقـديـمـهـا وتــصــويــرهــا كــأفــكــار قابلة لـلـنـقـاش، ألنــهــا تفتقر إلـــى أدنــــى أسـاسـيـات املنطق البراغماتي أو السياسي املجرد، عدا عن املنطق الفكري السليم، الجدير بالنقاش واالحترام، فقد طغت على املشهد لغة الغرائز ونـــقـــاشـــات مــنــطــق مـــا قــبــل الــــدولــــة ومــــا قبل الوطنية، فـتـقـدم األمـــور بمنطق العصبيات املذهبية والقبلية املتخيلة، هذه العصبيات مــــا قـــبـــل الـــــدولـــــة ومـــــا قـــبـــل الـــوطـــنـــيـــة، الــتــي تـجـاوزتـهـا الــحــركــة الـوطـنـيـة اليمنية بـاكـرًا واســتــطــاعــت أن تـــؤســـس الجــتــمــاع سياسي يـمـنـي مــتــقــدم جـــدًا عـــن كـثـيـر مــمــا ســــواه في املنطقة. فمن منطق هـذه الغرائز التي طغت الـــيـــوم الــحــديــث عـــن أن جــنــوب الــيــمــن أو ما أطلقت عليه العقلية الكولونيالية البريطانية فــــي خــمــســيــنــيــات الــــقــــرن املــــاضــــي الـــجـــنـــوب الــعــربــي، مــع أن هـــذا الــجــزء الــهــام مــن اليمن تـاريـخـيـًا وهـــو الـــذي بموجبه أطــلــق مسمى اليمن على بقية هذا الجغرافيا، هو باألساس يمنات التاريخية املمتدة من باب اليمن حتى سواحل املكال وحوف، عدا عن أن الجنوب لغة فــي لـغـة الــعــرب املــتــعــارف عليها هــي اليمن ومنها عرف اليمن باليمن والشام بالشمال، أي يمن الكعبة وشمالها. وعلى منوال هـذا املنطق أيضًا، يأتي منطق الــقــائــلــن إنـــه يـنـبـغـي أن يـمـضـي اإلخـــــوة من أنــــصــــار املـــجـــلـــس االنـــتـــقـــالـــي الـــجـــنـــوبـــي فـي مشروع االنفصال وإعالن دولتهم الجنوبية، التي يجري اإلعداد لها بتمويل ودعم خارجي إمـــاراتـــي واضــــح، وصــمــت وتـــغـــاض سـعـودي أوضـــــح عـــن هــــذا املـــشـــروع االنــفــصــالــي الـــذي لـن يـقـوض وحـــدة اليمن فحسب، بـل تماسك جــغــرافــيــة الـــجـــزيـــرة الــعــربــيــة كــلــهــا. فمنطق االنفصال يمكن تكراره بلغة الغرائز نفسها في أي بقعة من أرض الجزيرة العربية كلها اليوم، وال سبيل إليقاف منطق الغرائز هذا إال بالحفاظ على فكرة الدولة الوطنية الحديثة. هــذا املنطق املفتقر إلــى أبسط قـواعـد املنطق السياسي املــجــرد، فـضـال عــن قـــراءة التاريخ وقـــــــراءة الــــواقــــع والـــحـــقـــائـــق الــــيــــوم، سطحي ركــــيــــك ومــــكــــشــــوف، تــــمــــولــــه قــــــوى خــلــيــجــيــة تــعــتــقــد أن تــقــســيــم الـــيـــمـــن مــــن مـصـلـحـتـهـا، ويتغافل أصـحـاب هــذا املنطق الـغـرائـزي عن حقائق الــواقــع الــيــوم، وأن غالبية كبيرة من اليمنين رافــضــة هـــذا املـــشـــروع، وأنــهــم بهذا املنطق السطحي يقدمون أهم ثوابت الحركة الـوطـنـيـة اليمنية هـديـة عـلـى طـبـق مــن ذهـب ألصـحـاب مـشـروع اإلمـامـة الزيدية الحوثية، الـتـي يـحـاول أصحابها أن يـتـصـدروا مشهد الـــحـــفـــاظ عــلــى الـــثـــوابـــت الــوطــنــيــة، وهــــم أول الكافرين بها والذين يرتكز مشروعهم أساسًا على نسف أهم هذه الثوابت الوطنية ونواتها الـــجـــمـــهـــوريـــة. صــحــيــح أن اإلمــــامــــة مــشــروع انفصالي، وهو من سبب هذا االنفصال اليوم على األرض، وأن هزيمته ال تتأتى من بوابة التنكر للوحدة اليمنية، فهذه كانت وال تزال املظلة الشرعية الوحيدة التي ال يمكن هزيمة املــشــروع اإلمــامــي إال مــن خـاللـهـا. فقانونيًا، ال شــرعــيــة ألي مـــن الــنــظــامــن الـــســـابـــقـــن، ال شماال وال جنوبًا، وال شرعية إال للجمهورية اليمنية، ومن يتمسك بهذه الشرعية وحده من يمكنه االنتصار على مشروع اإلمـامـة. يدرك اليمنيون الــيــوم جـيـدًا أن أهــم أســبــاب إطالة أمـد معركة استعادة الـدولـة وإسـقـاط انقالب جـمـاعـة الــحــوثــي الـطـائـفـيـة، طــــوال الـسـنـوات الــثــمــانــي املـــاضـــيـــة، كــــان الـــهـــدف مــنــه تفكيك اليمن، وإبقاءه كانتونات متصارعة، يضرب بعضها بـعـضـًا، لـقـد بـنـى بعضهم سـرديـتـه الــخــاصــة عـــن الــيــمــن وجــمــهــوريــتــه ووحـــدتـــه وديمقراطيته بطريقة سطحية تخلو من أي منطق سياسي حصيف وحكيم وبراغماتي. تقول حقائق التاريخ السياسي والواقع اليوم إن اليمن الجمهوري لم يشكل خطرًا على أحد، وإن الخطر الذي هدد الجوار اليمني أتى من مشروع عودة اإلمامة، ال مشروع الجمهورية،
وإن خطر التقسيم والتشظي للمنطقة سيأتي مــن مــشــروع التقسيم لـلـيـمـن، ال مــن مـشـروع وحدته الـذي كان رافــدا ألمن املنطقة العربية واستقرارها كلها، والخليجية تحديدًا، فلم يسجل مطلقًا أي تهديد للخليج منذ صبيحة إعالن قيام الجمهورية اليمنية في 22 مايو/ أيـــار .1990 أمــا يمنيًا، فما ينبغي أن تدركه الــغــالــبــيــة الــعــظــمــى مــــن الــيــمــنــيــن، أن يـمـنـًا جمهوريًا موحدًا، كما أرادته إرادتهم الوطنية الـــــحـــــّرة مـــنـــذ تـــأســـســـهـــا وعــــلــــى مـــــدى تـــاريـــخ نضالها الطويل الــذي تحققت من خالله كل هـــذه الــثــوابــت الـوطـنـيـة، هــو املــخــرج الوحيد لهم من كل هذه األزمات والحروب والفوضى، وأن الطريق الستعادة إرادتـهـم الوطنية هو السبيل الوحيد الستعادة دولتهم والحفاظ على ثوابتهم الوطنية املقدسة، وأن هذا كله ال يتأتى مـن خــالل اسـتـمـرار النخبة الراهنة في تصدر املشهد، وإنما السبيل بتجاوز كل مــن يتنكر لثوابتهم الوطنية ويتماهي مع كــل املـشـاريـع مــا قـبـل الـوطـنـيـة، وأن أي تخل عـــن أحــــد هــــذه الـــثـــوابـــت هـــو تــخــل عـــن الـيـمـن الكبير الـــذي عـرفـنـاه. الجمهورية والـوحـدة والــديــمــقــراطــيــة ثـــوابـــت وطــنــيــة مــقــدســة عند جل اليمنين، إنهم يدركون اليوم جديًا أنه ال يمكن لإلمامي أن يكون جمهوريًا ووحدويًا وديــــمــــقــــراطــــيــــًا، وكــــذلــــك أيــــضــــًا االنـــفـــصـــالـــي، فــمــشــروعــاهــمــا مــــا قـــبـــل الـــوطـــنـــيـــة الــيــمــنــيــة، ومـــــا قـــبـــل الـــــدولـــــة والـــجـــمـــهـــوريـــة والــــوحــــدة والديمقراطية، وال يستندان إلى أي مشروعية شعبية، بل إلى مشروعية الدم واإلكــراه التي لم يعد لها وجود في عالم اجتماع السياسة اليوم التي أصبحت اإلرادة الوطنية الشعبية الحرة الطريق الوحيد املوصول إليها. ختامًا، وحدة 22 مايو كانت وستظل خالصة نضاالت اليمنين األحرار وحركتهم الوطنية على مــدى عــقــود، ومــن يفكر بالتخلي عنها إنـــمـــا يـتـخـلـى عـــن تـــاريـــخـــه ونــــضــــاالت آبــائــه وأجــــــــــــداده، وعــــــن أهــــــم مــكـــتـــســـبـــات الــوطــنــيــة الــيــمــنــيــة، لــيــس ثـــمـــة مـــن مـــبـــرر ســيــاســي أو أخـــالقـــي يــمــكــن أن يــجــبــر الــيــمــنــيــن عــلــى أن يتخلوا عن وحدتهم التي تمثل رمز وطنيتهم وكرامتهم واستقاللهم وسيادتهم الوطنية.
ليس ثمة من مبرر سياسي أو أخالقي يمكن أن يجبر اليمنيين على أن يتخلوا عن وحدتهم التي تمثل رمز وطنيتهم وكرامتهم واستقاللهم وسيادتهم الوطنية