لبنان على أبواب عزلة مالية عن العالم
كشفت مصادر لـ«العربي الجديد» أن دائرة المالحقات الدولية لمتورطين في قضايا فساد ستتسع، خالل الفترة المقبلة، وسط مخاوف من أن يؤدي ذلك إلى عزلة لبنان ماليًا عن العالم
بــــــــدأت تــــكــــر ســـبـــحـــة الـــتـــحـــركـــات الــــدولــــيــــة بـــوجـــه لـــبـــنـــان، وحـــاكـــم مـصـرفـه املـــركـــزي ريــــاض سـامـة، والـبـنـوك املحلية، على وقــع تقاعس فاضح مـن جـانـب السلطات اللبنانية، فـي ماحقة املسؤولني عن أخطر انهيار مالي في تاريخ الــــبــــاد. وانـــضـــمـــت أملـــانـــيـــا، أول مــــن أمــــس، إلـــى فـرنـسـا، بتبليغ لـبـنـان شفهيًا بمذكرة اعتقال حاكم املصرف املركزي رياض سامة بتهم فساد وتـزويـر وتأليف عصابة أشـرار لتبييض األموال واالختاس، على أن تسلك املـــســـار نــفــســه قــريــبــًا دول أوروبــــيــــة أخــــرى، وفــق املتوقع، تتقدمها لوكسمبورغ، وسط معلومات لــ«الـعـربـي الـجـديـد» عـن أن دائــرة اإلجــــــــــراء ات ســتــتــســع لــتــشــمــل رجــــــا؛ شـقـيـق ريـاض سامة، ومساعدته ماريان الحويك، وشخصيات مالية مصرفية عدة.
القائمة الرمادية
وعــلــى وقـــع الــتــحــّرك األملـــانـــي، نقلت وكـالـة رويــــتــــرز، الـــثـــاثـــاء، أنــــه مـــن املـــرجـــح وضــع لــــبــــنــــان عــــلــــى الــــقــــائــــمــــة الـــــرمـــــاديـــــة لــــلــــدول الخاضعة لرقابة خاصة بسبب ممارسات غــيــر مــرضــيــة ملــنــع غــســل األمــــــوال وتـمـويـل اإلرهاب. وسيكون وضع لبنان على القائمة ملجموعة العمل الـدولـيـة «فــاتــف» ومقرها باريس، بمثابة ضربة موجعة لبلد يعاني
من أشـد األزمــات حـدة بـدءًا منذ عـام ،2019 بحسب تقرير البنك الدولي، وربما إحدى أشـــــد األزمــــــــات عـــلـــى مـــســـتـــوى الـــعـــالـــم مـنـذ منتصف القرن التاسع عشر. ورفض لبنان تسليم رياض سامة إلى القضاء الفرنسي، بحجة أنه ال يسلم رعاياه، علمًا أن الحاكم يتمتع أيضًا بالجنسية الفرنسية، وأصبح مـع قضائه فـي مرمى املراقبة الـدولـيـة، في طريقة تعاطيه مـع هـذه الــقــرارات، التي قد تؤثر على عاقاته مع صندوق النقد الدولي والـجـهـات املـانـحـة الـتـي يستجدي دعمها. وعــلــى الــرغــم مــن الــتــحــذيــرات االقـتـصـاديـة لـــخـــطـــورة بـــقـــاء ســـامـــة فـــي مـنـصـبـه حتى يــولــيــو/ تــمــوز املــقــبــل، نـقـديـًا واقــتــصــاديــًا، يـــواصـــل مـجـلـس الــــــوزراء رفـــض اســتــخــدام صــاحــيــتــه بـــإقـــالـــة «الـــحـــاكـــم»، بــعــد قــــراره االثــنــني تـــرك املــلــف بـيـد الـقـضـاء اللبناني، بذريعة الحفاظ على ما تبقى من مؤسسات الدولة، علمًا أن تداعيات الـقـرارات الدولية بحق سامة بدأت تسلك طريقها، منها ما تردد أخيرًا عن اتجاه جدي لبنوك مراسلة لـــقـــطـــع عـــاقـــاتـــهـــا مــــع مــــصــــارف لــبــنــانــيــة، وبــحــســب مــعــلــومــات «الـــعـــربـــي الـــجـــديـــد»، فـقـد أبــلــغ بـنـك أملـــانـــي كـبـيـر بـنـوكـًا محلية بخطوته هذه.
تأييد إطاحة سالمة
يـــؤكـــد وزيــــــر الــــعــــدل الــلــبــنــانــي فــــي حــكــومــة تـصـريـف األعـــمـــال هــنــري خــــوري لــ«الـعـربـي الـــجـــديـــد» أنــــه «مــــن الـــداعـــمـــني الســتــقــالــة أو تنحي أو إزاحـة (إقالة) حاكم البنك املركزي رياض سامة، باعتبار أن األمور ال يمكن أن تستمر على هـذا الشكل، ومصداقية الدولة والــســلــطــة كـــكـــل بـــاتـــت عــلــى املــــحــــك». وشـــدد خــــوري عـلـى أن «الــقــضــاء الـلـبـنـانـي سيقوم بواجباته كــامــا، موضحًا أنــه رفــض وضع الـكـرة فـي ملعب القضاء بعد صــدور مذكرة الــتــوقــيــف الـفـرنـسـيـة بــحــق ســـامـــة، وطــالــب بالتعاطي مع امللف انطاقًا من هذه املذكرة كــي يبنى على أسـاسـهـا املقتضى، وهــو ما أعــلــنــه يـــوم االثـــنـــني عــقــب الــلــقــاء الــتــشــاوري الـــوزاري الـذي عقد في مقر رئاسة الـــوزراء».
وعقد رئيس حكومة تصريف األعمال نجيب ميقاتي لقاء تشاوريًا مع الـــوزراء بعد ظهر االثنني املاضي، بحث ملف سامة، بعد تسلم لـبـنـان مـــذكـــرة مـــن اإلنـــتـــربـــول بـتـوقـيـفـه، إثـر ادعاء القضاء الفرنسي عليه بتهم االختاس وتبييض األموال. وتـــقـــّرر بـعـد االجــتــمــاع، كـمـا ســّربــت أوســـاط وزاريـة، ترك امللف للقضاء كي يأخذ مجراه، مــــع إقــــفــــال الــــبــــاب أمـــــــام إقـــالـــتـــه مــــن جــانــب مجلس الـــوزراء، صاحب الصاحية باتخاذ هــــذا اإلجـــــــراء، وذلـــــك بـــذريـــعـــة الـــحـــفـــاظ على مـؤسـسـات الــدولــة، علمًا أن أصــواتــًا نيابية ووزاريـــة خرجت مطالبة بإقالته أو تنحيه. وقال أحد الوزراء املشاركني في اللقاء (فضل عــدم الكشف عـن اسـمـه) لـ«العربي الجديد» إن «الــلــقــاء خـــصـــص لـبـحـث قـضـيـة ســامــة، واملــذكــرة الــصــادرة بحقه، وتـداعـيـات الـقـرار عــلــى لــبــنــان مـــن الــجــوانــب كـــافـــة، وانـقـسـمـت اآلراء بني مؤيد إلقالته ورافض لها، بالنظر إلــى إيجابيات وسلبيات الخطوة، وحصل بعض البلبلة داخل االجتماع مع من يفضل أن يتنحى بنفسه ويستقيل».
االنعزال عن االقتصاد العالمي
فــــي الـــســـيـــاق، تـــقـــول املـــحـــامـــيـــة فــــي «رابـــطـــة املودعني» دينا أبو زور، لـ«العربي الجديد»، إن وضع لبنان على الائحة الرمادية يعني انعزاله عن االقتصاد العاملي والنظام املالي العاملي والبنوك املراسلة التي يزيد فقدانها الثقة بلبنان، وتـــدرس جديًا قطع عاقاتها مـــعـــه، لــتــصــبــح الـــبـــنـــوك الــلــبــنــانــيــة بـمـثـابـة «زومبي»، ويصبح االعتماد على االقتصاد الــكــاش، وهـــذا كله لــه ارتـــداداتـــه على مجمل عمليات االستيراد والتصدير، بما في ذلك اعتمادات البنزين وغيرها من املواد والسلع الحياتية األساسية. وتلفت أبو زور إلى أن تأثير ما يحصل خطير على اقتصاد ومالية الـــدولـــة وهـــو مــبــاشــر، وســيــزيــد مــن تـدحـرج لبنان نحو االنهيار، وقد أصبحت املصارف الـلـبـنـانـيـة، املـتـوقـفـة أصــــا عـــن الـــدفـــع، أكـثـر مــراقــبــة مــن قـبـل الــبــنــوك املــراســلــة األجنبية الــــتــــي تــــــــدرس مـــلـــفـــاتـــهـــا، مـــــن دون وجـــــود أي مـــــؤشـــــرات تــشــجــيــعــيــة لـــهـــا لـــاســـتـــمـــرار فـــي عــاقــاتــهــا وتــعــامــاتــهــا، وقــــد أتــــى قـــرار مجموعة الـعـمـل الــدولــيــة بـانـتـظـار صـــدوره رسميًا، ليكون بمثابة ضربة موجعة تظهر وتــؤكــد أن لبنان مــاذ آمــن للجرائم املالية. وتشير أبو زور إلى أن االستنابات القضائية ليست خطوة مفاجئة، بل متوقعة، وننتظر أن تـتـسـع رقـعـتـهـا أيــضــًا لـتـصـدر عــن بـلـدان
أوروبـــــيـــــة أخـــــــرى، خـــصـــوصـــا بـــعـــد الــتــهــرب الــلــبــنــانــي الـــفـــاضـــح فــــي مــحــاســبــة ســـامـــة، الــذي بـــدوره يختبئ خلف قناع املظلومية، ويوجه سهامه نحو القاضية الفرنسية أود بوروسي، بجملة اتهامات.
مماطلة السلطة
مــــن جـــانـــبـــهـــا، تـــقـــول الـــبـــاحـــثـــة فــــي الـــقـــانـــون الـــــدولـــــي والــــجــــرائــــم املـــالـــيـــة واالقـــتـــصـــاديـــة مـــحـــاســـن مــــرســــل لـــــ«الــــعــــربــــي الــــجــــديــــد» إن التعاطي بملف سامة أثبت خضوع وخنوع الـــدولـــة الـلـبـنـانـيـة لـعـمـلـيـات الـتـشـبـيـك التي حصلت بــني الطبقة الحاكمة واملصرفيني، ومنهم حاكم البنك املركزي. وتـــشـــيـــر مـــرســـل إلـــــى أن الــــدولــــة الــلــبــنــانــيــة والـــحـــكـــومـــة مــجــتــمــعــة أثـــبـــتـــت املـــــراوغـــــة فـي التعاطي مع ملف سامة، وتواصل تمييعها قضيته رغـــم أنــهــا حــاولــت الــظــهــور بمظهر املـــتـــعـــاون مـــع الـــوفـــد الــقــضــائــي األوروبـــــــي، وطريقة تعاطي لبنان مع القضاء الفرنسي، بــغــض الــنــظــر عـــن الـــــذرائـــــع، ســتــكــون نقطة سوداء في سجله القضائي وكيفية تعاطيه مـع االتفاقيات الـدولـيـة املـوقـع عليها، منها اتفاقية األمم املتحدة ملكافحة الفساد. وتــرى مرسل أن الدولة اللبنانية تحاول أن تـكـسـب الـــوقـــت لــحــني انــتــهــاء واليــــة ســامــة، الذي في مقابلته األخيرة أكد أنه لن يستقيل. وتستغرب مرسل طريقة تعاطي لبنان مع قــضــيــة ســــامــــة، فــحــتــى لــــو رفـــــض تـسـلـيـمـه للقضاء الفرنسي، بحجة أنه ال يسلم رعاياه، لــكــنــه يـبـقـيـه فـــي مــوقــعــه رغــــم كـــل الــــقــــرارات الدولية الـصـادرة بحقه، ورغـم االدعــاء عليه أيـضـا لبنانيا، بتبييض األمــــوال والـتـزويـر واستعمال املزور واالختاس، وهذه وحدها كافية لكف يده. مــن نـاحـيـة ثـانـيـة، تـــرى مـرسـل أن مجموعة الـــعـــمـــل الــــدولــــيــــة تــــــدرس املـــــؤشـــــرات ومــــدى الــتــزام الــدولــة اللبنانية بمعايير املحاسبة واملـــســـاءلـــة الـــتـــي مـــن شــأنــهــا أن تـــــؤدي إلــى مكافحة آفة وجرم غسل األموال، الذي يؤمن مــســاحــة واســـعـــة لــاقــتــصــاد املـــــــوازي، وهــي سبق أن أعطت فترة سماح للدولة اللبنانية ملراقبة مدى التزامها بـاإلجـراءات، ولألسف تــبــني أنــهــا ال تــكــافــح غـسـيـل األمـــــــوال، ال بل غاصت أكثر في االقتصاد الكاش، الذي بلغ بحسب تـقـريـر للبنك الـــدولـــي 9.9 مـلـيـارات دوالر، أي بــحــوالــي نـصـف إجــمــالــي الـنـاتـج املحلي، والـرقـم مـن املتوقع أنـه أصبح أعلى بكثير. وتـــرى مــرســل أن مــن تــداعــيــات إدراج لبنان عـلـى الـائـحـة الــرمــاديــة اتـهـامـه بـأنـه أصبح مــســاحــة لــغــســل األمــــــــوال، ووقـــــف الــتــدفــقــات املــالــيــة الــشــرعــيــة مـــن ودائـــــع واســتــثــمــارات، وارتفاع أخطار تعامل املصارف املراسلة مع تلك املحلية، مـا يعني قطع عـاقـات العديد منها ووقــف التعامل مـع املـصـارف املحلية، عدا عن إقـرار الدولة اللبنانية بأنها عجزت عــن الـقـيـام بـإصـاحـات لـلـخـروج مــن اآلزمـــة، وهـــــذا مــســمــار آخــــر فـــي نــعــش الــتــفــاهــم مع صندوق النقد الدولي. على صعيد متصل، علم «العربي الجديد» أن بنكا أملانيا مــراســا أبـلـغ بنوكا لبنانية بتعذر استمرار العمل معها، علما أنــه كان أقدم عام 2017 على إقفال نحو 10 حسابات مــصــرفــيــة مـــراســـلـــة لـــديـــه تـــخـــص مـــصـــارف لبنانية، وهو يعد من البنوك الكبرى واملهمة جدًا، وله مكتب في بيروت. في السياق هذا، يقول الخبير االقتصادي واملصرفي نسيب غبريل، لـ«العربي الجديد»: «يجب االنتظار وعــــدم اســتــبــاق األمــــور عـلـى صـعـيـد قــــرارات املصارف املراسلة».