Al Araby Al Jadeed

سمير األدباء

- عبد الحكيم حيدر

ال أتحدث عن ذلك السمير الباحث عن بقية ظل من شهرة في املجالسة، سـواء في مقاهي ّبغداد القديمة، حيث املـــروءة والفقر والضحك وتبادل املخطوطات القديمة، وال أتحدث عن بقايا املتسكعني في نهايات املنتديات األدبية في أواخر التسعينيات من القرن املاضي، حيث سيطرت السياسة على املشهد وكـاد أن يموت األدب لوال «جلكوز الجوائز من هنا وهناك»، وأصبح كوب الشاي لفقراء األدب هو الوهم والصبر واملسامرة على كراسي املقاهي الفقيرة، بعدما غــادر الحداثيون إلـى املنافي بحثا عن جنة خضراء، وتحول أغلب الكتاب إلـى مترجمني، وانتشرت فلوس ساويرس للمحكمني والتابعني وتـابـع التابعني كالنار فـي الهشيم. أبحث عـن ذلــك املضروب باملسامرة، ال انتظارا لكونه يبحث عن مكان ما في األدب، وال لكونه يداري قصة أو قصيدة في جيب معطفه وينتظر اللحظة املواتية، وال أبحث عن ذلك «السنيد املوجه» من بقايا األحزاب، بعدما تعفنت وانتهت، وغالبا ينتهي به الحال كمراجع لغوي في بعض الصحف أو القنوات الفضائية لرجال األعمال، أو معد لبعض البرامج الخفيفة هنا أو هناك، والفاشلون منهم بعدما يسوء بهم الحال، يتحول بعض منهم إلى أشباه مخبرين كما كنا نظن ذلـك، أخطأنا أو أصبنا، وال أبحث عن بقايا الـلـواءات، بعدما أحيلوا إلى املعاش، وبعيون نهمة لكتابة مقال هنا أو هناك، حتى وإن ظلت خيوط وبقايا عملهم ممتدة بكتابة التقارير كما كنا نتهامس عنهم سرا، حتى وإن أجادوا املؤانسة والظرف أحيانا، وكانت لهم عشيقات نحسدهم عليهن أو بعض صور قديمة مع شادية في بواكير حياتهم وهي تقف أمام كابينة باإلسكندري­ة، ولكن أتحدث عن ذلك العاشق لألدب، وال يأتيه ذلك الشعور أو الشجاعة بأن يقترب من القلم، ويظل على ذلك األنس الطيب باألدب واألدباء، من دون أن يبحث عن وجاهة، أي وجاهة ما، وكأنه ذلك السيد الهامشي، بالقرب من املسامرة، من دون أن يكون كذلك. شخصيات مخاتلة وطيبة وتـحـب السمر وتـدفـع مـن دمـــاء جيوبها لـشـراء الكتب واملوسوعات وأسطوانات املوسيقى، وغالبا يكون لهم ذلك الباع الطويل في متابعة املوسيقى أو الفن التشكيلي مـن دون مباهاة أو طنطنة مـع فـراسـة طيبة وابتعاد عن الصخب وكأنهم متصوفة سقطوا إلى األمكنة في غير موعدهم تماما. أبحث عن ذلك السمير الوقور الذي ال يزعجك بمفاهيم السياسة املطروحة على األرصفة، ويحدثك بصوت هادئ عن صوت نعيمة سميح، أو طليقة املطرب محمد عبد املطلب، التي سافرت إلى العراق قديما، وأتقنت اللهجة العراقية كأهلها، وتزوجت هناك ملحنا سمحا، وكأنها شربت من طمي دجلة والفرات، أبحث عن ذلك السمير الطيب لألدباء، والـــذي يدخل معرض الكتاب هادئا بتذكرة مشتراة مع الجمهور، ويخرج محمال بالكتب وال ينتبه له أي من طواويس األدب أو الشعراء، رغم أنه يقرأ الجميع في سماحة املحب ويعود إلى مطبعته أو عيادته القديمة في حي معروف، ويكلمك في أدب عن روعة ترجمات سامي الدروبي أو ألحان محمود الشريف املنسية جدا. أحيانا تراه في مشرب يجلس هادئا مع جريدة أو كتاب، فيكتفي بإشارة جميلة وابتسامة مترعة باللطف والحنان. وفي خروجه يعيد عليك تلك االبتسامة مرة أخرى، مع إشارة بسيطة بالوداع، وقد ال تراه إال بعد سنوات في الرضا والعذوبة نفسيهما، وكأن السنوات ال مرت وال كرت وال الحروب اشتعلت هنا أو هناك، وكأنه خرج توا من «ألف ليلة وليلة» بعدما تجول سنوات وحيدا في شوارع بغداد القديمة أو الهند أو البصرة، وكأن اسمه

ٍّ يشبه اسم عابد املري، ذلك االسم الذي اخترعته اختراعا وجعلت منه وراقا، وجعلت منه صديقا «للمبرد» أو «علي اللقاني» صاحب «الطبقات»، فهل كان اللقاني بالفعل هو «صاحب الطبقات»، وهل صادق املبرد أحدا له عشق بمسامرة األدباء؟ وهل األدباء بالفعل لهم شفقة ومودة بمن يسامرهم؟ أم كل الناس عندهم بمثابة بطانة لينة فقط، كالقارئ أو الناشر أو جماهير معرض الكتاب أو بائع الجريدة ... إلخ. هل انتهي ذلك السمير وشعر باليتم في العالم فتوارى عن الدنيا مكتفيا بأفراحه بعيدا عما يـحـدث، خصوصا أن الـحـروب اشتعلت فـي جنبات الـعـالـم، فاختار أن يمشي هادئا بجوار الحوائط، راضيا بقسمة األيام وحالوة األدب.

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar