الشيوعي األخير في األردن

كانت الخمسينيات ذروة صعود الحزب الشيوعي في األردن. آنذاك تشكل وانتشر وبنى سمعته املدوية بمعارضته حلف بغداد. ولم يكن غريبًا والحال هذه أن يستهدف وأن يالحق أعضاؤه. ورغم ذلك، نجح الحزب في تلك الحقبة بإيصال اثنني من أبرز قادته التاريخيني إلى مقاعد مجلس النواب :)1956( يعقوب زيادين عن القدس، رغم أنه من مدينة الكرك أصال، وفائق وراد عن رام الله. بعد سبعة عقود أو يزيد قليال على تشكل الـحـزب، ينتخب سعود قبيالت أمينًا عامًا له، والزمن غير الزمن، واملشاغل غيرها بالضرورة، فالحزب لم يعد محظورًا منذ سـنـوات، ولـم تعد واليته التنظيمية تشمل األراضـــي الفلسطينية، ومرجعيته الكبرى االتحاد السوفييتي انـهـارت، وتحولت موسكو أو تكاد إلـى قلعة للكنيسة األرثوذكسية، بل إن اليسار كله في العالم تراجع، حتى أصبح فولكلورًا وذكريات تروى، ومصدرًا للتفكه إذا شئت. وفي املنطقة، لم يتراجع اليسار وحسب، بل ارتمى كثيرون من ناسه في أحضان أكثر الحركات يمينية في البلدان العربية، فـإذا هو وأعضاؤه مناطقيون، قبائليون، طائفيون، ومؤيدون ألكثر األنظمة العربية دموية وديكتاتورية. مـا عالقة الكاتب األردنـــي سعود قبيالت بـذلـك؟ جــاء إلــى السياسة من الثقافة أو األدب بشكل رئيسي، مع تأثيرات غير مباشرة للمد الشيوعي، فقد تعرف في يفاعته إلى كتابات نجيب محفوظ ومحمود أمني العالم في الوقت نفسه. وهو، أي قبيالت، كاتب قصة قصيرة مبدع، ولو تفرغ لكتاباته األدبية ألصبح أبرز كتاب األردن. لكن ابن مليح، وهي قرية صغيرة في مأدبا تضم عدة أماكن مسيحية مقدسة مثل املغطس وجبل نبو الذي أطل من فوقه سيدنا موسى عليه السالم على فلسطني، لم يجد وقتًا آنذاك للتفرغ للكتابة األدبية، فقد اعتقل وهو طالب في الجامعة األردنـيـة عـام 1979 لقيادته تظاهرة ضد اتفاقية كامب ديفيد، واقتيد إلـى سجن املحطة (أزيل الحقًا) حيث قضى خمس سنوات، ومذ ذاك صودر جواز سفره ومنع من السفر حتى مطلع تسعينيات القرن املاضي، بعد قرار العاهل األردنـي الراحل امللك حسني بإلغاء األحكام العرفية واستئناف العمل البرملاني في البالد. خالل ذلك، لم يعرف إنتاج أدبي للرجل سوى مجموعته القصصية األولى «في البدء ثم في البدء أيضًا» التي صدرت عام ،1984 وكانت كافية ليتبوأ مكانًا ومكانة كبيرة في تاريخ النثر األردنـي، فقد كان حضور قبيالت حييًا أو لنقل متأثرًا بحقبة العمل السري، حيث عليه أن يختبئ ويتخفى ليتجنب املالحقة األمنية، وكانت شـديـدة، وانتهت متسامحة مع الشيوعيني وغيرهم. وأظـــن أن وصــف الشيوعي األخــيــر ينطبق على سـعـود قبيالت أكـثـر مــن سعدي يوسف، بل ربما يصبح قبيالت آخر شيوعي في األردن باملعنى التقليدي للشيوعية، فهو أقرب إلى األدب منه إلى السياسة، رغم انهماكه في الشؤون السياسية داخل البالد وخارجها، فقد أصدر في العقد األول من هذا القرن عدة مجموعات قصصية، بعضها يتمتع بسوية فنية رفيعة، وتـرأس رابطة الكتاب األردنيني، قبل أن ينكفئ على نفسه ثانية ويعود إلى مخبئه، ولنقل حصنه األول ومسقط رأسه، مليح، التي استقبل فيها، وتحديدًا في دارة عشيرته (القبيالت)، بحسب وصـف أحـد املواقع اإللكترونية، املهنئني بانتخابه أمينًا عامًا للحزب الشيوعي. هل هو مناطقي وقبائلي؟ إذا كنت تعرفه فستعتبر السؤال اتهامًا وإهانة، فهؤالء هم أهله وناسه الذين انطلق من بينهم، وليسوا مرجعيته األيديولوجية أو السياسية. ويحسب له وللحزب الذي يترأسه أنهما سارعا، في أول بيان للحزب بعد انتخابه، إلى التنديد بمنع السلطات ترخيص حزب «الشراكة واإلنقاذ» ذي املرجعية اإلسالمية. وتكشف مقاالته التي كتبها في السنوات األولى لثورات الربيع العربي عن ديمقراطيته األصيلة وانحيازه لحق الشعوب في تقرير مصيرها، لكن هذا لألسف لم ينطبق على النظام السوري الذي ما انفك سعود قبيالت يكيل له املدائح، وآن للشيوعي األخير أن يقر بذلك ويعترف.