Al Araby Al Jadeed

موت النظام العربي

- سمير الزبن

منذ والدتـــه، صبغت الصفة القومية النظام العربي، وهي سمة تميزه عن النظم اإلقليمية األخـــــر­ى، وجـعـلـتـه يـتـمـتـع بــدرجــة عـالـيـة من التماسك الثقافي واللغوي واالجتماعي، كان من املفترض لهذه السمات أن تمنحه تماسكًا سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا. لكن التناقض بني سلطات الدول العربية وما يمكن أن يبنى عليه، جعل النظام العربي إطارًا شكليًا أخفى صراعات وصلت إلى صدامات مسلحة، وإذا قورن بتجمعات أخرى ال جامع لغويًا بينها، وال تــقــارب اجـتـمـاعـ­يـًا، نـجـد أنـهـا استطاعت إنـجـاز تـقـدم على صعيد التعاون السياسي واالقـتـصـ­ادي الــذي ال يـقـارن بما وصلت إلى الـــعـــا­قـــات الــعــربـ­ـيــة ـ الــعــربـ­ـيــة مـــن صـــراعـــ­ات أوصلت الواقع العربي الجماعي إلى نوع من انحال العاقة. وعقد القمم العربية ال يجعل هـذه الـصـورة أفضل، خصوصًا أن املواطنني الــعــرب قــد فــقــدوا األمــــل بــهــذه املــؤســس­ــة منذ عقود. السمات العامة املشتركة التي تتمتع بها كل الــدول العربية ال تمنع وجـود سمات جهوية ووطنية خاصة تميز بعض بلدانها، لكن هــذه السمات تعمل على إثـــراء االنتماء، ال عـــلـــى إضـــعـــا­فـــه. وقـــــد تـــتـــوا­فـــر بـــعـــض هـــذه الـسـمـات فــي نـظـم أخـــرى بـــدرجـــ­ات مـتـفـاوتـ­ة، ولـــكـــن­ـــهـــا بـــالـــت­ـــأكـــيـ­ــد ال تــــوجـــ­ـد فــــي أي نــظــام بالدرجة نفسها التي تتوافر بها في النظام العربي، ومنذ حـداثـة والدتـــه، وحـداثـة والدة أطــرافــه، حيث ال يمكن الحديث عـن نـظـام إال بوجود أطراف مستقلة تعمل داخله. إال أنها تاريخيًا تميزت بشبكة معقدة من التنظيمات الـــحـــك­ـــومـــيـ­ــة والـــشـــ­عـــبـــيـ­ــة الـــســـي­ـــاســـيـ­ــة وغـــيـــر الـسـيـاسـ­يـة. ومـــن بــني تـلـك املـنـظـمـ­ات جامعة الـــدول العربية الـتـي حملت منذ والدتــهــ­ا ما عــانــى مـنـه الــنــظــ­ام الــعــربـ­ـي بـاعـتـبـا­رهـا رمــزًا للنظام. ومــن هـنـا، جمع الـنـظـام الـعـربـي بني سمتي القومية واإلقليمية. ويمثل هذا الجمع إطـارًا مفيدًا لفهم شبكة العاقات املعقدة في املنطقة، الـتـي تتم أحـيـانـًا بشكل رسـمـي بني حكومات تتنازع وتتصارع ويشكو بعضها بعضًا إلـى الهيئات الدولية، وأحيانًا أخرى بـــشـــكـ­ــل غـــيـــر رســـمـــي عـــلـــى مـــســـتـ­ــوى شــعــوب لــهــا املـــشـــ­اعـــر والــتــطـ­ـلــعــات واآلمـــــ­ــال نـفـسـهـا، وهـــنـــا­ك قــــوى وتــــيـــ­ـارات تــجــد مـصـالـحـه­ـا في تشجيع السيادات القطرية، وأخـرى تؤكد أن ال مستقبل حقيقيًا لـنـا جميعًا إال فــي إطــار الــوحــدة الـعـربـيـ­ة. فعلى مستوى الحكومات وتــفــاعـ­ـاتــهــا، يــشــكــل الـــنـــظ­ـــام الـــعـــر­بـــي إطــــارًا تفاعليًا مميزًا بني الدول العربية، يفترض أنه يتسم بنمطية وكثافة التفاعات بما يجعل التغيير فـي جــزء منه يؤثر فـي بقية األجــزاء (وهــذا ما عرفناه بوضوح مع ثــورات الربيع الـعـربـي الـتـي هـــزت املـنـطـقـ­ة)، وبـمـا يـــؤدي أن يحمل ضمنًا داخليًا وخارجيًا بهذا النظام كنمط مميز. ثنائية النظام العربي تميزه عن غيره من األنظمة اإلقليمية، لكونه نظامني في الوقت ذاته، أحدهما نظام دوالني، وثانيهما نظام مجتمعي عربي ينبثق من وجود هوية أصلية. لذلك ال يمكن إقامة نظام جماعي في املنطقة يتجاوز هويتها. إذ إن الهوية األصلية ال تتأسس على مفاوضات وال تنتهي بتغيير بــنــيــة الـــقـــو­ى فـــي نـــظـــام مــعــني وتـــحـــو­لـــه إلــى نظام آخر. فإن التجمعات التي طرحت بدائل

للمنطقة، ال تستطيع إلغاء هـذه الهوية، وال أن تقيم بـديـا منها فـي شكل انـتـمـاء ثقافي حــضــاري مــزيــف. فـالـتـجـم­ـعـات الـبـديـلـ­ة التي طــــرحـــ­ـت، هــــي صــيــغــة لـــتـــجـ­ــاوز هـــــذه الــهــويـ­ـة الـقـومـيـ­ة، وصياغتها على أســس مصلحية، تربط بني الدول املتجاورة بعيدًا عن هويتها القومية، وفي مواجهة هذه الهوية. فـــالـــص­ـــفـــة الــــقـــ­ـومــــيــ­ــة ال يـــمـــكـ­ــن نــــكــــ­رانــــهــ­ــا أو تجاوزها بالنسبة إلى النظام العربي، ولكن هــــذه الــصــفــ­ة ال تـعـنـي بـــالـــض­ـــرورة أن يـكـون أداء النظام أكثر تماسكًا، سعيًا وراء أهداف موحدة. أو أن تعمل هذه الصفة على تخفيف حـــدة الــخــافـ­ـات بــني أطــــراف الــنــظــ­ام، الـتـزامـًا باالنتماء الواحد. على العكس من ذلـك، فقد عملت هذه الصفة، في ظل مفاهيم الوصاية الـــــتــ­ـــي ســـــــــ­ادت عــــنــــ­د بــــعــــ­ض األنــــظـ­ـــمــــة الـــتـــي اعتبرت نفسها حامية القومية إلــى تفتيت هـــذا الــنــظــ­ام، وزجـــــه فـــي صـــراعـــ­ات مـتـنـوعـة، فــالــقــ­ومــيــة الـــعـــر­بـــيـــة، تــــيــــ­ارًا فـــكـــري­ـــًا، وحـــركـــ­ة سـيـاسـيـة، عــاصــرت فــتــرات مــن املـــد والــجــزر، ولكنها بقيت دائمًا منذ تبلورها كقوة كامنة تـــصـــار­ع واقــــع الــتــجــ­زئــة الــقــائـ­ـم عــلــى أســـاس دويـات قطرية. وهذا الصراع بني تلك القوة الكامنة وواقــع التجزئة السائد، الـذي حاول تـكـريـس نفسه مــن خـــال مـفـهـومـي الـسـيـادة واملــســا­واة املعترف بهما لـلـدول فـي القانون الدولي، يزيد من حدة التوترات داخل النظام دون أن ينفي وجوده. أي إن النظام العربي... نظام إقليمي قومي، ألنه يتميز بوجود نمط خاص من التفاعات بني عناصره، ولو كان الطابع الصراعي لهذه التفاعات غالبًا على طابعها الـتـعـاون­ـي. ومــن هنا يشكل النظام الــعــربـ­ـي شـبـكـة مــعــقــد­ة مــن الــتــفــ­اعــات تؤثر تـــأثـــي­ـــرًا عـمـيـقـًا وبـــاتـــ­جـــاهـــا­ت مــتــبــا­يــنــة على كــل طـــرف مــن أطـــرافــ­ـه. وتــفــرض هـــذه الشبكة املعقدة من التفاعات على أطراف النظام في حاالت معينة أن تأخذ باالعتبار في قرارها الداخلي هذه االعتبارات، التي تصبح إطارًا عامًا يصعب تجاهله عند وضع السياسات والقرارات الداخلية والخارجية. فعالية أي نظام ترتبط بالتوجهات التكاملية التي يسعى لتحقيقها، وإنجازاته محكومة بالتوجه القصدي ملجموعة من الــدول لبناء روابط وثيقة فيما بينها، انطاقًا من شعور مشترك بمهمة أو مسؤولية مـتـبـادلـ­ة حيال إنجاز ما في املجاالت األمنية أو الثقافية أو االقتصادية أو كلها معًا. ليس النظام العربي حــاصــا لـجـمـع الـخـصـائـ­ص الــداخــل­ــيــة لنظم الــحــكــ­م فـــي الـــبـــا­د الــتــي تــشــكــل هــــذا الــنــظــ­ام، فـهـنـاك آلــيــات خـاصـة تنشأ بـمـجـرد اجتماع عدد معني من الدول على تشكيل رابطة في ما بينها، وهـذه اآلليات مستقلة إلى حد ما عن األسس االجتماعية والطبقية واأليديولو­جية لـلـنـظـم الـــداخــ­ـلـــيـــة فـــي هــــذه الـــــــد­ول. والــنــظـ­ـام العربي تشكل وتطور تحت تأثير طائفة من الـتـحـوال­ت األيديولوج­ية املميزة لنظم حكم مــعــيــن­ــة، عــلــى أن هــــذا الــتــأثـ­ـيــر ظــــل هـامـشـيـًا إلـــى حــد مـــا، ومــحــصــ­ورًا بمجمل الـتـمـايـ­زات األيديولوج­ية التي يدفع إليها العصر نفسه أو ذاتــــيــ­ــة الـــتـــف­ـــاعـــات اإلقــلــي­ــمــيــة فــــي ســيــاق دولــــــي بــعــيــن­ــه. وظـــــل الـــنـــظ­ـــام الـــعـــر­بـــي طــــوال تاريخه يعترف ضمنًا بالتعددية السياسية واأليـــــ­ديـــــولـ­ــــوجــــ­ـيـــــة الــــتـــ­ـي مـــــيـــ­ــزت الـــخـــر­يـــطـــة السياسية العربية الفعلية منذ نشأة النظام. وإذا كــــان هــــذا الـــنـــظ­ـــام يــعــتــر­ف بــالــتــ­عــدديــة السياسية على املـسـتـوى الـرسـمـي، فــإن هذا االعتراف قام لتبرير التحلل من االلتزام الذي يخدم االتجاهات األخــرى، خصوصًا في ظل الصيغة غير امللزمة التي صاغها النظام في إطـــــاره املـــؤســ­ـســـي. وهــــي مـــا ســاهــم فـــي شلل النظام في ظل االنقسامات التي سادت ردحًا طويا من عمر النظام. ولكنها في املقابل على املستوى غير الرسمي، أفرزت أشكاال متعددة مــن الــتــفــ­اعــات، الــتــي يـصـعـب قـيـاسـهـا لعدم تمظهرها بشكل مؤسسي أغلب األحيان. الــيــوم، وفــي ظـل حـالـة الضعف الـشـامـل التي تــعــانــ­ي مــنــهــا املــنــطـ­ـقــة، نـسـتـطـيـ­ع الـــقـــو­ل إن الـنـظـام الـعـربـي قــد مـــات، رغـــم كــل املــحــاو­الت الرسمية الفاشلة في إنعاش جثته الهامدة.

نستطيع القول إن النظام العربي مات، رغم كل المحاوالت الرسمية الفاشلة في إنعاش جثته الهامدة

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar