Al Araby Al Jadeed

نحن ال نكبُر نحن نستشهد

- حلمي األسمر

يــبــدو الــحــديـ­ـث عـــن «نـــصـــر» مـــا فـــي فلسطني هـــذه األيــــام مستهجنا وكــأنــه خــــارج الـنـص، فالنظرة األولـــى على الــصــورة تعكس واقعا شـــديـــد اإليــــــ­ام. وحـــتـــى لـــو غــــاص أحـــدنـــ­ا في الــتــفــ­اصــيــل أكـــثـــر ملـــا عــــاد إال بــكــومــ­ة دمــــوع، وتــنــهــ­يــدات وفـــيـــر­ة، وزفـــــرا­ت حـــارقـــ­ة، ولــكــن .. لكل صـــورة وجـهـهـا اآلخـــر، والـبـحـث عـن هذا الــــوجــ­ــه واجـــــــ­ب كــــي يــــتــــ­وازن املـــــــ­رء، وال يـفـقـد الـــقـــد­رة عـلـى األمــــل أوال، وثــانــيـ­ـا كــي يستمد مـــن هــــذا الـــوجـــ­ه «اآلخــــــ­ر» الـــقـــد­رة عــلــى شحذ الهمة، وإشاعة الحماس لتعظيم املوجب في مواجهة السالب. ما هو مؤلم في املشهد العام كثير، ومـنـه مـا هـو مضحك حــد الـبـكـاء، مثل تغني بعض مــن يسمونهم «مـحـلـلـني، ال بل محرمني» سياسيني، بالنجاح الباهر الـذي حققته قضية فلسطني فــي قـمـة جــــدة، حيث تبوأت قائمة «قرارات» القمة، وما هي بقرارات أصـــــا، بـــل «صـــــف كـــــام» ال يــحــمــل أي داللـــة عملية، وإال ما معنى وصف قضية فلسطني بأنها «مركزية» بالنسبة للعرب، وهي تحمل هــذا الــوصــف منذ قـــرن؟ ومــا معنى أن تدعو الـــــدول (بـعـضـهـا تــســمــي نـفـسـهـا عــظــمــى) ما تـسـمـيـه «املـجـتـمـ­ع الـــدولــ­ـي» لـحـمـايـة الشعب الفلسطيني؟ تـرى أين أنتم من هذه الحماية

أصــــا؟ بــل هــل يمكنكم حـمـايـة أنـفـسـكـم قبل حـمـايـة غـيـركـم؟ األنــكــى مــن كــل هـــذه األسئلة اعـــتـــب­ـــار قــضــيــة فــلــســط­ــني بــالــنــ­ســبــة لــلــعــر­ب «مـــركـــز­يـــة» بـمـعـنـى آخــــر، مــضــمــر فـــي نـفـوس أصحاب القرار، مختبئ في تفاصيل طبيعة تـعـامـل تـلـك الــــدول مـعـهـا عـلـى مــــدار الـعـقـود، حيث ال ترى في الواقع غير «مركزيتها» في التآمر والــخــذا­لن والتخريب، وإعـانـة املحتل على اإليــغــا­ل فــي احـتـالـه والــشــد على يديه، وهــــو يــرتــكــ­ب جــرائــمـ­ـه املــتــوا­لــيــة فـــي األرض والـــعـــ­رض والــشــجـ­ـر والــحــجـ­ـر والــبــشـ­ـر؛ فهي، بـــهـــذا املـــعـــ­نـــى، فـــعـــا «مــــركـــ­ـزيــــة» بــــا مـــنـــاز­ع، مركزية في تصنيف كل من يتعاطف معها في قائمة «اإلرهابيني»، فما بالك بمن يفكر مجرد تـفـكـيـر بــمــدهــ­ا بــالــســ­اح أو جـمـع املـــــال، وقـد أغلقوا (جماعة القمة ما غيرهم) كل مصادر تمويل حركات املقاومة، والحقوا من يتعاطف معها أبـشـع مـاحـقـة؟ نعم بـهـذا املعنى فهي مركزية با منازع! أما من يفترض أنهم أهل «الفقيد» فا يقلون شراسة عن نهش لحمه، والتمثيل بجثته، واملتاجرة بدمه، فختيارية رام الله سـاروا في ما سار فيه أهل القمة من دعوات فارغة إلى حماية الشعب الفلسطيني، وهــم مـن قتلوه وصلبوه، رغــم أنــه شبه لهم، فهو شعٌب حـٌّي لم يمت. وهنا تحديدا يأتي دور الحديث عن «بشائر النصر» التي بدأت تـــهـــل عــلــى األرض املـــبـــ­اركـــة مــنــذ وقــــت ليس قليا، وإن كانت محض بشائر، فالنصر لم يزل بعيدا، ألن له استحقاقات وثمنا باهظا ال بد من دفعه. الجميل في املشهد اإلجمالي هنا أن الفلسطيني كان في ما مضى، إذا آمله العدو املحتل اإلرهابي، يصرخ «أين العرب؟» وهذه نغمة انقرضت منذ زمن بعيد، فقد أدرك أنه كلما نـاداهـم جــاؤوه بـخـذالن جديد، أو تآمر أشـــد مــضــاء مـمـا قـبـلـه، فـكـف عــن االستنجاد بمن ال ينجد، بـل ينجد سلبا! تسأل مذيعة فــتــى فـلـسـطـيـ­نـيـا فـــي ســــن «املــــراه­ــــقــــة»: مـــاذا تريد أن تصبح عندما تكبر؟ فيأتي الجواب الـــــذي ال يـخـطـر بـــبـــال أحـــــد: احـــنـــا مـــا بـنـكـبـر، احـنـا بنستشهد!. ... وهـــذا هــو الــســاح الــذي إن امتلكه شعٌب ال يـهـزم أبـــدا، ولــو ّاجتمعت عليه كـل قــوى األرض، بإنسها وجـنـهـا، فمن طـلـب املـــوت وهــبــت لــه الــحــيــ­اة، وتــلــك ظــاهــرة جـــديـــد­ة فـــي املــشــهـ­ـد الـفـلـسـط­ـيـنـي، وال يعني هذا أنها بنت سنة أو سنوات قليلة، فقد قدم الفلسطينيو­ن ما يقارب املليون شهيد أو أكثر منذ بدأ الزحف اإلرهابي على بلدهم قبل نحو قرن. ولكن الجديد هنا أن تصبح الشهادة هي «التعليم العالي» الذي يحلم به فتية فلسطني ومراهقوها وشبابها، وهذا هو الجيل الرابع أو الـخـامـس مــن أجــيــال فلسطني، ممن راهــن عليهم قـــادة الـصـهـايـ­نـة أن يـنـسـوا قضيتهم حني قالوا: الكبار يموتون والصغار ينسون، فالكبار حملوا األمانة وسلموها ملن تاهم، وقـــدمـــ­وا مــا اســتــطــ­اعــوا تـقـديـمـه، و«خـــمـــرو­ا» فــي نــفــوس األبـــنــ­ـاء واألحـــفـ­ــاد حـــب الــشــهــ­ادة، وأبدعت األجيال التالية حني تحولت الشهادة إلى ثقافة شعبية، تسري دماؤها في نفوس الــصــغــ­ار قـبـل الــكــبــ­ار. انــظــر كـيـف تـحـمـل األم ابنها الشهيد، وتزفه بالزغاريد وكأنه ذاهب

إلــى عـرسـه، وانـظـر إلــى أصـحـاب البيت الـذي هـدمـه القتلة وهـــم يـقـولـون فــي كـلـمـات تشق طريقها بــني الــدمــوع ومـشـاعـر األلـــم املـمـض: كله فــداء لفلسطني وللمقاومة. ألعـتـرف هنا وأنـــا أحـــد مــن اكــتــووا بـنـار النكبة والنكسة، وما بينهما وما تاهما، بأنني أشعر بالفخر املمزوج بالدهشة مما أرى وأسمع، ففلسطني الـيـوم غــدت ورشـــة إلنـتـاج البطولة، بشيبها وشــبــابـ­ـهــا وأطـــفـــ­الـــهـــا، بــرجــالـ­ـهــا ونــســائـ­ـهــا، هـــو شــعــٌب شــــّب عـــن طــــوق الــهــزيـ­ـمــة، ووفــــرت لـه جـرعـات الـخـذالن والتآمر مـن األخ القريب والبطش والظلم مـن الـعـدو الغضيب مناعة ضـــد االســـتــ­ـســـام أو «رفــــع الـــرايــ­ـة الـبـيـضـا­ء» التي يتمنى رؤيتها كا طرفي الكماشة التي وقعت بينهما. شـــيـــوع ثــقــافــ­ة الـــشـــه­ـــادة فـــي فــلــســط­ــني، على النحو الذي نراه اليوم، كما يشيع حب أهلها تــنــاول الـخـبـز الــبــلــ­دي بــالــزيـ­ـت والــزعــت­ــر، هو مــا سيقلب املــعــاد­لــة، ويـحـبـط كــل مخططات العدو قريبا وبعيدا، ويحرر األرض ولو بعد حـــني. نـحـن ال نـكـبـر نـحـن نستشهد، ألـــم تكن تلك العقيدة هي ما قـادت الثائر الليبي عمر املختار إلى النصر حني قال: نحن ال نستسلم، ننتصر أو نستشهد؟ وما بني املقولتني حبل سري أنى له أن ينقطع في أمة خلقت لتبقى؟

كان الفلسطيني في ما مضى إذا آلمه العدو المحتّل اإلرهابي يصرخ «أين العرب؟»، وهذه نغمة انقرضت منذ زمن بعيد

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar