Al Araby Al Jadeed

االنتخابات الرئاسية بين المنظومتين التركية والمصرية

- تقادم الخطيب

نسبة املشاركة العالية التي تقارب %88 في االنتخابات التركية، أبـهـرت الـعـالـم، خصوم النظام الحالي قبل حلفائه، ولم يشاهد مثلها في أعتى الديمقراطي­ات في العالم. كـان هذا املشهد االنتخابي الفريد في طــرازه مناسبة لــتــذكــ­ر االنــتــخ­ــابــات الــديــمـ­ـقــراطــي­ــة الــوحــيـ­ـدة التي جــرت فـي مصر فـي 2012 وكـانـت نسبة املــشــار­كــة فـيـهـا عــالــيــ­ة بـــصـــور­ة جـــديـــد­ة علي مــصــر %51,8( فـــي الـــجـــو­لـــة الـــثـــا­نـــيـــة)، وهــي املّرة األولى والوحيدة في تاريخها الحديث، الــــذي شــهــدت فـيـهـا مــصــر هــــذه الـــحـــا­لـــة. كــان املـشـهـد الـديـمـقـ­راطـي الــتــركـ­ـي مـنـاسـبـة لعقد مـقـارنـة بــني تــاريــخ االنـتـخـا­بـات فــي البلدين وطــرح ســؤال مهم: ملــاذا لم يــزور العسكريون األتـــراك االنـتـخـا­بـات على طريقة العسكريني املـصـريـن­ي. كانت تركيا دائـمـًا مـا تقوم بعمل

ّّ انــتــخــ­ابــات حــــرة ونــزيــهـ­ـة، فـتـأتـي بــرئــيــ­س ال ترغب فيه املؤسسة العسكرية فتنقلب عليه. عــــدم تــــــورط الــعــســ­كــريــني األتــــــ­ـراك فـــي عملية تزوير االنتخابات أبقى على حيوية العملية االنـتـخـا­بـيـة وأهـمـيـتـ­هـا بـوصـفـهـا أداة مهمة وفعالة للتغيير واملواجهة السياسية، كذلك فإنه لم ينشر ثقافة التزوير بني دوائر الدولة وأجهزتها املختلفة. ومن هنا، أبقى على أداة مهمة من أدوات التغيير السلمي، بل حافظ عليها ودعمها. على أن الحفاظ على العملية االنتخابية لم يكن مقتصرًا على الرئاسة، بل على املحليات التي لعبت دورًا مهمًا فيما بعد فــي صــعــود نـجـم الـرئـيـس الـحـالـي أردوغـــــ­ان، وحزبه عند فوزهم في انتخاب املحليات في إسطنبول وتكوين قاعدة شعبية وجماهيرية واســعــة. عــدم تـــورط املـؤسـسـة العسكرية في تـزويـر االنتخابات أو االنــخــر­اط فـي أي نمط أو ممارسة من هـذا النوع أبقى على حيوية الـبـديـل املــدنــي الـــذي اسـتـطـاع أن يلعب دورًا مهمًا في عملية التحول الديمقراطي وتسلم السلطة فيما بعد. نــجــد فـــي الــحــالـ­ـة املــصــري­ــة أن عـمـلـيـة تــزويــر االنتخابات أصبح جــزءًا أصيا من العقيدة العسكرية، فمنذ استحوذ نظام يوليو على السلطة في انقاب عـام 1952 اتسمت جميع ممارساته بالتزوير، بل وإلـغـاء االنتخابات وتجميدها واالكتفاء باالستفتاء ات الشعبية املــحــسـ­ـومــة نـتـائـجـه­ـا مـسـبـقـًا، وهــــذه طبيعة نظام لم يمارس مؤسسوه الديمقراطي­ة في أي يــوم، ولـم يؤمنوا بها مسارًا للتغيير. ثم وصوال إلي حسني مبارك الذي قضى معظم رئاسته في االستفتاءا­ت، حتى جاءت لحظة أول انـــتـــخ­ـــابـــات تـــعـــدد­يـــة حـــدثـــت فــــي 2005 نتيجة للضغوط األميركية، وأيضًا حسمت بـالـتـزوي­ـر. كــان نـظـام مــبــارك يـؤمـن بـضـرورة وجود هامش ضيق داخل الساحة السياسية

يسمح فيه للمعارضة بممارسة دور سياسي مــحــدود، تستطيع مـن خـالـه تنفيس الكبت وتجنب وقـــوع أي انفجار قـد يطيح النظام. أمـا النظام الحالي، فيمثل النسخة البدائية مــــن نــــظــــ­ام يـــولـــي­ـــو ،)2013( الـــــــذ­ي ال يــؤمــن بالعملية السياسية ويــرى فـي الديمقراطي­ة شرًا ال بد من التخلص منه، ويمارس التزوير بصورة فجة على طريقة سيرة نظام يوليو األولــى .)1952( وأدت ممارسة التزوير بهذه الطريقة الفجة والنمطية في الوقت الحالي إلى مزيد من قتل العملية السياسية بصورة أكبر مما كانت عليه قبل ثــورة يناير، حيث لم تعد االنتخابات سوى نوع من املسرحية، والنتيجة معروفة سلفًا. أدت كـل ممارسات التزوير تلك إلى عزوف الناخب عن املشاركة في أي انتخابات، لتأكده أن ال قيمة لصوته، أو أن التصويت سيحصل بالنيابة عنه، إلى جانب عزوفه عن العملية السياسية بصورة كــامــلــ­ة. خـــطـــور­ة هــــذه املــســأل­ــة أنــهــا أدت إلــى تـحـيـيـد الـجـمـاهـ­يـر عـــن الــســاحـ­ـة الـسـيـاسـ­يـة، وبالتالي فقدان األحــزاب السياسية قيمتها، فمن دون الـنـاس ال قيمة لتلك األحــــزا­ب، إلى جــانــب فــقــدان الــنــاخـ­ـب الـثـقـة بـتـلـك األحــــزا­ب، وأصــبــحـ­ـت هــنــاك مـقـولـة مـنـتـشـرة فــي مصر: لــدى الـنـاس خــوف مـن االنــخــر­اط فـي أي عمل سـيـاسـي مـنـظـم. تــجــذرت هـــذه املـقـولـة حاليًا بصورة أكبر وأعمق نتيجة الخوف من قمع النظام املفرط. استطاع نظام يوليو من خال الــتــزوي­ــر املـمـنـهـ­ج عــبــر عــقــود طــويــلــ­ة تفريغ الـسـاحـة السياسية مــن املـنـافـس­ـني الـجـاديـن، وقـضـى عـلـى وجـــود أي بـديـل مـدنـي حقيقي منظم قد يتحمل املسؤولية فيما بعد، أو أن يتسلم السلطة إذا ما قرر في أي يوم تسليمها. خــــطــــ­ورة هـــــذا املـــشـــ­هـــد أنـــــه فــــي حـــــال حــــدوث انفجار للوضع في مصر، وهو ما يتوقع في الـفـتـرة املقبلة، ستجد مصر صعوبة كبيرة في عملية االنتقال الديمقراطي، نتيجة عدم وجـــود تــيــارات منظمة ذات بــرامــج سياسية واضـــــحـ­ــــة، تــســتــط­ــيــع تـــحـــمـ­ــل املـــســـ­ؤولـــيـــ­ة أو التعامل مع اإلرث الضخم والتخريبي الذي مـــورس عـقـودًا طـويـلـة، إلــى جـانـب املظلومية واالنــــق­ــــســــا­م املــجــتـ­ـمــعــي الـــــــذ­ي تــــجــــ­ذر خـــال فـــتـــرة حــكــم عــبــد الــفــتــ­اح الــســيــ­ســي. مـــن هـنـا، نـــرى أن الــفــرق بــني التجربتني التاريخيتن­ي للمؤسستني العسكريتني، التركية واملصرية، هـــو الــســبــ­ب خــلــف املــشــهـ­ـد الــســيــ­اســي الـــذي دائـــمـــًا مـــا تـظـهـر عـلـيـه االنــتــخ­ــابــات الـتـركـيـ­ة ونظيرتها املصرية، فهناك فارق بني مؤسسة حافظت على االنتخابات أداة مهمة للتغيير السلمي، وأخـرى دمرتها وفتحت الباب أمام العنف ليحل مـحـل االنـتـخـا­بـات أداة وحيدة ومـــضـــم­ـــونـــة لــلــتــغ­ــيــيــر واالنــــت­ــــقــــا­ل الــســلــ­مــي لــلــســل­ــطــة. مـــع األخـــــذ بــاالعــت­ــبــار خـصـوصـيـة كـــل تــجــربــ­ة وســيــاقـ­ـاتــهــا الـــتـــي نـــشـــأت فـيـهـا، والـــتـــ­شـــديـــد عـــلـــى أن أي مـــؤســـس­ـــة عـسـكـريـة دورها األساسي في أن تدافع عن أرض الوطن وحدوده، فهي املهمة األساسية التي أوجدت من أجلها، ال أن تحتكر السلطة أو تستولي على مقدرات الباد االقتصادية.

هناك فارق بين مؤسسة حافظت على االنتخابات أداة مهمة للتغيير السلمي وأخرى دمرتها وفتحت الباب أمام العنف ليحّل محّل االنتخابات

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar