قصائد َكرشفِة ماء
األََمُل ُعنَوًة شعر يفكر في مآل كوكبنا وإنسانيتنا
قد ال تكفي قراءة ديوان واحد لإلحاطة بتجربِة عبد اللطيف اللّعبي الممتدة عبر خمسة عقود. إنه شاعرٌ متجّدد وحّساس، له منطقته الخاّصة التي يستدعي
تبدو لحظة قـراءة قصائد الشاعر
َُّ املــــغــــربــــي عـــبـــد الـــلـــطـــيـــف الــلــعــبــي ،)1942( في ديوانه «األمـل عنوة»، والصادر مؤخرا عن دار الرافدين (بترجمة محمد خماسي عـن الفرنسية)، مثل الـذي يــســتــعــيــد بـــن يــقــظــتــه ومـــنـــامـــه قــصــائــد ال يدري من أين حفظها وكيف يرددها، لكنه ينتشي ويتلذذ بها، ويشعرها في حواسه، غير إن اإلمـسـاك بها أحيانا قـد ال يتم من املــــرة األولــــى، ذلـــك أنــهــا مـنـسـوجـة بطريقة خــــاصــــة، قـــائـــمـــة عـــلـــى تـــجـــربـــة طـــويـــلـــة فـي
ٍٍ الكتابة الشعرية، وحياة مليئة بما يجعل هذه الكتابة مكتملة في بنائها، ومسؤولة في أفكارها. شــــكــــل صــــاحــــب «أزهـــــــــرت شــــجــــرة الـــحـــديـــد» ،)1974( عــامــة فـــي مــســيــرة األدب املـغـربـي والــعــربــي،ابــتــدأهــاشــاعــرًاومـثـقـف ا لـه مواقفه الحقيقية مـن الثقافة والسياسة والفن واملجتمع، ولم يكن تعرضه لاعتقال وسـجـنـه ملــا يــقــارب ثـمـانـي ســنــوات ونصف الـــســـنـــة، ســــوى مــرحــلــة صــقــلــت قـــدرتـــه على الــكــتــابــة، وزادت مــن إصـــــراره عـلـى التمسك بــقــضــايــاه اإلنــســانــيــة الــتــي نـــذر لــهــا نفسه، بالتالي خرج ِشعره من روح ثائرٍة، ساخرة برقة، ناقدة بصدق، وغير مستسلمة بطبيعة الحال، وظـل «شاعر الهامش» يغرد لوحده مـــن دون انـــتـــمـــاء أو تــبــعــيــة، ذلــــك الــهــامــش الــذي كما يصفه في كتابه «الهوية: شاعر» ،)2000( بــأنــه «فــضــاء االسـتـكـشـاف الوحيد الذي ال يزال به مجال للمشاطرة والتقاسم». كــتــب الــلــعــبــي أغـــلـــب أعـــمـــالـــه بــالــفــرنــســيــة، ووصــــلــــت إلـــــى الـــعـــربـــيـــة مـــتـــرجـــمـــة، وحــــاز بسببها العديد من الجوائز العاملية املهمة. كما أنــه شكل جـسـرا ثقافيا فـي نقل األدب العربي إلــى الفرنسية، فترجم العديد من األعمال األدبية الشعرية (ملحمود درويش وعــبــد الـــوهـــاب الـبـيـاتـي وعــبــد الــلــه زريـقـة وســـمـــيـــح الـــقـــاســـم ولـــغـــيـــرهـــم) والــــروائــــيــــة (غسان كنفاني وحنا مينة) وأصـدر أيضا أنطولوجيات أبــرزهــا أنطولوجيا للشعر الفلسطيني ،)1970( وأتبعها العام املاضي بأنطولوجيا للجيل الشعري الفلسطيني األخـــيـــر ،)2022( وبــــن هــذيــن الـتـاريـخـن لـــم يـفـتـر الـــتـــزامـــه بـالـقـضـيـة الفلسطينية. تـــــوزع ديـــــوان «األمـــــــل عــــنــــوة» عــلــى خمسة عناوين داخلية يمكن اعتبارها مداخل إلى عوالم القصائد، فما بن «طفحت الكأس»، و«وجــهــا لـوجـه مــع الــكــارثــة»، و«القصيدة على سجيتها»، و«هــــي»، و«إبــــراء الــذمــة»، تــنــحــو الـــقـــصـــائـــد مـــنـــاحـــي عـــــــدة، ســـيـــريـــة، اجتماعية، ثورية، تحررية، وهي بالنتيجة، قـــصـــائـــد عــــاشــــق يـــنـــبـــض قـــلـــبـــه بـــالـــحـــيـــاة، يــنــبــض شـــــعـــــورا بـــــاآلخـــــر، اإلنـــــســـــان الــــذي يقطن فـي جـهـات األرض، يـشـاركـه حياته: أفــراحــه الصغيرة ومـآسـيـه، مـدافـعـا دائـمـا
َُّ عن كرامته، مطالبا بحياة ال يهان فيها وال يفقد إنسانيته. قـصـائـد الـلـعـبـي مـشـبـعـة بـــروح املسؤولية الثورية التي يمليها الشاعر على صنيعه الفني وعلى العالم في آن، معاندا السلطات التي تحاول دفـن هـذا الكائن (الشعر) بما تــفــرضــه عــلــيــه مـــن قـــيـــود وتــعــالــيــم – على اخـتـاف السلطات ومسمياتها-، فالشعر عـــنـــده طـــريـــقـــة لـــلـــقـــول، لـــإفـــصـــاح، لـلــرضـا واالعــتــراض، للتهديم والبناء، وكــل ما من شأنه أن يعيد تكوين العالم حسب رؤيته عبر الشعر، إنـه يواجه كل ما يواجه بهذه القصائد، على طولها وقصرها واختافها، فهو شاعر ينطلق من شعره راغبا بتحرير العالم، حاملا بعالم يفصله هو على مقاس إنسانيته وآمــالــه الكبيرة. وتفاصيل هذا العالم معروفة للذي سيقرأ قصائده: «لم يعد ََّ لديوقت للصبر أترك الحكمة لشعراء الواقعية لرسامي الحلول الوسطى ملوسيقى الرصانة إني أستعجل نهاية حقة وبداية حقة وإعادة تشكيل الكون حيث تكون آالف الكواكب معمورة كما كان كوكبنا وحــــيــــث تــــتــــاح حــــريــــة الـــعـــيـــش فــــي مــــجــــرة نختارها
إنـــي أسـتـعـجـل مـسـتـقـبـا واضـــحـــا ال غــبــار عليه يـــبـــتـــكـــر اســتــثــنــائــيــا مــــن األلــــــف إلـــــى الـــيـــاء ماضيه الخاص
جلي إذا أنه لم يعد لدي وقت للصبر».
إنـــه عــالــم الــشــاعــر الــــذي لــن يـخـلـو مــن حــب وعدالة اجتماعية وكرامة إنسانية وصدق، وكل ما يمكن أن يتمناه اإلنسان وال يجده متاحا للجميع فـي هـذا العالم، وبالتالي،
ًََ يصبح الشعر هنا رسالة عظمى، فحواها اإلنــســان ال غـيـره. فـي «األمـــــل عـــنـــوة»، نجد قصيدة مفكرة، قلقة ومشغولٍة بتساؤالٍت كـــثـــيـــرة، تــــســــاؤالت الـــحـــاضـــر واملــســتــقــبــل، األهــــداف واملـصـيـر والـنـهـايـة، إنــهــا محملة بـالـكـثـيـر مــمــا يــشــغــل الـــفـــرد الــحــســاس في عــالــم مــلــيء بـمـا يـسـتـفـز هـــذه الـحـسـاسـيـة
ٍِّ ويؤججها. القصيدة عند اللعبي ضـرورة لقول ما ال يقال إال بالشعر: «أشهد أن ال إنسان إال الذي يخفق قلبه حبا لكل إخوته في اإلنسانية...
أشهد أن ال إنسان إال من يحارب الكره با هوادة
في دواخله وحواليه الذي ما إن يفتح عينيه في الصباح حتى يسأل: ماذا علي أن أفعل اليوم كي ال أفقد صفتي واعتزازي كإنسان؟».
فــــأجــــواء الـــقـــصـــيـــدة إنـــســـانـــيـــة، نـــابـــعـــة مـن ذات إنـسـانـيـة كــبــيــرة، هـمـومـهـا وغـايـاتـهـا إنسانية بحتة، يقدمها على كـل معتقدات الفرد وأفكاره ومقدساته، كأنه بها يخاطب البشرية بــأن عليها أن تـؤمـن باإلنسانية كـــي تـسـتـمـر فـــي مـعـيـشـهـا وتــقــيــم دولــتــهــا اإلنسانية الحقة، شـهـادة الشاعر مـن أجل الـــكـــرامـــة، ومــــن أجــــل أال يــفــقــد اإلنــــســــان ما يجعله إنسانًا. تــبــدو طــريــقــة الــلــعــبــي فـــي الـــقـــول الــشــعــري واضـحـة، ويستشعرها الـقـارئ فـي قـراءتـه
ُِ األولى بسيطة، يرفع إصبعه ويضعه على املـكـان الــذي يـريـد، ال تمويه وال أقنعة، إنـه
َِّ َُ أمـــام الكثير مــن الـقـضـايـا الــتــي ال تحتمل التعقيد، ال يحتمل أسلوبه ذلك، وال يحمله عـــنـــوة مـــا ال يـسـتـحـق مـــن أثـــقـــال األسـالـيـب التي ًترهق القصيدة وتستنزفها وتشتت
َُّ أهدافها؛ لهذا جــاءت قصائده كرشفة ماء سريعة، تــروي، ولكنها ال تشبع، ألن الذي ســـيـــقـــرأهـــا، ســيــطــلــب املــــزيــــد مـــنـــهـــا، وهــــذه القراءة بالنتيجة ستحيل إلى قـراءة باقي شــــعــــره الـــــذي لـــم يــــقــــرأ، وإلـــــى الــســفــر أبـعـد وأعـمـق فـي عــوالــم صـاحـب «يـومـيـات قلعة املـنـفـى» )1983( وأجــوائــهــا الـخـاصـة، وفـي لغته املحملة باألفكار واإلشارات: «ماذا سيحدث لفيلمنا الكبير الذي نمثل فيه جميعا أدوارا منذ البدايات لكتابنا الكبير الذي ما انفككنا نكتبه بمليارات األيدي؟»
قصيدة مفكرة، قلقًة، ومشغولة، فحواها اإلنسان
فضاء استكشاف ومغامرة اليزال به مجال للمشاطرة والتقاسم