ذكرى النكبة وأخواتها ومسألة النهضة وأزماتها
فـــي إطــــار اهــتــمــامــه املــمــتــد ألفـــكـــار مهمة في اإلصالح والتغيير والنهوض، حاول كــاتــب هـــذه املــقــالــة تـلـمـس تـلـك الـخـرائـط مــن مــداخــل شــتــى، وانــتــهــى فــي ذلـــك إلـى مــا يمكن تسميتها «مــعــوقــات الخطاب الـــنـــهـــضـــوي»، وتـــطـــرق إلــــى أفـــكـــار مهمة ضــمــن تــألــيــفــات لــبــاحــثــن وأكــاديــمــيــن ومــثــقــفــن ومــفــكــريــن، بـــل ومــســتــشــرقــن، تحاول في معظمها أن تسقط على العقل العربي سمات سلبية أبدية، هي أقرب ما تكون إلـى االتـهـامـات منها إلـى التحليل الـعـمــيـق والــتــفــســيــر الـــدقـــيـــق، ولــعــل ذلــك يسوقنا إلــى تلك املقالة مـع ورود ذكـرى النكبة الفلسطينية والعربية في مايو/ أيار ،1948 وتالحقنا ذكرى أخرى تتعلق بنكسة يونيو/ حزيران .1967 وفـي هذا املـــقـــام، بــــات هـــــؤالء «مــــن يـــؤلـــفـــون»؛ وقــد شكلوا تـيـارا خطابيا، أو «مـن يتلقون»؛ فدعموا تلك األفـكـار، خصوصا مع سوء أحـوالـهـم الـعـامـة، ومــع تــدهــور أنظمتهم وتـفـاقـم أزمـاتـهـا ومـعـضـالتـهـا، لـعـل ذلـك كــلــه يـجـعـلـنـا نــتــوقــف عــنــد أهــــم نقطتن في هذا املقام: تتعلق األولى بالتسميات واألسماء وعالم املفاهيم. وتتعلق الثانية باملنهج وعالم املداخل واالقترابات. األولى؛ التي تتعلق باملفاهيم واألسماء، وبـــاســـتـــخـــدام األلــــفــــاظ واملـــــفـــــردات، نجد فيها كلمات كالنكبة، والنكسة، واألزمـة، تـــــرد فــــي مـــــــوارد مـــتـــنـــوعـــة، ولـــكـــنـــهـــا فـي الحقيقة تعبر عن وصف أحداث تاريخية مفصلية مرت بعاملنا العربي واإلسالمي، تؤكد، املرة تلو املرة، ومن تراكم تأليفات مــعــيــنــة، مـــثـــل كـــتـــابـــي قــســطــنــطــن زريــــق «معنى النكبة» و«معنى النكبة مجددا»، وانـــتـــهـــاء بــكــتــاب أســـتـــاذ عــلــم االجــتــمــاع الـــســـيـــاســـي ســـعـــد الــــديــــن إبـــراهـــيـــم «عــلــم النكبات العربية». ولعل كـل تلك األمــور تــواصــلــت مـــن بــعــد ذلــــك، فـكـتـب بعضهم عــمــا بــن الـنـكـبـتـن، وأشــــار كـثـيـرون إلـى مــســتــقــبــل الــــعــــالــــم الــــعــــربــــي فـــــي نــكــبــات متكررة ومستمرة، وبدا لبعض كتاب في ذلــك أنــه يـقـدم أوصــافــا سلبية ملـا أسمي العقل العربي أو كتابات تعلقت بالطابع القومي والشخصية القومية. ومــن أهم املالحظات التي نتوقف فيها عند نقطة األســـمـــاء واملــســمــيــات تـتـعـلـق بـالـتـهـاون واالخــــتــــزال والــتــبــســيــط والــتــخــفــيــف في اختيار األلفاظ واملسميات التي تدل على الحادث الجلل، فهذه نكبة، وتلك نكسة، وهــــؤالء قــد يـتـنـبـأون بالفشل والـوكـسـة؛ وقد أشار بعضهم إلى ما يمكن تسميتها «أزمـــة الـعـرب وعـلـل تخلفهم»، فأفاضوا وأبـــانـــوا، إال أن بعضا ربـمـا اسـتـغـل تلك الحال الحاضرة من التدهور والتخلف، التي ربما استمرت طويال وعقودا طالت، فـوصـم الـعـقـل الـعـربـي بـــأوصـــاف، واتـهـم الشخصية القومية باتهامات، واستشهد بقرائن أزمات ونكسات ونكبات عديدة.
ٍّ كان ذلك يتطلب تفكيكا لكل هذه املفردات واألوصـــاف وخـيـارات بعضهم في إطالق املـسـمـيـات، ذلـــك أن هـــذه املـسـألـة يـجـب أال تلقى جزافا، وال نمر عليها مـرور الكرام، ألهـمـيـتـهـا. وربـــمـــا يــقــول بـعـضـهـم إن من دفــــع إلــــى تـخـفـيـف الــتــعــامــل بـــمـــفـــردات ال تكافئ عالم األحداث التي ترتبط به، إنما كان لغرض وداع مهمن، وهو أن أحـدا ال
ٍّ يريد أن يقر بالهزيمة الكاملة أو الشاملة، فــــيــــؤدي إلــــى إحـــبـــاط عـــمـــوم الــــنــــاس. أمــا هؤالء الذين تخيروا أوصافا سلبية قاتلة ومميتة، تعبر، في حقيقة األمر، عن ميراث من العجز والفشل وأزماٍت مزمنٍة تراكمت في التجارب والخبرات. واستسهل هؤالء بــــوصــــف الـــــعـــــرب واملـــســـلـــمـــن بـــــأوصـــــاف سلبية حتمية وأبدية، يصدرون في ذلك، عــلــى نــقــيــض الـــتـــوجـــه األول، كـــل مـسـالـك العجز والشلل والتخلف والضعف الكامن في «جينات» جنس أو آخر. وحقيقة األمر أن هــؤالء وأولـئـك صـــدروا تلك التوجهات في وصف األحوال بكلمات ال تقدم حقائق األزمات البنيوية والعوامل التي أنتجتها، والـــتـــي طـــاولـــت دوال قــطــريــة كــثــيــرة بعد الــنــشــأة املـــشـــوهـــة لــلــدولــة الــقــومــيــة الـتـي أتــت على دولـنـا وشعوبها بالتخلف في مـــجـــاالت بـعـيـنـهـا، خــصــوصــا فـــي املــجــال السياسي واألبعاد املجتمعية. وفـــي هـــذا الــســيــاق، رأى بـعـض فــي فئات مــعــيــنــة مــــن داخــــــل املــجــتــمــع مــمــثــلــة فـي نـخـبـتـهـا أن «نــكــبــة األمـــــة فـــي نـخـبـتـهـا» الــتــي كــانــت سـبـبـا لـلـهـزيـمـة، نكبة كانت أو نـكـسـة، فــي ظــل نـظـم رسـمـيـة احترفت الــكــذب عـلـى شـعـوبـهـا، وضــمــن عمليات مــركــبــة مـــن بـــــراءة الـــذمـــة الــتــي أرادوا أن يـشـيـعـوهـا، فــإنــه لــم يـكـن ذلـــك إال هــروبــا منهم من املساءلة واملسؤولية. وبدا ذلك أمـــًرا خطيًرا مـع تـكـرار النكبات، وتوالي النكسات، وتراكم األزمات. ومن هنا، كانت الكلمات املختارة لوصف تلك الحادثات املفصلية ليست إال مقدمة من كل هؤالء لــــتــــهــــرب الـــنـــخـــبـــة مـــــن املــــســــؤولــــيــــة بــكــل مكوناتها الفكرية والثقافية واملجتمعية، وفــــي مــقــدمــهــا الــنــخــب الــســيــاســيــة الـتـي مثلت حالة استبداد مقيم، وفساد عميم. أمــــــــا الــــثــــانــــيــــة فــــهــــي تـــتـــعـــلـــق بـــاملـــنـــهـــج واالقترابات املختلفة، والتي تستخدم في صورة مقوالت «كبسوالت» تختزل األمور وال تقوم على التشريح الدقيق والتفسير الـعـمـيـق، فــــأدى بـهـا ذلـــك إلـــى أن تتحدث في ذلك، مسترشدة بمقوالت استشراقية عــن العقل الـعـربـي، مثل الـكـتـاب الشهير «الــعــقــل الـــعـــربـــي» الـــــذي صــــدر فـــي 1973 لـروفـائـيـل بــاتــاي، وصـــف الـعـقـل العربي بـسـمـات شــديــدة الـسـلـبـيـة. وقـــد أسهمت تـــلـــك الـــنـــكـــســـة فــــي 1967 واملـــــنـــــاخ الــــذي أحــاط بها ليمّرر تلك األوصـــاف ويقّرها ويقررها، فتحدثت كتابات عدة عن العقل العربي هنا أو هناك فتختزله في وصف أحادي، من مثل أن العقل العربي عرفاني ال برهاني، غيبي خرافي ال عقالني. وفي كل األحــوال، كانت تلك املقوالت املختزلة تـعـبـر عـــن خــلــل مــنــهــجــي فـــــادح ال ينظر إلـــى عــالــم األحـــــداث والـقـضـايـا املفصلية الــكــبــرى ضـمـن الـسـنـن الــتــي تـحـيـط بها، والـــقـــوانـــن الــتــي تـحـكـمـهـا، ولــكــنــه جعل من تلك املقوالت االختزالية التي فرضها أفـــق االنــحــطــاط الـــراهـــن، فـوضـعـهـا محل السنن والقوانن وعممها ضمن فائض تعميمات، وحتمية أوصاف ومواصفات، ومـــــع ذلــــــك، فـــإنـــه فــــي الــحــقــيــقــة اســـتـــدرك على هـــؤالء مـن تـحـدث عـن أزمـــات العقل العربي أو معوقاته، ليبحث عن العوامل
األبواب التي تتعلق باالجتهاد والتجديد واإلصالح والتغيير والنهوض ليس ألحد أن يتطّوع بسّدها لتصدير اليأس والعجز والشلل
واألســبــاب الـتـي ال تكمن فـي الشخصية الـقـومـيـة أو فــي الـعـقـل الـجـمـعـي الـعـربـي ضمن تعميمات اختزالية غضة أو أحكام متحيزة مسبقة. وبحث في أسباب غاية في األهمية، ثقافية واجتماعية، الكامن مــنــهــا والــــطــــارئ عـلـيـهـا والــــوافــــد مـعـهـا، فكان عليه أن يحلل تلك األزمات، الواحدة تلو األخـــرى، وفـق سنن حاكمة مقضية، وقوانن علمية معتبرة ومرعية. مـــا نـقـتـرحـه فـــي هـــذا املـــقـــام لــيــس إنـــكـــارا لسلبيات مــوجــودة وال أزمـــات تعاظمت وال أحـــداث دلــت على الفشل أو الهزيمة، ولــكــن الــخــطــر فـــي هـــذا املـــقـــام أن يسحب هــــــــؤالء ذلـــــــك كــــلــــه عــــلــــى املـــســـتـــقـــبـــل، فــال يقيمون وزنا للماضي؛ وال يهجون فقط الـــواقـــع؛ ولــكــن يـغـلـقـون أبــــواب املستقبل فـــــي الــــنــــهــــوض واإلصـــــــــــالح والـــتـــغـــيـــيـــر. وأقــــول بــمــلء الــفــم إن هـــذه األبـــــواب التي تتعلق باالجتهاد والتجديد واإلصــالح والـــتـــغـــيـــيـــر والــــنــــهــــوض، لـــيـــس ألحـــــد أن يتطوع بسدها لتصدير اليأس والعجز والـــشـــلـــل ضـــمـــن عـــالـــم الـــســـنـــن املــفــتــوحــة واملنفتحة على عالم األسباب والعوامل
ََّ والشروط، {إن الله ال يغير ما بقوم حتى يغيروا مـا بأنفسهم}. االقـتـراب السنني الذي أشرنا إليه مرارا وتكرارا إنما يؤكد تـلـك الـسـنـن الـشـرطـيـة الــتــي تــحــرك عالم اإلرادة واالخــتــيــار اإلنــســانــي وخــيــاراتــه النهضوية والتغييرية. في سياق هاتن النقطتن الجوهريتن، نــســتــطــيــع أن نــــربــــط بــــن عــــالــــم األفــــكــــار واألشـــخـــاص واألحــــــداث ربـــطـــا واضـــحـــا، يــقــوم عــلــى إقـــامـــة أصــــول الــفــهــم املتعلق
ََ َٰ باملسؤولية واملساءلة {بل اإلنسان على
َِ نفسه بصيرة * ولو ألقى معاذيره}. وفي
ُِ حقيقة األمر «من يعمل سوء ا يجزى به». ومن هنا، تبدو لنا تلك الحقائق السننية املـــســـكـــونـــة فـــــي جــــوهــــرهــــا بـــالـــشـــرطـــيـــة؛ واملفعمة في كوامنها بفهم عميق لقضية السببية؛ تبدو لنا أصـول هذه املنهجية في النظر إلى املاضي اعتبارا واستثمارا، وإلـــى الـحـاضـر انــحــرافــا وتـقـويـمـا، وإلــى املـسـتـقـبـل صــنــاعــة واســـتـــشـــرافـــا، أصـــول منهجية ومفاهيمية غـايـة فـي األهمية، لـو أردنـــا أن نتحدث برصانة فـي مسألة النهوض والتغيير.