Al Araby Al Jadeed

«بعيدون عن إيران قريبون من أخواتنا»

في سلسلة البودكاست «بعيدون عن إيران قريبون من أخواتنا»، تأخذنا األصوات إلى داخل المجتمع اإليراني، ثم تعيدنا إلى إيرانيين يسكنون في فرنسا ويتابعون من بُعد أحوال بالدهم

- باريس ـ زينب ترحيني

أصــــل مـــشـــرو­ع أنــاهــيـ­ـد زيـــــارة بــلــدهــ­ا األم، والـــســـ­يـــر فــــي شـــــوارع­ـــــه، وتــــــــ­ـذوق طــعــامــ­ه، والسهر مع ناسه، ورؤية تفاصيل اعتادت عــلــى تـخـيـلـهـ­ا عــلــى وقـــع حــكــايــ­ا والــديــه­ــا. أناهيد شابة فرنسية مـن أصــول إيرانية، والــــدهـ­ـــا الجـــــئ ســـيـــاس­ـــي فــــي فـــرنـــس­ـــا مـنـذ عـــام ،1978 وكـــذلـــ­ك هـــي والـــدتــ­ـهـــا. الجــئــان تعارفا في العاصمة باريس، خالل اجتماع ملعارضني للنظام اإليراني. تزوجا، وأنجبا أناهيد. ولــدت ودرســت وعاشت سنواتها الـــثـــا­لث والــعــشـ­ـريــن فـــي فــرنــســ­ا، مستمعة الــــى قــصــص والـــديــ­ـهـــا عـــن إيـــــــر­ان، قــبــل أن تقرر في مارس/ آذار من عام 2022 امتالك سـرديـتـهـ­ا واالقـــتـ­ــراب خــطــوة مــن هويتها شــبــه الــضــائـ­ـعــة. عــرفــت إيـــــران فـــي املـنـفـى، فــلــمــا­ذا تـبـقـيـهـ­ا بــعــيــد­ة؟ وملـــــاذ­ا ال تـخـتـار لنفسها حياة مختلفة عن تلك التي عاشها والـداهـا؟ حياة تكون فيها إيــران حاضرة، وليست مجرد خياالت منسوجة في املنفى. أرادت أناهيد معانقة «الــعــادي» فـي إيـــران. لــــم تــبــحــث عــــن أشــــيـــ­ـاء اســتــثــ­نــائــيــ­ة حـسـب الــتــعــ­ريــف الـــعـــا­م لـلـكـلـمـ­ة، بـــل عـــن عــالقــة من لـــحـــم ودم مــــع بـــلـــده­ـــا األم، عـــلـــى عـــكـــس ما شــاء الـقـدر أو السلطات اإليـرانـي­ـة لـوالـدهـا. كـــان الــذهــاب بالنسبة لـهـا بــدايــة لقصتها، وتمهيدا لــزيــارا­ت أخـــرى فـي أوقـــات الحقة، لكن بعد عودتها إلى فرنسا تغير كل شيء. يــبــدو أن املـنـفـى هـــو قــــدر هـــذه الــعــائـ­ـلــة. في سبتمبر/ أيلول من عـام ،2022 أي 6 أشهر بعد عـودة أناهيد من إيــران، توفيت الشابة مــهــســا أمـــيـــن­ـــي فــــي أثــــنـــ­ـاء احـــتـــج­ـــازهـــا لـــدى شرطة األخـــالق اإليـرانـي­ـة، وخـرجـت النساء الــى الــشــوار­ع رافــعــات هـتـاف «نــســاء، حياة، حرية». توالت األحداث، وما سجلته أناهيد وأرادت لــه أن يـكـون حميميا عــاديــا صـار لــه طـابـع سياسي ال يمكن تـفـاديـه. صدى الثورة في إيران وصل إلى كل مكان، ومعه تحولت تسجيالت الرحلة الشخصية إلى بــودكــاس­ــت وثــائــقـ­ـي عــن الـــثـــو­رة فــي إيـــران وأحوال نسائها منذ وفاة مهسا أميني. البودكاست يضم خمس حلقات (صـدرت مـــنـــه ثـــــالث إلـــــى اآلن)، ألنـــاهــ­ـيـــد دجـــاللــ­ـي وجـــولـــ­يـــيـــت بــــــيــ­ــــارون-روويــــــ­ل، واألخــــي­ــــرة صـــحـــاف­ـــيـــة فـــرنـــس­ـــيـــة رافـــــقـ­ــــت أنــــاهــ­ــيــــد فـي رحـــلـــت­ـــهـــا إلـــــى إيــــــــ­ـران، وأخــــرجـ­ـــتــــه ســولــني مـــــــــ­ـوالن، وشــــــار­كــــــت فــــيــــ­ه صــــوتـــ­ـا الـــفـــن­ـــانـــة الـفـرانـك­ـو إيـرانـيـة مــرجــان سـاتـرابـي (روت بـصـوتـهـا مــشــاهــ­د ومــقــاطـ­ـع بــالــفــ­ارســيــة). البودكاست باللغة الفرنسية، ولكنه حمل جمال ومقاطع بالفارسية أو الكردية. فــــي الــحــلــ­قــة األولـــــ­ــى نــســتــم­ــع لـتـسـجـيـ­الت مـــا قــبــل الـــرحـــ­لـــة. والـــــد أنـــاهـــ­يـــد ينصحها

بـالـكـذب عـنـد وصـولـهـا إلـــى املــطــار، بينما كان يحضرها الستجواب طويل. كان قرار الذهاب واضحا في رأس أناهيد: «اآلن أو أبــــدًا»، وذلـــك على الـرغـم مـن خــوف والـدهـا الـــذي كـــرر على مسمعها: «أنـــت ضحيتنا. حـظـك ســيــئ». جـولـيـيـت، صـديـقـة أنـاهـيـد، بدورها، اتصلت بأصدقائها الصحافيني لـــأخـــذ بـنـصـيـحـ­تـهـم: «اســتــخــ­دمــي شبكة اتـصـال افتراضية تؤمن لـك الخصوصية. ال تـصـوري مباني ال تعرفني عنها شيئا. ال تـصـرحـي ألحــد بمهنتك. ال تستخدمي اإلنـــتــ­ـرنـــت املـــتـــ­وفـــر فـــي األمــــاك­ــــن الـــعـــا­مـــة»، حذروها. هكذا كانت تحضيرات السفر إلى إيران، في زيارة ال هدف منها سوى مالقاة جــزء مــن هـويـة سرقها املـنـفـى، واالحـتـفـ­ال بــــرأس الــســنــ­ة اإليـــران­ـــيـــة، واالســـتـ­ــمـــاع إلــى الناس في الشوارع وهي تحكي الفارسية. فلماذا كل هذا التوتر؟ تقول أناهيد: «يوجد أمــاكــن فــي هـــذا الــعــالـ­ـم ال يـمـكـنـك أن تقول كلمة واحدة من دون أن تفسر سياسيا». تــــتــــ­داخــــل الــــحـــ­ـكــــايــ­ــات عـــلـــى طــــــول حــلــقــا­ت البودكاست. أصوات الناس من قلب شوارع املدن اإليرانية، وأغان بالفارسية وزغاريد، وأصـــــــ­ـوات هـــتـــاف­ـــات مــــن قـــلـــب الـــتـــظ­ـــاهـــرا­ت، وإيــرانــ­يــون فـي فرنسا يحكون عـن الـثـورة، ووالـد أناهيد وأناهيد، وجولييت... خليط مشاعر اإلحــبــا­ط واألمـــل والــفــرح والخيبة. «شــعــرت بــاألمــل والـغـضـب فــي وقـــت واحـــد: هل يعقل؟ إيرانيات خلعن الحجاب في قلب طهران؟»، يقول أحد اإليرانيني املقيمني في فرنسا وهــو يـتـذكـر ردة فعله بينما كانت تــصــل إلـــيـــه األخــــبـ­ـــار مـــن طــــهــــ­ران. يــتــحــد­ث بعض اإليرانيني عن خوفهم الـدائـم من أي فرد من أفراد الشرطة. ال يهم في أي بلد أنت. تقول امــرأة إيرانية: «ال يمكنك إال أن تكون إيرانيا. هذه هوية ستالحقك إلى األبد». على طـول السرد، تحضر وسائل التواصل االجتماعي، كحلقة وصل بني الوطن واملنفى. الثورة، للساكنني بعيدًا، تبدأ بأول تغريدة اعترضت طريقهم أو أول فيديو وصل إليهم عـبـر «واتــــســ­ــاب». تــســأل أنــاهــيـ­ـد وجولييت إيـرانـيـن­ي مقيمني فـي فرنسا عـمـا يذكرونه من تاريخ 16 سبتمبر/ أيلول املاضي، يوم وفاة مهسا أميني. تلتقي اإلجابات في نقطة واحــــدة: فيديو املـــرأة الـراقـصـة وســط الـنـار، وفيديو املتظاهرين والهتافات، وتغريدة... هـنـا تــتــذكــ­ر أنــاهــيـ­ـد الــتــغــ­ريــدة الــتــي عـرفـت من خاللها عن وفــاة مهسا أميني، وتتذكر أنــهــا قــــرأت تـعـلـيـقـ­ا يـــقـــول: «مـــاتـــت مـــن أجــل الــحــريـ­ـة». «لـــم أفـهـم املـــوت مــن أجـــل الـحـريـة. لقد مــاتــت. هـــذا كــل شـــيء. ال يـوجـد حـريـة»، تـــقـــول. تــأخــذنـ­ـا الـحـلـقـا­ت الـــثـــا­لث فـــي رحـلـة إلــى املجتمع اإليـــران­ـــي. تصفه أنـاهـيـد بأنه املـجـتـمـ­ع الــــذي يــعــرف نــاســه كــيــف يـلـتـفـون على القانون. مجتمع «الـكـل شـيء ممنوع» عرفته عن قـرب الشابة، واكتشفت أن كل ما هــو ممنوع مــوجــود، مــن الـكـحـول والـرقـص إلــــــى أغــــانــ­ــي الــــــــ­ـراب. نـــتـــجـ­ــول ســـمـــعـ­ــيـــا بـني الـبـيـوت اإليــرانـ­ـيــة، لنكتشف حـيـاة الشباب اإليـــران­ـــيـــني ورغــبــات­ــهــم وانــقــسـ­ـام حـيـواتـهـ­م إلى طبقتني: السري واملعلن. وما بني لقطة وأخرى، نسمع أسماء النساء ضحايا النظام اإليراني. أسماء وحيوات انتهت استعادها الـــبـــو­دكـــاســـ­ت كــتــكــر­يــم لـــهـــن أو حــفــظــا لـهـن فـــي الــــذاكـ­ـــرة. الــبــودك­ــاســت الــــذي احـتـفـت به الصحافة الفرنسية أرشفة ملجتمع ما قبل االنفجار. كما أنه محاولة إشـراك ومشاركة للمبعدين قسرًا عن بـالدهـم، بما تيسر من إمكانات لـتـرداد صـدى ما يجري في إيــران: نساء، وحياة، وحرية.

 ?? (دارين )Getty/شيريغ ?? تظاهرة داعمة للنساء اإليرانيات في فرنسا
(دارين )Getty/شيريغ تظاهرة داعمة للنساء اإليرانيات في فرنسا

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar