العمارة المملوكية
إتمام ما بدأه الفاطميون واأليوبيون
تركت العمارة المملوكية بصمًة ما تزال قائمة حتى اليوم في العديد من المدن والعواصم العربية، بل إن غالبية النسيج العمراني التاريخي واألثري في القاهرة وحلب والقدس ينسب إليها
عــلــى الـــرغـــم مـــن اشــتــهــار املـمـالـيـك كــمــقــاتــلــن مـــحـــتـــرفـــن، وانـــشـــغـــال سالطينهم بـالـحـروب واملــؤامــرات الداخلية والخارجية، إل أن دولتهم، املمتدة على مساحة مصر، والشام، والحجاز، عرفت مـــدرســـة مــعــمــاريــة مــتــمــيــزة، شــكــلــت غـالـبـيـة النسيج العمراني التاريخي في مدن الشرق الـــكـــبـــرى مــــثــــل: الــــقــــاهــــرة، ودمـــــشـــــق، وحـــلـــب، والـقـدس، وطرابلس الـشـام، واملدينة املنورة، وصــمــدت فــي هـــذه املــــدن حـتـى بـعـد دخـولـهـا في سلطة العثمانين. وربما سبب ذلك يعود إلـــى تــرســخ التــجــاهــات املـعـمـاريـة اململوكية التي تعد وريثة شرعية للمدرستن الكبرين: الـفــاطـمـيــة واأليـــوبـــيـــة، فـيـمـا انـــصـــب اهـتـمـام الـعـثـمـانـيـن بـشـكـل رئــيــس عــلــى عاصمتهم إسطنبول ومدن األناضول والروملي.
طبقة عسكرية
نـشـأ املـمـالـيـك كطبقة عـسـكـريـة فــي ظــل حكم األيـوبـيـن؛ طبقة استطاعت فـي فترة لحقة، خالل ضعف هذه الساللة التي أسسها صالح الدين األيوبي، أن تقبض على مقاليد الحكم، مــســتــغــلــة الـــخـــطـــر املـــغـــولـــي الـــــداهـــــم، وعـــــودة التمدد الصليبي، لتؤسس نظام حكم جديدًا عــاش أقــل مـن ثالثمائة عــام (مــن 1250 حتى ،)1517 وقـــام على مشروعية السيف. ولذلك فشلت محاولة السلطان األشرف سيف الدين قــــالوون 1222( ــــ )1290 فــي تـأسـيـس ساللة على الـرغـم مـن حكم اثنن مـن أبنائه واثنن مـــن أحـــفـــاده، ولـكـنـهـا كــانــت فـــتـــرات مقطوعة بانقالبات عسكرية عديدة. يـقـسـم الـــدارســـون تــاريــخ املـمـالـيـك عــــادة إلـى حـقـبـتـن اثـــنـــتـــن؛ حــقــبــة املــمــالــيــك الــبــحــريــة، وهم ينسبون لشعب القفجاق التركي القديم ،)1382–1250( وحـــقـــبـــة املـــمـــالـــيـــك الــبــرجــيــة 1382( ـــــ ،)1517 وهـــم يــنــســبــون لـلـشـراكـسـة. ولــكــن الــبــاحــثــة كـــارولـــن ويــلــيــامــز، صـاحـبـة كـتـاب «دلــيــل اآلثـــار اإلسـالمـيـة فــي الـقـاهـرة»، تـــقـــتـــرح تــقــســيــمــا جــــديــــدًا يـــتـــكـــون مــــن ثـــالث حقب، هـي الحقبة اململوكية املبكرة 1250( ــ ،)1350 والحقبة اململوكية الـوسـطـى 1350( ـــ ،)1430 والحقبة امللوكية املـتـأخـرة 1430( ــ ،)1517 وهـو تقسيم تقني يتعلق بالخواص املـعـمـاريـة، إذ تـقـدم الباحثة جملة مـن األدلــة على التمايز بن هذه املراحل الثالث.
مجمعات دينية
تتكون اآلثـــار اململوكية عـــادة مـن مجمعات دينية خدمية متعددة الوظائف، تقوم حول ضـريـح الــراعــي لـهـذه الــعــمــارات، وتــمــول من األوقـــاف الـتـي يوقفها على هــذه املجمعات، وتـضـم عـــادة مــدرســة للحديث أو الــقــرآن أو اللغة العربية أو الطب، وخانقاه للصوفية، وهو نزل يقدم املنامة والطعام للمسافرين، وبــعــضــهــا يـــقـــدم األحــــذيــــة وربـــمـــا األلــبــســة، وتضم أيضا مسجدًا وسبيال للماء، وبعضها يضم مشفى يـسـمـى «بـيـمـارسـتـان». وتبنى هـذه املجمعات عـادة وفـق مخططات معقدة تـعـكـس الــحــاجــة إلــــى اســتــيــعــاب املــســاحــات املحدودة داخل املدن والتجمعات الحضرية، املـــســـورة فــي أغــلــب األحـــيـــان، ويــتــم تزيينها بـزخـارف متقنة تستخدم فيها الفسيفساء والزجاج، والجص، والرخام املنحوت. والــــحــــق أن املـــمـــالـــيـــك لــــم يـــخـــتـــرعـــوا فــكــرة املجمعات الدينية والخدمية، بل ورثوها عن السالطن األيوبين. ففي دمشق نجد املدارس واملجمعات املنسوبة للملك العادل، شــقــيــق صــــالح الـــديـــن األيــــوبــــي، وأبـــنـــائـــه. وفـــي الــقــاهــرة نـلـحـظ املـــدرســـة الـصـالـحـيـة املنسوبة للملك الصالح نجم الدين أيوب 1205( ــ ،)1249 وهي النموذج الذي اعتمده املـــمـــالـــيـــك لــلــبــنــاء عــلــيــه وتــــطــــويــــره، حـيـث حفلت الفترة اململوكية املبكرة بالتجارب املــعــمــاريــة، إلـــى أن تــطــورت إلـــى اتـجـاهـات مــــيــــزت الــــعــــمــــارة املـــمـــلـــوكـــيـــة فــــي الـــفـــتـــرات الـــالحـــقـــة. فـــقـــد عـــرفـــت فــــي أواخـــــــر الـحـقـبـة البحرية بوابات املداخل الكبيرة، وظهرت املقرنصات التي تزين املداخل واملحاريب وبـــعـــض الـــــزوايـــــا املـــعـــمـــاريـــة املــســتــحــدثــة، وظـهـرت املـــآذن مثمنة األضـــالع ذات القمة املكورة، والقباب الحجرية املزخرفة.
انتعاش وازدهار
كــــــان لـــهـــزيـــمـــة املـــــغـــــول، وآخـــــــر الــــــــدول الــــــدول الصليبية في بالد الشام في النصف الثاني مـن الـقـرن الثالث عشر املـيـالدي، أثـر مهم في انـتـعـاش الــبــالد، وتمتعها بفترة طويلة من الــســالم، بفضل الزدهــــار القـتـصـادي الكبير الناتج عن استقرار الـزراعـة، وتدفق التجارة عـــبـــر طـــرقــهـــا الـــعـــاملـــيـــة املــــعــــروفــــة. وفـــــي هـــذه املرحلة ظهر في القاهرة أهم مجمع معماري يعود لتلك الـفـتـرة، وهــو مجمع سيف الدين قالوون، والذي بني خالل عامي 1284 1285و فوق بقايا القصر الفاطمي السابق في منطقة بن القصرين وسط القاهرة. كان هذا املجمع يضم ضريح قالوون الضخم، ومدرسة، ومستشفى كبيرًا (بيمارستان)، كان أحد أهم املراكز الطبية في العالم اإلسالمي في ذلك العصر، واستمر العمل فيه حتى أواخر العهد العثماني. وفي عهد الناصر محمد بن قالوون 1293( ــ )1341 بلغت القاهرة ذروتها، فــــي ذلــــــك الــــعــــصــــر، مــــن حـــيـــث عــــــدد الـــســـكـــان والثروة. وهو أكثر السالطن املماليك رعاية للفنون والعمارة، ففي عهده توسعت القاهرة في اتجاهات مختلفة، ونشأت أحياء جديدة، مثل الـــدرب األحــمــر، واملنطقة الـواقـعـة أسفل الــقــلــعــة وغـــربـــهـــا، وامـــتـــأت كـــذلـــك بـالـقـصـور واملؤسسات الدينية العائدة ألمرائه. كما نفذ الناصر محمد بعضا من أهـم األعـمـال داخل الـقـلـعـة، حـيـث أقــــام مـسـجـدًا جـــديـــدًا، وقــصــرًا، وقـــاعـــة عــــرش ذات قــبــة كــبــيــرة تـــعـــرف بـاسـم اإليوان العظيم.
طاعون واضطرابات
وبعد وفـاة الناصر محمد عانت القاهرة من الطاعون، وحصلت انقالبات عسكرية أدت إلى زعزعة الستقرار، وفي هذه املرحلة ل نلحظ أي مبنى يعتد به سوى مسجد السلطان حسن بــن الـنـاصـر بــن قــــالوون. فـقـد دخـلـت عناصر مــعــمــاريــة جـــديـــدة بــســبــب تــنــويــع الـحـرفـيـن مــن مختلف مـنـاطـق الـسـلـطـنـة، وظــهــرت فيه تأثيرات العمارة اإلليخانية اإليرانية، وكذلك الـسـلـجـوقـيـة األنــاضــولــيــة، ولـكـنـه يـبـقـى درة مــن درر الــعــمــارة اإلســالمــيــة بــالــشــرق، وأكـثـر آثـــار الـقـاهـرة اإلسـالمـيـة تناسقا وانسجاما، ويمثل قمة نضوج الـعـمـارة اململوكية. وهو يتكون من مسجد ومدرسة للمذاهب األربعة (الشافعية والحنفية واملالكية والحنبلية)، وكــــانــــت تــــــــــدرس فــيــهــا أيـــضـــا عـــلـــوم تـفـسـيـر الـقـرآن، والحديث النبوي، والــقــراءات السبع، باإلضافة إلى مكتبن لتحفيظ األيتام القرآن وتعليمهم الخط. تقع مدرسة السلطان حسن في سوق الخيل الـــقـــديـــم الـــــذي كــــان يــضــم قـــصـــرًا أمــــر بـبـنـائـه الــنــاصــر مـحـمـد بـــن قـــــالوون لــســكــنــى األمــيــر يلبغا اليحياوي، ثم قام السلطان حسن بهدم هذا القصر وبنى محله هذه املدرسة. ومــــن املــجــمــعــات املــمــلــوكــيــة الــــبــــارزة األخــــرى فـي القاهرة خـالل الحقبة البحرية املتأخرة: مـــدرســـة أم الــســلــطــان شـــعـــبـــان، وهــــي عــبــارة عـــن مـجـمـع مـمـلـوكـي يــقــع فـــي مـنـطـقـة الـــدرب األحـــمـــر، تـــم تـأسـيـسـهـا عــــام 1368 بـــأمـــر من السلطان األشــرف شعبان بن الناصر محمد بن قـالوون، تكريما لوالدته خوند بركة، يقع خارج باب زويلة بمحاذاة شارع التبانة.
الحقبة البرجية
لم يحد سالطن الحقبة البرجية عن التقاليد املعمارية التي أرسـاهـا أسالفهم البحريون. وعـــلـــى الــــرغــــم مــــن اضــــطــــراب األمـــــــور نـتـيـجـة األوبــــئــــة والــــصــــراع عــلــى كـــرســـي الــحــكــم بن أمـــراء هــذه الحقبة، يمكن أن نقول إن فترتي حكم بارسباي (حكم من 1422 حتى ،)1438 وقايتباي (حكم من 1468 حتى )1496 كانتا فترتي استقرار طويلتن ومثمرتن إلـى حد كبير. فـــي بـــدايـــة الــحــقــبــة الـــبـــرجـــيـــة، قــــام الـسـلـطـان الـظـاهـر بــرقــوق (حـكـم مــن 1382 حتى ،1399 مع انقطاع تخلل هذه الفترة) ببناء مجمعه الجنائزي الرئيس في منطقة بن القصرين، والذي يشبه مسجد ومدرسة السلطان حسن من نواح عديدة، وإن كان أصغر بكثير. ويعد املـجـمـع الـجـنـائـزي لبـنـه فـــرج بــن بــرقــوق من أروع املعالم األثرية في هذه الفترة. وفي أواخر القرن الرابع عشر وأوائل القرن الخامس عشر، أصبحت املـــآذن املبنية بـالـحـجـارة مصقولة بـشـكـل مــتــزايــد، وانــتــشــرت الــقــبــاب الحجرية بــدل من القباب الخشبية، أو تلك املصنوعة مــن الـــطـــوب، كـمـا بـــدأ نـحـت الـقـبـاب بــزخــارف جميلة، وظـهـر السبيل كعنصر مـشـتـرك في جميع املجمعات الدينية. وفي هذه املرحلة كان قايتباي من أكثر رعاة الـــفـــن والـــعـــمـــارة فـــي هــــذه الــحــقــبــة، فــقــد رمـــم أضرحة مكة واملدينة على نطاق واسع، وبنى مــشــيــدات جـــديـــدة فـــي الـــقـــدس. وفـــي الــقــاهــرة ذاتــهــا كـــان مجمع قـايـتـبـاي مــن أكــثــر املعالم غرابة في العمارة اململوكية. كما شهد عهده ذروة الـفـنـون الـزخـرفـيـة، مثل زخـرفـة القباب املنحوتة بالحجر، والتي استمرت حتى عهد السلطان اململوكي األخير األشــرف قانصوه الغوري (حكم من 1501 إلى )1516 الذي بنى مجمعه الخاص، وأجرى إعادة تنظيم وإعادة إعـمـار كبيرة فـي منطقة خــان الخليلي. كما شهدت هذه الحقبة تجريبا متجددًا في شكل املآذن، وعودة في بعض األحيان إلى النماذج األولية املستخدمة في اآلثار السابقة.