Al Araby Al Jadeed

وصيّة كيسنجر األخيرة

- عبد اللطيف السعدون

يـنـقـل عــن ثـعـلـب الـدبـلـوم­ـاسـيـة األمـيـركـ­يـة الــعــجــ­وز هــنــري كـيـسـنـجـ­ر أنـــه فـــي زيــارتــه السرية إلى بكن في ،1971 التي مهدت للقاء التاريخي بن الرئيس األميركي ريتشارد نيكسون والزعيم الصيني ماو تسي تونغ، سأل رئيس الــوزراء الصيني آنـذاك شو إن الي عن رأيـه في الثورة الفرنسية، فأجاب الي بـــأن هـــذا الـــحـــد­ث كـــان قــريــبــ­ا جـــدا في وقته، بحيث ال يبدو معناه واضـحـا. كان األمـــر هـكـذا بالنسبة للصن، أمــة متعددة األلفيات، ال شيء يوضح حدثا ما بالنسبة لها أفضل من اإلحساس بالوقت والتاريخ. لـذلـك ينبض إحـسـاس الصينين بالوقت بمعدل مختلف عن إحساس األميركين به، فعندما يـسـأل أميركي عـن حــدث تاريخي معن سرعان ما يخطر في باله يوم معن فـــي «الــــروزن­ــــامــــ­ة»، فــيــمــا لـــو ســئــل صيني عن الحدث نفسه، يضعه في خانة سالة تـــاريـــ­خـــيـــة، وقــــد عـــرفـــت الـــصـــن 14 سـالـة إمـــبـــر­اطـــوريــ­ـة، اســتــمــ­رت عــشــر مـنـهـا مـــدى أطول من تاريخ الواليات املتحدة بأكمله. هنا تكمن ميزة الصن في مواجهة أميركا، تضيف األدبــيــ­ات الصينية فـارقـا آخـــر، إذ تمثل الصن «حضارة دولة»، أي أن معاملها الحضارية سبقت وعيها كدولة، وضمنت لها رؤية تفوق رؤية دول كثيرة عاصرتها، وال ننسى أن الصن شهدت عملية هيكلة دولٍة استمّرت في التطور في مرحلة كانت أوروبا فيها تعيش في العصور املظلمة. جــعــل هــــذا كــلــه عـــيـــون الــــوالي­ــــات املــتــحـ­ـدة تـــركـــز عــلــى الـــصـــن مــنــذ مـنـتـصـف الــقــرن الـــتـــا­ســـع عــــشــــ­ر، عـــنـــدم­ـــا دخـــــل األســــطـ­ـــول األميركي بحر اليابان، وكانت تعتقد أن عليها «مـهـمـة سـامـيـة وفـــريـــ­دة»، بتعبير الباحث األسترالي في العاقات الدولية، هــيــو وايـــــت، تـتـمـثـل فـــي «تــوجــيــ­ه الـصـن وإحضارها إلى العالم الحديث». وبمعنى آخـــــــر، جــعــلــه­ــا مـــشـــاب­ـــهـــة لـــهـــا عـــلـــى نـحـو أو آخــــر، ولـــم يـخـطـر فـــي بـــال األمـيـركـ­يـن أن لـلـصـيـنـ­يـن حـلـمـهـم املــخــتـ­ـلــف الــنــاتـ­ـج عـــن تـــاريـــ­خ طـــويـــٍل مــمــتــٍد آلالف الــســنــ­ن، ويتوقون إلى استعادته، ومن ثم الدخول إلــــــى الــــعـــ­ـالــــم فـــــي «هــــجــــ­مــــة» اقـــتـــص­ـــاديـــة وتكنولوجية، وحتى سياسية وعسكرية، وهــــــذا مــــا جــــســــ­ده ، فــــي مــــا بـــعـــد، طــمــوح زعــيــمــ­هــا شــــي جــــن بــيــنــغ إلـــــى أن تــكــون بـــاده قـويـة وفـاعـلـة، وفــي مـوقـع املنافس لـــلـــوا­ليـــات املـــتـــ­حـــدة، تـــأهـــي­ـــا وجـــاهـــ­زيـــة، والعامل على إنهاء هيمنة القطب الواحد، والــســعـ­ـي إلـــى رســـم مـــســـار­ات حـقـبـة عـالـم متعدد األقطاب بدأت طائعه في التحقق. كان هنري كيسنجر الذي يصفه مجايلوه بــــأنـــ­ـه الــــدبــ­ــلــــومـ­ـــاســــي األمـــــي­ـــــركـــ­ــي األكــــثـ­ـــر خبرة في الشؤون الصينية أول من تنبأ بـعـظـمـة الـــصـــن وبــــالــ­ــدور الـــــذي تـــريـــد أن تلعبه. ولذلك طرح فكرة تعايش الواليات املتحدة معها، واعتبرت زيارته تلك بكن اخــتــراق­ــا دبـلـومـاس­ـيـا الفــتــا ســاهــم بشكل مباشر في ضمان أمن العالم وسامه، لكن مـا شهدته العاقات الصينية األميركية فـــي الـــســـن­ـــوات األخـــيــ­ـرة مــثــل تــراجــعـ­ـا عن هذا التوجه، وأعاد أجواء الحرب الباردة، بخاصة بعد أن تحولت عقدة تايوان إلى بــــؤرة لــتــهــد­يــدات مــتــبــا­دلــة بـــن الــطــرفـ­ـن. وبالطبع، كان ال بد أن ينعكس ذلك سلبا على سام العالم وأمنه. وقد ظل كيسنجر الـذي أطفأ شمعته املائة قبل أيـام ملتزما بوجهة نظره عن الصن. وفي آخر حديث لــه دعـــا األمـيـركـ­يـن والصينين مـعـا إلـى أن يتعلموا كيف يتعايشون، تلك كانت وصيته األخيرة للقوتن العظمين محذرا من أن أمامهما زمنا محدودا، أقل من عشر ســـنـــوا­ت، وإال فــإنــهــ­مــا ســتــدفــ­عــان الـعـالـم إلـــى كـــارثـــ­ة دونـــهـــ­ا كـــــوارث الــحــربـ­ـن الـتـي عــانــت منها الـبـشـريـ­ة، وذكــرهــم­ــا بمقولة للفيلسوف األملاني إيمانويل كانط في أن الــســام يــحــدث مــن خــال أحــد أمــريــن، إما أن يتفهم الــقــادة املعنيون أهميته، أو أن تحدث كارثة ما تؤسس للسام، وهو هنا يشبه الوضع العاملي املاثل بلحظة ما قبل الحرب األولى، حيث رفض أي من الطرفن املتحاربن التنازل عن بغلته، وكان ال بد من أن تحدث الكارثة. يـــبـــدو أن «صـــــقـــ­ــور» اإلدارات األمـــيــ­ـركـــيـــ­ة املتعاقبة مــن ديمقراطين أو جمهورين ال يـــــروق لــهــم الـتـحـلـي­ـل الـــــذي يـــصـــر عليه كـيـسـنـجـ­ر، لـكـن هـــذا لــم يـمـنـع أصـــواتــ­ـا من أن تــرتــفــ­ع مـــجـــدد­ا مـــحـــذر­ة مــمــا قـــد تـــؤول إلــيــه األوضـــــ­ـاع. وفـــي آخـــر جـلـسـة اسـتـمـاع لــــلــــ­كــــونـــ­ـغــــرس عــــــن الــــــصـ­ـــــن، قـــــــال أعــــضـــ­ـاء برملانيون إن على أميركا والصن التعامل بطريقة سلمية، واحــتــوا­ء الــنــزاع املحتمل بــشــأن تـــايـــو­ان، ألنـــه ســـيـــؤد­ي إلـــى «تدمير الـــعـــا­لـــم كـــــلـــ­ــه». وهــــكـــ­ـذا لــــم تـــعـــد الــلــحــ­ظــة الــســاخـ­ـنــة بـــن بــكــن وواشـــنــ­ـطـــن احــتــمــ­اال فـحـسـب، فـهـي مـاثـلـة فــي األفــــق، فـهـل يقرأ حكماء العالم وصية كيسنجر بإمعان؟

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar