وصيّة كيسنجر األخيرة
يـنـقـل عــن ثـعـلـب الـدبـلـومـاسـيـة األمـيـركـيـة الــعــجــوز هــنــري كـيـسـنـجـر أنـــه فـــي زيــارتــه السرية إلى بكن في ،1971 التي مهدت للقاء التاريخي بن الرئيس األميركي ريتشارد نيكسون والزعيم الصيني ماو تسي تونغ، سأل رئيس الــوزراء الصيني آنـذاك شو إن الي عن رأيـه في الثورة الفرنسية، فأجاب الي بـــأن هـــذا الـــحـــدث كـــان قــريــبــا جـــدا في وقته، بحيث ال يبدو معناه واضـحـا. كان األمـــر هـكـذا بالنسبة للصن، أمــة متعددة األلفيات، ال شيء يوضح حدثا ما بالنسبة لها أفضل من اإلحساس بالوقت والتاريخ. لـذلـك ينبض إحـسـاس الصينين بالوقت بمعدل مختلف عن إحساس األميركين به، فعندما يـسـأل أميركي عـن حــدث تاريخي معن سرعان ما يخطر في باله يوم معن فـــي «الــــروزنــــامــــة»، فــيــمــا لـــو ســئــل صيني عن الحدث نفسه، يضعه في خانة سالة تـــاريـــخـــيـــة، وقــــد عـــرفـــت الـــصـــن 14 سـالـة إمـــبـــراطـــوريـــة، اســتــمــرت عــشــر مـنـهـا مـــدى أطول من تاريخ الواليات املتحدة بأكمله. هنا تكمن ميزة الصن في مواجهة أميركا، تضيف األدبــيــات الصينية فـارقـا آخـــر، إذ تمثل الصن «حضارة دولة»، أي أن معاملها الحضارية سبقت وعيها كدولة، وضمنت لها رؤية تفوق رؤية دول كثيرة عاصرتها، وال ننسى أن الصن شهدت عملية هيكلة دولٍة استمّرت في التطور في مرحلة كانت أوروبا فيها تعيش في العصور املظلمة. جــعــل هــــذا كــلــه عـــيـــون الــــواليــــات املــتــحــدة تـــركـــز عــلــى الـــصـــن مــنــذ مـنـتـصـف الــقــرن الـــتـــاســـع عــــشــــر، عـــنـــدمـــا دخـــــل األســــطــــول األميركي بحر اليابان، وكانت تعتقد أن عليها «مـهـمـة سـامـيـة وفـــريـــدة»، بتعبير الباحث األسترالي في العاقات الدولية، هــيــو وايـــــت، تـتـمـثـل فـــي «تــوجــيــه الـصـن وإحضارها إلى العالم الحديث». وبمعنى آخـــــــر، جــعــلــهــا مـــشـــابـــهـــة لـــهـــا عـــلـــى نـحـو أو آخــــر، ولـــم يـخـطـر فـــي بـــال األمـيـركـيـن أن لـلـصـيـنـيـن حـلـمـهـم املــخــتــلــف الــنــاتــج عـــن تـــاريـــخ طـــويـــٍل مــمــتــٍد آلالف الــســنــن، ويتوقون إلى استعادته، ومن ثم الدخول إلــــــى الــــعــــالــــم فـــــي «هــــجــــمــــة» اقـــتـــصـــاديـــة وتكنولوجية، وحتى سياسية وعسكرية، وهــــــذا مــــا جــــســــده ، فــــي مــــا بـــعـــد، طــمــوح زعــيــمــهــا شــــي جــــن بــيــنــغ إلـــــى أن تــكــون بـــاده قـويـة وفـاعـلـة، وفــي مـوقـع املنافس لـــلـــواليـــات املـــتـــحـــدة، تـــأهـــيـــا وجـــاهـــزيـــة، والعامل على إنهاء هيمنة القطب الواحد، والــســعــي إلـــى رســـم مـــســـارات حـقـبـة عـالـم متعدد األقطاب بدأت طائعه في التحقق. كان هنري كيسنجر الذي يصفه مجايلوه بــــأنــــه الــــدبــــلــــومــــاســــي األمـــــيـــــركـــــي األكــــثــــر خبرة في الشؤون الصينية أول من تنبأ بـعـظـمـة الـــصـــن وبــــالــــدور الـــــذي تـــريـــد أن تلعبه. ولذلك طرح فكرة تعايش الواليات املتحدة معها، واعتبرت زيارته تلك بكن اخــتــراقــا دبـلـومـاسـيـا الفــتــا ســاهــم بشكل مباشر في ضمان أمن العالم وسامه، لكن مـا شهدته العاقات الصينية األميركية فـــي الـــســـنـــوات األخـــيـــرة مــثــل تــراجــعــا عن هذا التوجه، وأعاد أجواء الحرب الباردة، بخاصة بعد أن تحولت عقدة تايوان إلى بــــؤرة لــتــهــديــدات مــتــبــادلــة بـــن الــطــرفــن. وبالطبع، كان ال بد أن ينعكس ذلك سلبا على سام العالم وأمنه. وقد ظل كيسنجر الـذي أطفأ شمعته املائة قبل أيـام ملتزما بوجهة نظره عن الصن. وفي آخر حديث لــه دعـــا األمـيـركـيـن والصينين مـعـا إلـى أن يتعلموا كيف يتعايشون، تلك كانت وصيته األخيرة للقوتن العظمين محذرا من أن أمامهما زمنا محدودا، أقل من عشر ســـنـــوات، وإال فــإنــهــمــا ســتــدفــعــان الـعـالـم إلـــى كـــارثـــة دونـــهـــا كـــــوارث الــحــربــن الـتـي عــانــت منها الـبـشـريـة، وذكــرهــمــا بمقولة للفيلسوف األملاني إيمانويل كانط في أن الــســام يــحــدث مــن خــال أحــد أمــريــن، إما أن يتفهم الــقــادة املعنيون أهميته، أو أن تحدث كارثة ما تؤسس للسام، وهو هنا يشبه الوضع العاملي املاثل بلحظة ما قبل الحرب األولى، حيث رفض أي من الطرفن املتحاربن التنازل عن بغلته، وكان ال بد من أن تحدث الكارثة. يـــبـــدو أن «صـــــقـــــور» اإلدارات األمـــيـــركـــيـــة املتعاقبة مــن ديمقراطين أو جمهورين ال يـــــروق لــهــم الـتـحـلـيـل الـــــذي يـــصـــر عليه كـيـسـنـجـر، لـكـن هـــذا لــم يـمـنـع أصـــواتـــا من أن تــرتــفــع مـــجـــددا مـــحـــذرة مــمــا قـــد تـــؤول إلــيــه األوضــــــاع. وفـــي آخـــر جـلـسـة اسـتـمـاع لــــلــــكــــونــــغــــرس عــــــن الــــــصــــــن، قـــــــال أعــــضــــاء برملانيون إن على أميركا والصن التعامل بطريقة سلمية، واحــتــواء الــنــزاع املحتمل بــشــأن تـــايـــوان، ألنـــه ســـيـــؤدي إلـــى «تدمير الـــعـــالـــم كـــــلـــــه». وهــــكــــذا لــــم تـــعـــد الــلــحــظــة الــســاخــنــة بـــن بــكــن وواشـــنـــطـــن احــتــمــاال فـحـسـب، فـهـي مـاثـلـة فــي األفــــق، فـهـل يقرأ حكماء العالم وصية كيسنجر بإمعان؟