Al Araby Al Jadeed

«تصفير مشاكل» داخلية لتركيا

- أرنست خوري

الـجـديـد الـــذي أظـهـرتـه االنـتـخـا­بـات الرئاسية والتشريعية فـي تركيا ليس جديدًا حقًا. ال انقالبات دراماتيكية في مركبات الهوية السياسية لهذا البلد الشاسع واملعقد ديمغرافيًا. األكـراد بغالبيتهم انتخبوا نوابهم القوميني وصوتوا رئاسيًا ضـد رجــب طيب أردوغـــان أكثر مما صـوتـوا لكمال كلجدار أوغـلـو املتحالف مع قوميني وفاشيني يتمنون املوت صبحًا ومساء لألكراد. العلويون كذلك حافظوا على تراثهم الكمالي تصويتًا لحزب أتاتورك، «الشعب الجمهوري». سكان واليات عمق األناضول والبحر األسـود شماال وجـزء من الجنوب ظلوا أوفياء لـ«تحالف الجمهور»، أي ألردوغان وحزبه «العدالة والتنمية» ولحليفه اليميني املتطرف دولت بهشلي. سكان املدن الثالث الكبرى (إسطنبول وأنقرة وإزمير) فضلوا مرة جديدة ما يمثله العلمانيون. فاز أردوغان في 52 والية في مقابل 29 لكلجدار أوغلو، وهو ما كـان يحصل تقريبًا في الـــدورات االنتخابية املاضية. تعكس نسبة املشاركة املرتفعة )%85.71( حــدة االنقسام العمودي املشابه ملا أظهرته انتخابات عامة سابقة في تركيا استحقت لقب «التاريخية»، كحال انتخابات 12 يونيو/ حزيران 2011 التي عـادل فيها أردوغــان وحزبه رقمًا قياسيًا كان مسجال باسم عدنان مندريس وحزبه «الديمقراطي» قبل نصف قرن، لجهة الفوز في ثالثة استحقاقات انتخابية متتالية. حـــزب الـعـدالـة والتنمية انخفضت شعبيته مــع %35.58 من األصـوات في االنتخابات التشريعية، مقارنة مع %42.56 عام .2018 لكن النظام الـرئـاسـي سيعيش خـمـس ســنــوات إضـافـيـة، بـمـا أن الغالبية الـبـرملـا­نـيـة مـتـوفـرة للرئيس 322( مقعدًا من أصل ،)600 وسيغادر أردوغــان منصبه في 2028 عن 74 عامًا، أي أصغر بعام من عمر كمال كلجدار أوغلو اليوم، هو الذي عاب عليه كثيرون تمسكه املرضي بمنصبه الحزبي وبصفته مرشحًا مزمنًا ضد أردوغان رغـم تقدمه في السن. هـذا عبور عرضي على ما تقوله بعض أرقــام االنتخابات ومعطياتها. األصعب يكمن في مكان آخر، في تمني نيل اعتراف بأن من العسير أن تصعد تركيا عاليًا في درجات السلم األهلي والتطور والديمقراط­ية واالنفتاح ما لم تحل أزمتها الوجودية مع األكراد. يصعب أن تتجاوز تركيا نواقص املواطنة واملـسـاوا­ة فيها، قبل أن تستنفر مؤسسات حكمها مخيلتها وأفكارها الجريئة إلبرام صفقة تاريخية، تعني حكمًا جرأة تقديم التنازالت املتبادلة وضرورة اختراع نظرية كالتي ابتدعها أحمد داود أوغلو للسياسة الخارجية، «تصفير املشاكل». حـاول داود أوغلو تطوير نسخة محلية من هـذا «التصفير» مع األكـــراد، وهـو ما كان سينعكس، بطبيعة الحال، على العالقة بأكراد البلدان املجاورة. قبل 12 عامًا، جـرت لقاءات عديدة وعقدت مؤتمرات من ديــار بكر إلـى إسطنبول برعاية داود أوغلو وحضوره. بقية القصة معروفة، غادر داود أوغلو السلطة في 2016 ليصبح معارضًا راديكاليًا ألردوغــان. قبل ذلـك، عرفت تركيا جـوالٍت في محاولة إرساء تلك املصالحة. زيارة الرئيس عبد الله غول إلى ديار بكر في نهاية ديسمبر/ كانون األول 2010 كانت صفحة في ذلك الكتاب، كذلك اجتماعه مع صقر القوميني األكراد حينها، رئيس بلدية ديار بكر، عثمان بيدمير. قبلها بعامني، في ،2008 كسر غول التابو األعظم، ونطق بثالث كلماٍت كانت محّرمة آنذاك: «إقليم كردستان العراق»، بدل املصطلح الرسمي اإللزامي «حكومة إقليم شمال العراق». كان مشروعًا واعدًا في إطار «خطة االنفتاح الديمقراطي». واكبها حزب العمال الكردستاني بهدنات طويلة حتى صدر حينها قرار بالتفاوض مع أوجالن في سجنه. كل ذلك عمره 10 و21 عامًا فقط. فشل كل شيء ألسباب عديدة أبرزها قناعة رجب طيب أردوغان بأنه ليس بحاجة ملثل هذه املصالحة التاريخية، وأن ال شيء اسمه «قضية كردية». كلما عال صراخ القوميات والشوفينية والشعبوية خفت صوت العقل، من دون أن تخبو الحقيقة: تركيا املتصالحة مع أكرادها هي تركيا ديمقراطية أكثر وتركيا أجمل ملواطنيها وللمقيمني فيها ولجيرانها وللعالم.

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar