Al Araby Al Jadeed

دروس االنتخابات التركية للعرب

- علي أنوزال

حــمــلــت االنـــتــ­ـخـــابـــ­ات الــرئــاس­ــيــة الـتـركـيـ­ة عـــــــدة دروس لـــلـــمـ­ــبـــتـــ­دئـــن فـــــي مــــدرســ­ــة الديمقراطي­ة، وبما أنـه ال وجـود لتجربة ديمقراطية ناجحة وناضجة في املنطقة الــــعـــ­ـربــــيــ­ــة، بـــاســـت­ـــثـــنــ­ـاء الــــتـــ­ـي أجــهــضــ­هــا العسكر في مصر، وتلك في تونس التي يــــمــــ­ارس عــلــيــه­ــا قـــيـــس ســـعـــيـ­ــد ســـاديـــ­تـــه وهــــو يـقـتـلـهـ­ا يــومــيــ­ا عـــمـــدًا وبــــبـــ­ـطء، من دون الحديث عن التجربة اللبنانية التي تحولت إلــى حالة إكلينكية مـعـقـدة، فقد حملت االنتخابات التركية أخيرًا دروسا عديدة تصلح للدول في املنطقة العربية التي ظلت عصية على رياح الديمقراطي­ة وفشلت فيها، أو جرى إفشال كل تجارب االنــتــق­ــال الـديـمـقـ­راطـي الـتـي تـحـولـت إلـى حاالت مشوهة تستدعي القتل الرحيم ملا باتت تسببه للمواطن مـن جهل وتفقير ولالقتصاد من نهب وإفالس وللدول من فـسـاد وخــــراب. صـحـيـح أن الديمقراطي­ة الـــتـــر­كـــيـــة لــيــســت نـــمـــوذ­جـــيـــة، خــصــوصــ­ا فـي الـسـنـوات األخــيــر­ة، منذ قـــرر الرئيس أردوغــــا­ن تحويل نـظـام الحكم إلــى نظام رئــــاســ­ــي، تـــحـــول إلــــى شــبــه «دكـــتـــا­تـــوريـــ­ة مـــنـــتـ­ــخـــبـــ­ة»، بــحــيــث تـــراجـــ­عـــت فــيــهــا قـيـم ديــمــقــ­راطــيــة عـــديـــد­ة، وتــقــلــ­ص فـــي ظلها هامش الحريات، وارتفع منسوب القمع، ورافقت ذلك نكسات كبيرة على املستوين االقتصادي واالجتماعي، بفعل التضخم وارتــــــ­ــفـــــــ­ـاع األســــــ­ــعـــــــ­ـار. وعـــــلــ­ـــى املـــســـ­تـــوى الـــخـــا­رجـــي، فــقــد «الـــنـــم­ـــوذج الــتــركـ­ـي» في املنطقة العربية الكثير من الهالة التي كان يحظى بها زعيمه، خصوصا بعد تطبيعه مع أنظمة عربية مستبدة وقمعية طاملا انــتــقــ­د قـمـعـهـا شـعـوبـهـا وانــقــال­بــهــا على اخـــتـــي­ـــاراتـــ­هـــا، بـــاإلضــ­ـافـــة إلــــى اسـتـئـنـا­ف عـــالقـــ­اتـــه مــــع الـــكـــي­ـــان الــصــهــ­يــونــي الــتــي شكلت صدمة ملن كان يرى في تركيا درعا ملــواجــه­ــة غـطـرسـة االحـــتــ­ـالل اإلسـرائـي­ـلـي وعنفه. كما أن أردوغـــان متهم بتقويض أسس الديمقراطي­ة العلمانية في تركيا، وإخضاع املؤسسات إلرادته، ودفع الدين إلى الفضاء العام، وبناء شبكٍة قويٍة من املــحــسـ­ـوبــيــة عــبــر املــجــتـ­ـمــع، وغــيــرهـ­ـا من االنتقادات التي تطاول الزعيم التركي. لــــــكــ­ــــن، فـــــــي الـــــــو­قـــــــت الــــــــ­ـــذي تــــعــــ­يــــش فـــيـــه الــديــمـ­ـقــراطــي­ــة فـــي دوٍل عـــريـــق­ـــٍة نــكــســاٍت وخــــيـــ­ـبــــات أدت إلــــــى هــــجــــ­رة الـــنـــا­خـــبـــن صــــنــــ­اديــــق االقــــــ­ـتـــــــر­اع، مـــــا أفــــســـ­ـح املـــجـــ­ال لــــلــــ­تــــيــــ­ارات الـــشـــع­ـــبـــويـ­ــة لـــتـــمـ­ــأ الـــــفــ­ـــراغ، وتــتــراج­ــع تـجـاربـهـ­ا فــي مـنـاطـق مــا زالــت تـــتـــخـ­ــبـــط فــــي مــــراحــ­ــل االنــــتـ­ـــقــــال الــــتـــ­ـي ال يـــنـــتـ­ــهـــي، لــتــفــس­ــح املــــجــ­ــال لــــعــــ­ودة شـبـح الدكتاتوري­ة واألوتوقرا­طية واالستبداد بكل أشكاله وأنواعه، أعطتنا االنتخابات التركية دروسا ملفتة لالنتباه تعيد الثقة بــصــنــا­ديــق االقـــــت­ـــــراع، وتـــحـــط­ـــم الـــصـــو­رة املــتــشـ­ـائــمــة الـــتـــي كــــان كـــثـــيـ­ــرون يـخـشـون مـــن أن تــســود املــشــهـ­ـد، فـــي حــــال حـصـول انتكاسة كبيرة خــالل هــذه االنـتـخـا­بـات، تـــعـــيـ­ــد تـــركـــي­ـــا إلــــــى مــعــســك­ــر االســــتـ­ـــبــــدا­د الشرقي. الــــــــ­ــدرس املـــــهـ­ــــم والــــكــ­ــبــــيــ­ــر الــــــــ­ـذي أعـــطـــت­ـــه االنــتــخ­ــابــات الــتــركـ­ـيــة لـلـعـالـم أجـــمـــع، في دوريـــهــ­ـا األول والــثــان­ــي، رســالــة أمـــل بـأن الديمقراطي­ة بوصفها نظاما للمحاسبة والــــتــ­ــداول الـسـلـمـي عـلـى الـحـكـم مـــا زالـــت

بــــخــــ­يــــر. وبـــــالـ­ــــرغــــ­ـم مــــــن كــــــل املـــــــ­ؤاخـــــــ­ذات الــــتـــ­ـي يـــمـــكـ­ــن تــســجــي­ــلــهــا عـــلـــى الــتــجــ­ربــة الــديــمـ­ـقــراطــي­ــة الــتــركـ­ـيــة إال أنــهــا مـــا زالـــت بخير، بدليل تشبث األغلبية الساحقة من الشعب الـتـركـي بها سبيال للتعبير عن آرائهم وتقرير مصيرهم ومصير بلدهم. والفريد في التجربة التركية أن النموذج والـــــــ­درس هــــذه املــــــر­ة يـــأتـــي­ـــان مـــن الــشــرق االســتــب­ــدادي ومــن شعوبه الـتـي تستكثر عـلـيـه أنـظـمـتـه الـقـمـعـي­ـة مــمــارسـ­ـة عملية االخـــتــ­ـيـــار الـــحـــر بــــدعـــ­ـوى عـــــدم نـضـجـهـا وتــأهــلـ­ـهــا ملــمــارس­ــتــهــا، ويـــرفـــ­ض الـــغـــر­ب، بتعال مبالغ فيه، االعتراف بقدرتها على االحـــتــ­ـكـــام إلــــى صــنــاديـ­ـق االقــــتـ­ـــراع بـــدون تزوير أو إسالة الدماء. وبالنسبة للعرب، وخصوصا الشعوب التواقة إلى الحرية والـديـمـق­ـراطـيـة، يمكنها أن تستفيد من دروس كثيرة حملتها االنتخابات التركية، مثل درس االحتكام إلى صناديق االقتراع لتكون الفيصل عندما يحتدم االصطفاف وتتعالى نبرة النعرات الشوفينية داخل املجتمعات، فصناديق االقــتــر­اع مـا زالـت املـكـان اآلمــن واألقـــل كلفة لحل الخالفات، وتــجــنــ­يــب املــجــتـ­ـمــعــات الـــحـــر­وب األهـلـيـة ومآسيها ودمارها. يتعلق الدرس الثاني مـــــن هــــــذه االنــــتـ­ـــخــــاب­ــــات بــــنــــ­زاهــــة عـمـلـيـة االقتراع وشفافيتها، ألنها هي التي تعزز ثـقـة املــواطــ­ن بـصـنـاديـ­ق االقـــتــ­ـراع. عندما تـكـون االنـتـخـا­بـات ذات مـصـداقـيـ­ة، ويتم فيها احترام قواعد اللعبة، وتكون الحملة االنتخابية مفتوحة ومتكافئة، ويشعر الناس بأنهم أحــرار في اختيارهم، تزيد ثقتهم بالعملية، ويـقـل عــدم يقينهم في جـــدواهــ­ـا، فـــاألمــ­ـر يـتـعـلـق، أوال وقــبــل كل شــيء، بقدرة الـدولـة على احـتـرام معايير الـشـفـافـ­يـة ونـــزاهــ­ـة االقــــتـ­ـــراع. لــذلــك فـاجـأ الناخبون األتــراك العالم بنسب املشاركة االستثنائي­ة في الـدوريـن األول والثاني، وهي عالوة على كونها عالمة على صحة الديمقراطي­ة الـتـركـيـ­ة، فهي تعني أيضا أن املـواطـن التركي كـان مقتنعا فعال بأن لــصــوتــ­ه قـيـمـة داخــــل صـــنـــدو­ق االقـــتــ­ـراع، وبأنه هو سيد قراره داخل بلده. الــــــدر­س الـــثـــا­لـــث، ويــتــمــ­ثــل هــــذه املــــــر­ة في فلسفة االنـتـخـا­بـات أو مقصدها، عملية للمحاسبة ّواملساءلةّ واملراقبة يمارسها الشعب بحرية في حق من يوليهم تدبير شــؤونــه، فقد أثبتت التجربة التركية أن اإلنجاز عندما يكون واقعيا وتصل ثماره إلـى الناس تتم مكافأته ومـجـازاتـ­ه، وفي هــــذا تــعــبــي­ــر قـــــوي عــلــى أن وعــــي الـشـعـب يبقى هو الحكم والسيد واآلمر والناهي. الــدرس الـرابـع، وهــذا موجه إلـى الراغبن فـــــي تـــثـــبـ­ــيـــت أنـــفـــس­ـــهـــم حــــكــــ­امــــا دائــــمــ­ــن لبلدانهم، فاالستمرار فـي الحكم ممكن، لـــكـــن بـــطـــري­ـــقـــة ديـــمـــق­ـــراطـــي­ـــة، وبـــالـــ­عـــودة الــدوريــ­ة إلــى صناديق االقــتــر­اع لتزكيته. لقد أثبتت هذه االنتخابات أن الزعيم ليس هو الرئيس املستبد أو رئيس العصابة أو قائد القبيلة أو العشيرة أو القومية، ولكن الــزعــيـ­ـم هــو مــن تــزكــي زعــامــتـ­ـه صـنـاديـق االقتراع في كل مرة يريد فيها تجديد ثقة الناس فيه وفي برامجه. الدرس الخامس، وهـــــــذ­ا مـــــوجــ­ـــه إلــــــى اإلســــــ­ـــالم الـــســـي­ـــاســـي وأنصاره، فالفشل ال يعني موت النموذج، والدليل أن النموذج التركي ما زال يحقق االنـــتــ­ـصـــار فـــي بـيـئـة مــعــقــد­ة مــثــل البيئة التركية، وداخل مجتمع دستوره علماني،

الزعيم هو من تزكي زعامته صناديق االقتراع في كل مّرة يريد فيها تجديد ثقة الناس فيه وفي برامجه

وأمام معارضة قوية مشكلة من علمانين ويـــــســ­ـــاريــــ­ـن ولــــيـــ­ـبــــرالـ­ـــيــــن، فــــالـــ­ـنــــمـــ­ـوذج عندما يكون نابعا من املجتمع ملتصقا ومستجيبا إلرادة الناس ال يمكن هزمه أو القضاء عليه وباألحرى استئصاله، وهذا تعبير ال نجده إال فـي منطقتنا العربية التي ما زالت تمتح تعابيرها السياسية مــن قــامــوس مـشـافـي األمـــــر­اض الخبيثة. جاء الدرس اآلخر من هذه االنتخابات من املعارضة التي كانت مشتتة تضم ألـوان طيف متنافرة، لكنها نجحت في توحيد صفوفها، وانضباط منتسبيها، وتجلى ذلك في النسبة املهمة من األصـوات التي نــالــهــ­ا مــرشــحــ­هــا الــتــواف­ــقــي فـــي الـــدوريـ­ــن األول والـــثـــ­انـــي مـــع الــحــفــ­اظ عــلــى وحـــدة صــفــهــا وزخـــــم تـعـبـئـة مـنـاضـلـي­ـهـا حتى آخــــر لــحــظــة فـــي الــتــنــ­افــس الــديــمـ­ـقــراطــي. وأخيرًا وليس آخرًا، الدرس املهم من هذه االنتخابات هـو ذلـك املـوجـه إلـى الشباب الــعــربـ­ـي الــــذي يـمـثـل أغـلـبـيـة الــســكــ­ان في املنطقة العربية، فقد شهدت االنتخابات التركية مشاركة أكثر مـن خمسة مالين شابة وشاب تركي، شاركوا باالنتخابا­ت أول مــــــرة فــــي حـــيـــات­ـــهـــم، وهـــــو مــــا يـمـثـل أكـــثـــر مــــن %70 مــــن هـــــذه الـــفـــئ­ـــة، وكـــانـــ­ت هــــــذه أحــــســـ­ـن وأكـــــبـ­ــــر مــــفــــ­اجــــأة حــمــلــت­ــهــا االنتخابات التركية للعالم، وهي قدرتها عــــلــــ­ى جـــــــذب جــــيــــ­ل تــــقــــ­نــــيــــ­ات الــــتـــ­ـواصــــل الحديث والفضاءات االفتراضية والذكاء االصطناعي، لتجريب أقدم نظام للتداول الـسـيـاسـ­ي اكتشفته الـبـشـريـ­ة، وفـــي هـذا قيمة إضافية للعملية الديمقراطي­ة. خـــالصـــ­ة الــــقـــ­ـول: فـــــاز الـــرئـــ­يـــس أردوغـــــ­ــان بوالية ثانية، وليس في هذا الفوز جديد، ألن الــــرجــ­ــل ظــــل يـــفـــوز فــــي االنـــتــ­ـخـــابـــ­ات مـنـذ كـــان رئـيـسـا لبلدية إسـطـنـبـو­ل، لكن الــرابــح األكـبـر فـي هــذه االنـتـخـا­بـات ليس هـو أردوغــــا­ن، وإنـمـا تركيا التي وضعت نفسها فــي مــصــاف الــــدول الـديـمـقـ­راطـيـة الكبيرة، والشعب التركي الذي أكد تمسكه بـــصـــنـ­ــاديـــق االقــــــ­تــــــراع مـــكـــان­ـــا لــلــتــن­ــافــس الــحــضــ­اري، وربــحــت فـيـهـا الـديـمـقـ­راطـيـة نـــمـــوذ­جـــا لــلــحــك­ــم، لـــيـــس مـــثـــال­ـــيـــا، ولـكـنـه سيبقى األحسن الــذي اكتشفته البشرية كما كان يقول الزعيم البريطاني ونستون تـشـرشـل. ويبقى الـــدرس الكبير مـن هذه االنتخابات للعالم أن النظام الديمقراطي ما زال بخير.

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar