Al Araby Al Jadeed

تلك االنقسامات

- مروان قبالن

لطاملا كانت االنقسامات واالستقطاب­ات سمة بارزة من سمات النظام الدولي وتفاعالته، لكنها باتت أيضا السمة الغالبة داخل الـدول واملجتمعات، وتهدد بتحولها اليوم إلى مصدر الصراع األول في مناطق عديدة، فحيثما نظرت تجد الشعوب واملجتمعات منقسمة عـلـى ذاتـــهـــ­ا، وقـــد يـصـل هـــذا االنــقــس­ــام إلـــى حــد الـــنـــز­اع املـسـلـح والــحــرو­ب األهلية، كما يحصل في منطقتنا العربية، مثال. أسباب االنقسام، بعد أن تراجع دور األيديولوج­يا، وإن كانت تحضر بلبوس وأشكال مختلفة أحيانا (إسالمي - علماني، محافظ - ليبرالي)، متعددة تبدأ بالصراع على توزيع السلطة والثروة، حيث يحتدم الخالف بشأن السياسات والبرامج االقتصادية واالجتماعي­ة، والتمثيل السياسي، وصوال إلى مسائل اللجوء والهجرة والتحديات التي يفرضها التعدد الثقافي واإلثني في مجتمعات حديثة، أو التنوع املذهبي والطائفي والقبلي في مجتمعات تقليدية، مرورا باالنقسام حول شكل نظام الحكم (ملكي - جمهوري أو رئاسي - برملاني)، وحتى حـول شخصيات قـادة وزعـمـاء، يتحولون بحضورهم الطاغي إلـى موضع انقسام عميق في مجتمعاتهم، كما هو الحال في أميركا (ترامب) وإسرائيل (نتنياهو). ويكاد ال يخلو مجتمع اليوم من انقسامات، واستقطابات، عميقة تهدد نسيجه االجتماعي وتماسكه السياسي، بدءا بأكثر النظم الديمقراطي­ة عراقة في العالم (الواليات املتحدة مثال) وصوال إلى أكثرها استبدادا، سواء كانت علمانية التوجه (الصني) أو ثيوقراطية (إيران) وما بينهما من نظم هجينة. بضع حاالت بدت الفتة في الفترة األخيرة لجهة عمق انقساماتها األهلية، أبـرزهـا الـواليـات املتحدة، إسرائيل، إيـــران، وتركيا. ففي الــواليــ­ات املتحدة تتعمق االنقسامات الحزبية واملجتمعية منذ مطلع التسعينيات (رئــاســة بيل كلينتون) بـني فـئـات يمينية بيضاء، تتدهور أوضـاعـهـا االقتصادية واالجتماعي­ة باستمرار، وباتت تخشى من تحولها إلى أقلية نتيجة موجات الهجرة واللجوء املتنامية، وبني بقية الفئات االجتماعية (امللونة في غالبيتها) التي تناضل ضد عنصرية متأصلة في املجتمع، وتسعى من أجل فرص متكافئة. في إسرائيل يبرز االنقسام جليا بني معسكر اليمني املتطرف الذي يشمل أتباع الصهيونية الدينية واليمني الفاشي من جهة والقوى العلمانية (االشتراكية ثم الليبرالية) التي مثلت أغلبية في إسرائيل خالل العقود األولى لقيامها. وقد بلغ االنقسام ذروته في محاوالت اليمن الديني والقومي إخضاع القضاء ألجندته، وردة الفعل التي حصلت من الطرف اآلخر، وتمثلت في االحتجاجات الواسعة التي دفعت رئيس الوزراء نتنياهو إلى التراجع، بعد أن أخذ االنقسام أبعادا خطرة بوصوله إلى الجيش وأجهزة األمن. في إيران، تزداد الهوة بني نظام أحادي مغترب عن مجتمعه، يعتمد في بقائه على أجهزة األمن والقاعدة االجتماعية املرتبطة بها اقتصاديا، ومجتمع تعددي متعلم، اعتادت طبقاته الوسطى االنفتاح على الخارج والتفاعل معه. يظهر هذا االنقسام بوضوح في االحتجاجات املتكررة التي تشهدها البالد حول قضايا متنوعة، اقتصادية واجتماعية، وفي هجرة العقول اإليرانية، حيث تسجل إيران أعلى نسبة نزيف أدمغة في العالم (في إيران مثال 1.6 طبيب لكل ألف من السكان في حني أن الحد األدنى بحسب منظمة الصحة العاملية 2.5 طبيب لكل ألف من السكان). في تركيا، برز االنقسام عميقا في االنتخابات أخيرا بني معسكري «الشعب» الحاكم و«األمة» املعارض. ورغم أن االنقسام بدا للوهلة األولى أيديولوجيا ومتمركزا حول هوية البلد (إسـالمـيـة أو علمانية)، إال أن االستفتاء كــان فـي حقيقة األمــر بشأن بقاء الرئيس أردوغـــان أو رحيله، حيث تـــوزع املحافظون والقوميون والعلمانيو­ن واألكراد وغيرهم من ألوان الطيف السياسي التركي على املعسكرين، وكانت املرارة واضحة في معركة انتخابية لم تشهد تركيا مثيال في استقطابها. مع ذلك، ومع أن الناس تصبح أقل تسامحا باستمرار مع االختالفات، إال أنه وفي كل الحاالت التي سقناها تبقى احتمالية لجوئهم إلـى القوة لحل الخالفات أقــل لوجود مؤسسات وطرق للتعبير. في عاملنا العربي، لألسف، إما أن تبقى االنقسامات مكبوتة في ظل االستبداد أو تتحول إلى حرب أهلية إذا تراخت قبضته.

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar