أكثر من توضيح... مالحظات على األحزاب السورية والثورة والفشل
أسعدتني األستاذة الفاضلة سميرة املساملة بمداخلتها على مقالتي، تحت عنوان لطيف «للتوضيح وليس ردًا على علي العبدالله»، فــي «الــعــربــي الــجــديــد» .)2023/5/26( ليس ذلـك فقط، بل وأتاحت لي فرصة العودة إلى املوضوع وإعطائه حقه في العرض والتقويم. حـــيـــث جـــــاء مـــقـــالـــي، «فـــــي حـــاجـــة املـــعـــارضـــة الـــســـوريـــة لـلـعـقـل الـــســـيـــاســـي»، فـــي «الــعــربــي الجديد» )2023/5/24( مكثفا، وربما أعطى انـــطـــبـــاعـــات لـــم تــكــن مـــقـــصـــودة، فــلــهــا جـزيـل الشكر. بنت املساملة مالحظاتها على فرضية رئـــيـــســـة، عـــــدم وجـــــــود أحــــــــزاب حــقــيــقــيــة فـي سـوريـة. لــذا فــإن مـا قيل عما أحدثته الثورة فـي الــواقــع، ومــا قدمته مـن فـرصـة لـأحـزاب، مبالغة. كـان األنسب أن تقول إنـه نافلة ألنه ليس ثمة متلق. وعادت واعتبرت مالحظتي على أداء األحزاب محبطة، وهذا ال يتسق مع قولها بعدم وجـود أحــزاب حقيقية، وحملت أصــــدقــــاء الــشــعــب الــــســــوري مــســؤولــيــة فشل الــثــورة. وواقـــع الـحـال أن نفي وجـــود أحــزاب سياسية معارضة مبالغة صارخة، حتى ال أقـول نظرة عدمية، فأحزاب املعارضة، على مـــا فـيـهـا مـــن ضــعــف وقــلــة خـــبـــرة، منطلقات فكرية وسياسية، ولـديـهـا هياكل تنظيمية ومــــؤســــســــات وقــــــيــــــادات، وتـــعـــقـــد مـــؤتـــمـــرات وتـــــصـــــدر نـــــشـــــرات وبــــيــــانــــات وعــــمــــرهــــا فــي الــنــضــال طـــويـــل؛ بـــن 75 100و ســنــة. وعـــدم فعاليتها يلزمنا بالبحث عــن الـسـبـب وراء ترهلها وإنهاكها، ال نفي وجودها. يمكن التدقيق في حقيقة املوقف والعمل على استجالء الصورة واستنتاج حكم واقعي من خالل استقراء املواقف والوقائع، فعمل النظام عـلـى إغــــالق املـــجـــال الـــعـــام ومــنــع قــيــام حـيـاة سياسية حقيقية هو املبرر املنطقي والدافع الرئيس لعمل األحــزاب السياسية املعارضة لـتـغـيـيـر هــــذا الــــواقــــع. هــــذا مـــن حــيــث املـــبـــدأ، وهــــو يـسـتـدعـي الـتـفـكـيـر فـــي ســبــل مـواجـهـة هـــذا الــواقــع والـتـغـلـب عـلـى مــا فـيـه مــن قيود وعقبات. إذ ال يكفي أن نتذمر من الوضع، بل ال بـد مـن مواجهته بـدفـع مـن غـريـزة الحرية والكرامة التي غرسها الخالق، عز وجـل، في فطرة اإلنسان. وهذا يعيدنا إلى سيرة أحزاب املعارضة وتوجهاتها في العقدين األخيرين وعملها على األرض وتقدير مـدى منطقيته وعـــمـــلـــيـــتـــه. طـــرحـــت لـــجـــان إحــــيــــاء املـجـتـمـع املدني من عام 2000 إلى ،2005 وكنت عضوا فــي لجنتها اإلعــالمــيــة، بـعـد بـيـانـيـهـا، بيان الـــ 99 وبــيــان الـــ ،1000 ووثيقتها «تـوافـقـات وطنية»، مجموعة مبادرات ميدانية، خميس
فلسطن عام ،2002 حيث يتجمع املشاركون أمام مكتب األمم املتحدة في دمشق للتضامن مع الشعب الفلسطيني في مقاومته االحتالل اإلسرائيلي، واالحتفال بذكرى الجالء بزيارة ضريح الشهيد يوسف العظمة، واالعتصام أمــــــام الـــقـــصـــر الـــعـــدلـــي يـــــوم 8 مـــــــارس/ آذار مــــن كــــل عــــــام احـــتـــجـــاجـــا عـــلـــى فــــــرض حــالــة الــــطــــوارئ واألحــــكــــام الـــعـــرفـــيـــة، واالعـــتـــصـــام أمـام مقر رئاسة الـــوزارة في ذكـرى اإلحصاء االستثنائي في محافظة الحسكة عام 1962 الذي أخرج آالف الكرد من الجنسية السورية. وقد كانت مشاركة األحــزاب السياسية فيها فـــرديـــة وبــــقــــرار شــخــصــي ال حـــزبـــي. وكــانــت قـــد رفـــضـــت عــــام 2004 الـــتـــوجـــه إلــــى مـديـنـة القامشلي لـالطـالع على الـوضـع بعد شغب املالعب، والذي تحول إلى مجزرة باستخدام الــــنــــظــــام الــــــقــــــوة وإطـــــــــــالق الــــــرصــــــاص عــلــى املـحـتـجـن مــن الــكــرد وقـتـل وجـــرح الـعـشـرات واعـــتـــقـــال املـــئـــات وخـــــروج تـــظـــاهـــرات فـــي كل املـــدن الــســوريــة الـتـي فيها تـجـمـعـات كـرديـة، الذي دعت إليه اللجان ونفذته، فالعلة خلف ضعف األحزاب السياسية املعارضة وضعف دورهـا وفعاليتها ترجع إلى عدم انخراطها فـــي عــمــل مــبــاشــر ومـــثـــابـــر مـــن أجــــل تــجــاوز الواقع والعوائق األمنية واالجتماعية التي تقف في وجه التغيير؛ وعدم تدريب كوادرها عـــلـــى تــنــفــيــذ نـــشـــاطـــاٍتّ مـــيـــدانـــيـــٍة الكــتــســاب الـخـبـرة والــصــالبــة. يـذكـرنـي حـالـهـا بمشهد فـــي فـيـلـم «طـــبـــاخ الــــريــــس»، تــظــاهــرة تــنــادي بالتغيير وكادر من حزب املعارضة يتابعها وهـــو يخفي وجـهـه خـلـف صحيفة، وعندما تهاجمها قوات الشرطة يغادر املكان. أسرد هنا واقعتن تؤكدان ما أقوله. في لقاء مفتوح دعت إليه لجان إحياء املجتمع املدني عام 2003 حضره عدد جيد من كوادر أحزاب املعارضة، دعوت أحزاب املعارضة إلى تشكيل «جـبـهـة خـــالص وطــنــي»؛ فـانـبـرى لــلــرد على الفكرة ورفضها قيادي من الحزب الشيوعي ـ املكتب السياسي وقـيـادي من حـزب العمال العربي الثوري. والطريف أن األول جلس إلى جانبي بعد إنهاء تعقيبه، وقال لي: «فكرتك راح تـصـرعـهـم (يـقـصـد الــنــظــام)، صــــرع». لم يرفض الفكرة ألنها خاطئة أو غير مجدية بل ألنها تستفز النظام. وفي اجتماع ملجلس الـرئـاسـة فـي إعــالن دمشق للتغيير الوطني الـــديـــمـــقـــراطـــي، وكــــنــــت عـــضـــوا فـــيـــه، طــرحــت فـكـرة عــن مـعـاضـدة الــثــورة بـأحـاديـث صوت وصـــورة؛ يسجلها ريــاض الــتـرك، بما لـه من مكانة وسمعة محلية وعربية ودولية، وكنت كتبت له كلمة مقترحه، فاعتذر مبررا موقفه بقوله «دع أصحاب الثورة يديرونها»، لكنه
صارحني، في لقاء خـاص، بأن قيادة حزبه، حزب الشعب السوري، طلبت منه عدم اإلدالء بتصريحات تثير السلطة فتعتقلهم. وهــــــــذا مـــــن دون أن نـــنـــســـى ســــلــــوك أحــــــزاب املـــعـــارضـــة فـــي بـــدايـــات الـــثـــورة بــعــد ارتـــفـــاع مـــســـتـــوى عـــنـــف الــــنــــظــــام ضـــــد املـــتـــظـــاهـــريـــن وتنفيذه عمليات قتل بدم بارد، ببدء قادتها وكوادرها مغادرة البلد إلى املهاجر البعيدة. الحـظـت خــالل وجـــودي فـي منظمة التحرير الفلسطينية، بـن عامي 1977 ،1994و مدى الـــتـــقـــديـــر الــــــذي يــكــنــه الـــشـــعـــب الـفـلـسـطـيـنـي للرئيس يـاسـر عــرفــات وحــركــة فـتـح، ألنهما منخرطان فـي العمل السياسي والعسكري بـقـوة. قـدمـت الحركة أكـثـر مـن عـشـرة شهداء مــن أعــضــاء لجنتها املــركــزيــة، حتى أن قائد موقع في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطن في جنوب لبنان قال لي: «كنا ننام في املواقع مطمئنن، ألن رجال عرفات في الجوار». لــســت مـــن دعــــاة االنـــتـــحـــار الــســيــاســي. ولـكـن لنتصور ماذا كان يمكن أن يحصل لو أن قادة أحزاب املعارضة أو بعض كوادرها البارزين تصدروا التظاهرات في املدن الرئيسة، وماذا كـــان سـيـتـرتـب عليها داخـلـيـا وخــارجــيــا من نـتـائـج؟ تـتـحـرك أحــــزاب املــعــارضــة الـسـوريـة وفـــــق قــــاعــــدة تــحــقــيــق الـــحـــســـنـــن: مـــعـــارض ويـعـيـش بــأمــان. مـمـارسـة سياسية حللتها ثناء فؤاد عبدالله في كتابها «آليات التغيير الـــديـــمـــقـــراطـــي فــــي الــــوطــــن الـــعـــربـــي» (مـــركـــز دراســـــات الـــوحـــدة الــعــربــيــة، بـــيـــروت، .)1997 يـقـوم الـنـظـام واملــعــارضــة بتكميل بعضهما الــبــعــض، بـحـيـث تــكــون ثــمــرتــه اســتــمــرار كــل منهما في موقعه ودوره، فللنظام واملعارضة مصالح داخــل النظام، األول يحكم والثانية تعارض من دون تشكيل تحد فعلي لأول. تـبـقـى نـقـطـة الــخــالف الـرئـيـسـة مــع األســتــاذة الـــفـــاضـــلـــة رأيــــهــــا بـــشـــأن ســـبـــب فـــشـــل الـــثـــورة الــســوريــة. تـــرى أنـــه «ال يـعـود فقط إلـــى غياب الـقـيـادة السياسية، أو الـكـيـانـات السياسية، الـواعـيـة واملــجــربــة، واملـرتـبـطـة بشعبها، على أهــمــيــة ذلــــك كــلــه، وإنـــمـــا يـــعـــود، أســـاســـا، إلــى املـــداخـــالت الـخـارجـيـة، وضمنها مـمـا يسمى مـعـسـكـر «أصــــدقــــاء الــــثــــورة الـــســـوريـــة» عـربـا وإقــلــيــمــيــن ودولــــيــــن، الـــتـــي قـــيـــدت مـــســـارات الــثــورة وخطاباتها وتـالعـبـت بـهـا، فالعامل الخارجي (مع غياب الداخلي أو ضعفه) كان هو العامل املقرر في ذلك كله». بينما أرى أن العامل الذاتي هو الذي دفع العامل الخارجي إلـــى تغيير مـوقـفـه، فـانـكـسـار الـــثـــورة بـــدأ في الــعــام الـثـانـي النـطـالقـهـا، بـعـد أن عـجـزت عن تــطــويــر أدائـــهـــا والـــتـــحـــول إلــــى ثــــورة منظمة تـعـتـمـد خــطــطــا وبــــرامــــج مــــحــــددة ومــــوحــــدة؛ حيث بقيت تواجه النظام في إطار مواجهات محلية مـن دون ارتـبـاط باملشهد الـعـام، ومن دون التفات إلـى ما يحصل في مواقع أخرى أو التحرك للتنسيق والتشبيك معها؛ تحولت إلـى ثــورات مناطقية، وانـخـراط التنسيقيات، الــتــي لـعـبـت دور الـــداعـــم الـلـوجـسـتـي لـلـثـوار واملواطنن بالعمل على توفير احتياجاتها لتنظيم التظاهرات ومــداواة الجرحى وإغاثة املـــشـــرديـــن واملــحــتــاجــن، فـــي تــنــافــس عــدمــي، وتحرك املجلس الوطني من دون ارتباط فعلي بــالــثــورة، ومــن دون تنسيق مــع قـادتـهـا، كان لكاتب هــذه السطور شــرف التنبيه مـن فشل الثورة في مقالة نشرت في صحيفة املستقبل الــلــبــنــانــيــة يـــــوم 2012/5/27 تـــحـــت عـــنـــوان «الـــثـــورة الــســوريــة عـلـى مـفـتـرق طــــرق». وهــذا قـــاد إلـــى تــأكــد الــقــوى الـخـارجـيـة الــداعــمــة من عدم قـدرة الثورة على تحقيق هدفها إسقاط الــنــظــام وإدارة الــبــلــد بــعــد الــنــصــر، ودفـعـهـا إلــى الـتـحـول إلــى تبني تغيير سـلـوك النظام عـــبـــر إدارة الــــصــــراع وضـــبـــط ومـــــوازنـــــة دعـــم املعارضة بداللة هذا الخيار. عكس ما حصل فــي تــونــس ومــصــر مــثــال، حـيـث أدت القناعة بقدرة التظاهرات على إسقاط النظامن إلى تركيز الضغط على بن علي وحسني مبارك، ودفــعــهــمــا نــحــو الـــخـــروج مـــن املــشــهــد، فـهـرب األول إلـــى الــخــارج واسـتـقـال الـثـانـي، فـالـدول تنخرط في الصراعات الساخنة، بشكل مباشر أو غــيــر مـــبـــاشـــر، لـتـحـقـيـق أحــــد هـــدفـــن: درء مخاطر أو تحقيق مكاسب، وما تفعله خالل انخراطها في الصراعات محكوم بحساباتها الــخــاصــة وســعــيــهــا إلــــى تـحـقـيـق مصالحها
بـــالـــدرجـــة األولــــــــى. وهـــنـــا يـــأتـــي دور الـــقـــوى املحلية بخططها وبرامجها وممارساتها في إقناع القوى الخارجية بقدرتها على النصر؛ وبتوافق نصرها مع بعض أو كل أهداف هذه القوى ومصالحها؛ وحجز موقع في املعادلة ومقعد على الطاولة والحصول على حصة من النتائج لصالح مطالبها وأهدافها. لم تنجح قــــوى املـــعـــارضـــة فـــي تــســويــق ذاتـــهـــا وتـعـزيـز دورها من خالل ممارساتها ومواقفها وإبراز تــقــاطــع مـصـالـحـهـا وأهـــدافـــهـــا مـــع «أصـــدقـــاء الشعب السوري»، بل على العكس أثارت شكوك القوى الخارجية وارتيابها، من خالل شعارات ومــواقــف متباينة وغـيـر مــدروســة. نـذكـر هنا موقف رئيس املجلس الوطني السوري، برهان غليون، مـن الـثـورة فـي ليبيا، حيث اعتبرها صنيعة حـلـف الــنــاتــو، وتـصـريـحـات أعـضـاء في املجلس الوطني وقادة الفصائل املسلحة عن جبهة النصرة، وعن الدور األميركي، التي أوحت بأن املعارضة، السياسية والعسكرية، تـــريـــد الـــدعـــم لــخــدمــة أهـــدافـــهـــا فـــي الـــوصـــول إلــى السلطة، مـن دون أن توحي بـاعـتـراف أو استعداد للتعاون لتحقيق أهـــداف مشتركة. وقد زاد افتراق مصالح دول «أصدقاء الشعب الـــســـوري» املــوقــف تـعـقـيـدا وقــــاد إلـــى انـفـجـار التنافس بينها وتبني كل منها جهة سياسية أو عـــســـكـــريـــة مــــن أجــــــل تــحــقــيــق مــصــالــحــهــا وأهدافها الخاصة، فقد رأت دول الخليج في نجاح الثورة في تونس ومصر ونجاح حركة الـنـهـضـة فــي األولـــــى واإلخــــــوان املـسـلـمـن في الثانية في االنتخابات البرملانية والرئاسية تعبيرا عــن تـحـالـف أمـيـركـي مــع أعـدائـهـا في الـحـركـات اإلســالمــيــة. وعـلـيـه، قـــادت اإلمــــارات والسعودية حملة مضادة ضد الربيع العربي وزجـت إمكانات مالية ولوجستية وعسكرية كــبــيــرة إلفـــشـــال ثــــوراتــــه، ونــجــحــت فـــي عكس اتـــجـــاه األحــــــداث فـــي مــصــر ولـيـبـيـا وتــونــس. وزاد املـوقـف تعقيدا قــرار الرئيس األميركي، بــاراك أوبـامـا، تخفيف دور الـواليـات املتحدة في الشرق األوسـط والتركيز على شرق آسيا ملواجهة الصن؛ وعمله على إبعاد روسيا عن األخيرة، ما حاول تحقيقه عبر إعطاء روسيا مـكـاسـب فــي مـلـفـات إقليمية ودولـــيـــة، تجلى ذلــك فـي رد فعله الـفـاتـر على احـتـالل روسيا شبه جزيرة القرم عام ،2014 وإعطائها ضوءا أخضر للتدخل في سورية عام ،2015 بشرط عدم إنزال قوات على األرض. فتحول الصراع فــــي ســــوريــــة إلـــــى حــــــرب بـــالـــوكـــالـــة، ال يـمـكـن اعتبارها جزءا من الثورة أو امتدادا لها، وال هدفها تحقيق مطالبها. فكانت النتيجة ما نشاهده اآلن.
ألحزاب المعارضة، على ما فيها من ضعف وقلة خبرة، منطلقات فكرية وسياسية، ولديها هياكل تنظيمية ومؤّسسات وقيادات