«راديو بروباغندا»... صوت إسرائيل الذي اخترق العرب
يغوص فيلم وثائقي إسرائيلي في الدور الذي لعبته إذاعة إسرائيلية تأسست عام ،1948 وتحدث مذيعوها العربية، ونجحوا في الوصول إلى قاعدة مستمعين واسعة في العالم العربي
«لـم تكن مجرد إذاعــة بريئة تبث األغاني واألخــــــبــــــار، بــــل واحــــــــدة مــــن أكـــبـــر أدوات االستخبارات اإلسرائيلية التي اخترقت العالم العربي بأصوات يهودية تقمصت شــخــصــيــات عـــربـــيـــة وأســــمــــاء مـــثـــل داود الــنــاطــور وابـــن الــرافــديــن، وبـثـت شيفرات لعمالء إسـرائـيـل عبر الـبـرامـج واألغــانــي، لتفعيل وتـوجـيـه عـنـاصـر االسـتـخـبـارات املـنـتـشـريـن فــي كــل مـــكـــان». هـــذه خالصة الـــفـــيـــلـــم الـــوثـــائـــقـــي اإلســـرائـــيـــلـــي «راديــــــو بروباغندا» ،Radio Propaganda للمخرج عوفر بنحاسوف، والـــذي يتناول حكاية راديـــو «صــوت إسـرائـيـل باللغة العربية» .Beit Shidir عـــــرض هـــــذا الــفــيــلــم ضـمـن مـــهـــرجـــان تــــل أبــــيــــب لــــأفــــالم الــوثــائــقــيــة (دوكافيف) الذي نظم بني 11 و02 مايو/ أيـــــار الـــحـــالـــي. فــيــلــم مــثــيــر يـــتـــنـــاول قصة الــــراديــــو الـــــذي أنـــشـــئ عــــام 1948 ودوره الــــدعــــائــــي واالســــتــــخــــبــــاراتــــي فـــــي خـــدمـــة االحـتـالل اإلسـرائـيـلـي. يــروي الفيلم الـذي اســـتـــعـــرضـــت صــحــيــفــة مــــعــــاريــــف بـعـض تـفـاصـيـلـه، مـــن خـــالل تـقـريـر عـــن مـخـرجـه عوفر بنحاسوف والباحث دودي بطيمر، تفاصيل مثيرة حول اإلذاعــة التي أقيمت ألهــــداف اسـتـخـبـاراتـيـة والخـــتـــراق العالم الـــعـــربـــي وشــــن حــــرب نــفــســيــة عــلــيــه، كما يــســتــعــرض حـــكـــايـــة أحـــــد املـــذيـــعـــني الــــذي خـــاطـــب املــســتــمــعــني بــلــغــة بــســيــطــة، «فـــي الــــوقــــت الـــــــذي كــــانــــت اإلذاعــــــــــات الــعــربــيــة تبث بلغة معقدة ال يقوى البسطاء على فهمها». ووفقًا لـ«معاريف»، بثت اإلذاعـة األخــبــار واألغــانــي باللغة العربية، ولكن االحــــتــــالل اإلســـرائـــيـــلـــي كــــان يـسـتـخـدمـهـا لتغيير الــــرأي الــعــام فــي الــــدول الـعـربـيـة، وتــجــنــيــد عــــمــــالء، وتــشــغــيــلــهــم مــــن خـــالل شـيـفـرات زرعـــت فـي الـبـرامـج. كــان إلياهو نـــاوي، أحــد مذيعي املحطة فـي سنواتها األولــــــــى، وأصــــبــــح الحـــقـــًا رئـــيـــســـًا لـبـلـديـة بـئـر الـسـبـع فـــي األعـــــوام .1986-1963 في أربعينيات وخمسينيات الـقـرن املاضي، عـــمـــل نـــــــاوي، عـــبـــر أثـــيـــر املـــحـــطـــة، مــذيــعــًا ومـــحـــلـــال لــــأحــــداث والــــتــــطــــورات بـالـلـغـة العربية تحت اسم «داود الناطور». وقال بنحاسوف لـ«معاريف»: «قابلت بروريا، أرملة ناوي، بعد احتفالها بعيد ميالدها الـــــســـــادس والـــتـــســـعـــني، وتـــحـــدثـــت بــذهــن صــاف. بعد أسبوعني من اللقاء، توفيت. بأعجوبة، تمكنا من إجــراء مقابلة معها ملـــدة أربـــع ســـاعـــات، وفــوجــئــت بـأنـنـي أول من يجري مقابلة معها. تحدثت بصراحة عن شخصية داود الناطور ودوره». ولد نــــاوي فـــي الــبــصــرة الــعــراقــيــة عــــام ،1920 وهاجر إلى فلسطني املحتلة حني كان في الـسـادسـة، وتـوفـي عــام 2012 عـن عمر 92 عامًا. أفاد الفيلم بأن ناوي نشأ في القدس، وبعد أن أنهى دراسته، بدأ بالعمل موظفًا فــي وكــالــة لـتـجـارة قـطـع غـيـار الــســيــارات، وفــــــي الــــوقــــت نـــفـــســـه درس فــــي املــــدرســــة العليا للقانون واالقتصاد. في ذلك الوقت كـــان أيـضـًا عـضـوًا فــي منظمة هشومريم (الحراس). وعام ،1947 تزوج من بروريا. قـالـت بــروريــا فــي حديثها أثــنــاء تصوير الفيلم: «عـاش إلياهو في القدس في حي عـربـي مختلط. عـــام ،1936 بـــدأ بــث إذاعـــة The Palestine Broadcasting وجــلــس جميع السكان، عرب ويهود حول املذياع، لكنهم لم يفهموا شيئًا )...( كـان الجميع يـلـتـفـتـون إلـــى إلــيــاهــو الــــذي يـجـيـد اللغة العربية، ليشرح لهم ما يقوله املذيعون». وأضـــافـــت: «عــــام 1947 تــوجــه الـصـحـافـي وعـــضـــو الــكــنــيــســت اإلســـرائـــيـــلـــي الـــراحـــل أوري أفــنــيــري إلــــى نـــــاوي، وأخـــبـــره بـأنـه عـشـيـة إقــامــة الـــدولـــة والــجــيــش، ال بــد من التفكير في الحرب النفسية. ورأى إلياهو أنه من الضروري التحدث إلى العرب بلغة بسيطة ولـيـسـت أدبـــيـــة، كـمـا كـــان ســائــدًا، وهكذا انضم فعليًا إلى الراديو الذي كان
بملكية منظمة الهاغاناه الصهيونية. في الواقع، كان إلياهو املذيع األول والوحيد الذي تحدث باللغة العربية املحكية، األمر الذي لم يتوفر في إذاعة القاهرة وال إذاعة بيروت وإذاعة هنا القدس». تبنى ناوي االسم الحركي «داود الناطور» (ديفيد الــحــارس)، مما زاد مـن الغموض فــي محيطه، وهـنـا قـالـت بـــروريـــا: «كـانـوا متأكدين مــن أنــه عـربـي حقيقي. رغــم أنه كــان فـي الثالثينيات مـن عـمـره، فقد غير
صـــوتـــه لــيــعــتــقــدوا أنــــه شــخــص يــبــلــغ من العمر 60 عامًا، حتى يظنوا أنه رجل كبير فـــي الـــســـن وصـــاحـــب خـــبـــرة. فـــي الـــبـــدايـــة، جــرى البث مـن مـواقـع مختلفة فـي جميع أنـــحـــاء الـــبـــالد وفــــي ســـريـــة تـــامـــة. لـــم أكــن أعرف مكان محطة البث، ولم أسأل أيضًا. تنقلت املـحـطـة مــن مـكـان إلـــى آخـــر، وكــان الــبــريــطــانــيــون يــبــحــثــون عــنــه أيـــضـــًا. أنــا شخصيًا كنت أرتجف في كل مـرة يذهب فيها للبث. بعد قيام الـدولـة (االحــتــالل)،
بــــــدأ بـــالـــبـــث فـــــي اســــتــــوديــــوهــــات صـــوت إسرائيل بالعربية في تل أبيب». في حديث بنحاسوف الذي نقلته صحيفة معاريف، قال: «لم أكن أعرف حتى بوجود مــثــل هــــذه الــقــصــة. لـــم أكــــن أعـــــرف إن كــان هناك راديــو إسرائيلي، وكــان األشخاص يـذهـبـون للعمل فيه متنكرين. كــان داود الـــنـــاطـــور مــعــروفــًا كـمـعـلـق عـــربـــي، بـــدوي وقـــــروي، تـربـطـه عــالقــات طيبة بـالـيـهـود. كــان يـخـرج على الــهــواء ويـقـول (إلخـوتـه) األردنــيــني واملـصـريـني: أنــا أعـــرف اليهود. مــاذا تـريـدون منهم؟ دعونا نعيش معهم بسالم وستكون أموركم جيدة. أنا سعيد». وعـقـبـت بـــروريـــا: «كـــان الــعــرب يستمعون إليه بلهفة، وكـان نجمهم اإلذاعــي الكبير. فــــي املـــقـــابـــل، كـــــان أداة لــــدولــــة إســـرائـــيـــل، وقـــد اسـتـخـدمـتـه (االســتــخــبــارات) لتلبية احتياجاتها. فــاز بقلوب الفالحني الذين شكلوا غالبية مستمعيه. لقد عاش إلياهو حـــيـــاة مـــــزدوجـــــة )...( عـــمـــل فــــي مــنــاصــب مــخــتــلــفــة، مـــن ضـمـنـهـا تــأســيــس الـــوحـــدة الدرزية والبدوية في الجيش اإلسرائيلي، وأســـس صحيفة عـربـيـة. وفـــي أحـــد األيـــام ومن دون مقدمات جلس أمام امليكروفون، خـــلـــع زيـــــه الـــرســـمـــي وتــــحــــدث إلـــــى الـــعـــرب القرويني. إلياهو، املدني البسيط، أصبح داود الـنـاطـور». وشــرح بنحاسوف قائال: «اكتسبت شخصية داود الناطور شعبية هائلة في الدول العربية، لدرجة أن حياته كــانــت مـــهـــددة فـــي وقــــت مـــن األوقـــــــات. بني الـحـني واآلخـــر كـانـت هـنـاك شـائـعـات بأنه قــبــض عـلـيـه، وكـــانـــت الـصـحـف اللبنانية تبتهج بالقبض على الخائن. من جهة، أراد قادة الدول العربية القضاء عليه وإسكاته، ومــــن جــهــة أخــــــرى، كــــان لـــديـــه الــعــديــد من املعجبني من الشعب العربي، بما في ذلك فـــي فـلـسـطـني ولــبــنــان ومــصــر وســـوريـــة». حـــول أسـالـيـب عـمـلـه، قـالـت بـــروريـــا: «كــان موظفو املـوسـاد يسلمون رسـالـة مكتوبة إلى إلياهو، وكان عليه دائمًا أن يكون لديه مــــواد جـــاهـــزة يـمـكـنـه اسـتـغـاللـهـا فـــي بث يمتد مـن 40-30 دقيقة. كــان يحصل على مواد من املوساد وهيئات أخرى، ويمررها خـالل البث. تقمص شخصية. أراد العرب قـــتـــلـــه، وزعــــمــــاء الـــــــدول الـــعـــربـــيـــة وضـــعـــوا مكافأة على رأسـه. كان مطلوبًا ألنه تمتع بنفوذ هائل ضد املؤسسة العربية. لكنه لم يكن خائفًا، ولم أكن خائفة». وأشار املخرج اإلســـرائـــيـــلـــي إلـــــى أنـــــه «فـــــي 5 ديــســمــبــر/ كــانــون األول ،1957 شـــارك نـــاوي فــي آخـر بث له. كان يفتخر بأنه يتوجه إلى أسواق مختلفة، مثل سوق غزة أو نابلس، وكانوا يـتـعـرفـون عـلـيـه مـــن خـــالل صـــوتـــه، صـوت داود الــنــاطــور. لكنه كـــان يضحك وينفي ذلك، إلى أن تولى رئاسة بلدية بئر السبع، وتوقف عن إخفاء الحقيقة». وأفــــاد تـقـريـر «مــعــاريــف» بـأنـه عـــام ،1958 بـسـبـب تـعـيـني نــــاوي قــاضــيــًا فـــي محكمة الصلح، وهو األول في بئر السبع والنقب، انـــتـــقـــل لــلــعــيــش فــــي بـــئـــر الـــســـبـــع وشــغــل هـــذا املـنـصـب حـتـى عـــام .1963 كـــان هناك مذيعون آخــرون إلـى جانب نــاوي، يبثون عـــبـــر أثــــيــــر املـــحـــطـــة بـــأســـمـــاء مـــســـتـــعـــارة، بــيــنــهــم ســـلـــمـــان ديــــبــــي الـــــــذي حـــمـــل لـقـب «ابــن الـرافـديـن»، ومعلق الـشـؤون العربية شاؤول ميناشيه الذي جرت مقابلته أيضًا من أجـل الفيلم ومـات قبل صــدوره. أجرى صـنـاع الفيلم أيضًا مقابالت مـع عناصر فـــي االســـتـــخـــبـــارات وجـــهـــات أخـــــرى، ألـقـت الـــضـــوء عــلــى دور الــقــائــمــني عــلــى اإلذاعــــة فـــي الـعـمـلـيـات االســتــخــبــاراتــيــة والــدعــايــة اإلسرائيلية. وقـال بنحاسوف: «ال يمكنك أن تـــصـــدق أن مــحــطــة راديـــــــو تــفــعــل مـثـل هــذه األشــيــاء، مـن خــالل األغــانــي والـرمـوز لـــلـــتـــواصـــل مــــع الـــجـــواســـيـــس. إنـــــه أمـــــر ال يصدق على اإلطالق. تكشف الوثائق التي وجدناها أنه حتى السجناء في السجون العراقية واملصرية تلقوا رسائل عبر هذه املحطة اإلذاعية، وهذا أمر ال يصدق».
اعتمد المذيعون العربية المحكية للوصول إلى مستمعين أكثر