Al Araby Al Jadeed

قولوا إني ولدُت في قرطبة ابن رشد أنطونيو غاال

علّمنا الكاتب، الذي غادرنا األحد، أن اإلنسان ال يصل إلى الحرّية إلّا عندما ينجح في تغيير رمادية هذا التاريخ، وبالتالي تحريك الشعور اإلنساني الجمعي إزاء القضايا الكبرى. سيرته، هو الذي ُغيّب عن المشهد األدبي في بلده، تكفي مثاًال على ذلك

- ألمرية (األندلس) ـ جعفر العلوني

حتى اآلن، ما زلت أذكر زيارته إلى دمشق في عام ،2009 وحفل توقيع كـــتـــاب­ـــه فـــــي «فـــــنـــ­ــدق الــــــفـ­ـــــردوس». تــقــدمــ­ت حـيـنـهـا نــحــوه، وأنــــا ابـــن عشرين عـامـا. كـنـت مـتـوتـرًا، وكـنـت قـد حـضـرت ما أريد أن أقوله له باللغة اإلسبانية: «شكرًا ملـجـيـئـك إلـــى دمـــشـــق. أتــمــنــ­ى أن تـــوقـــع لي على الرواية باإلسبانية». فأجابني: «أنت تـــتـــحـ­ــدث اإلســـبــ­ـانـــيـــ­ة بـــشـــكـ­ــل مـــمـــتـ­ــاز. أيـــن تعلمتها؟»، فقلت له: «تعلمتها من كتبك». «ما اسمك؟»، همس في أذني، وأجبته. أخذ قلمه وكتب على الصفحة البيضاء األولى مــــن كــــتــــ­اب «غــــرنـــ­ـاطــــة بـــنـــي نــــصــــ­ر»: «إلــــى جعفر، الـذي احتل للتو مكانته في قلبي. أنطونيو غاال، .»2009 نعم، لقد سرقت الريح منا أنطونيو غاال، الذي غادر عاملنا يوم األحد الفائت 1930( ــــ .)2023ُ لـقـد رحــل الـكـاتـب الـقـرطـبـّي، هـذا املــبــدع الكبير الـــذي حـــاول املـشـهـد األدبــي اإلســـبــ­ـانـــي، فـــي الـــقـــر­ن املـــنـــ­صـــرم، تقليص حـــضـــور­ه اإلبــــدا­عــــي والـــفـــ­كـــري إلــــى مــجــّرد رجـــــل يــحــمــل أفـــكـــا­رًا مـــبـــتـ­ــذلـــة، إلــــى مــجــرد رجل ينتمي إلى مكان عام، مكان ال أهمية تــاريــخـ­ـيــة لـــه، مـتـجـاهـل­ـن بـــعـــده ومـكـانـتـ­ه األخالقية، إضافة إلى املثال الذي قدمه عن رجل، وكاتب ومبدع، عاش متجاوزًا أنواع الــحــدود كـلـهـا، سياسية كـانـت، ثقافية أم إيديولوجية، ال سيما في بلد تعود على الحدود املرسومة والواضحة. عـــاش أنــطــونـ­ـيــو غـــاال حــيــاتــ­ه مــتـكـئــ­ا على عــكــاز األدب. كــانــت خــطــواتـ­ـه تـسـيـر دائـمـا على طريق الشعر والقصيدة، على طريق االســــتـ­ـــمــــاع إلـــــى الـــحـــي­ـــاة املــــــو­جــــــودة عـلـى املــســرح الـكـبـيـر لــهــذا الــعــالـ­ـم الــــذي نعيش فيه؛ على درب اكتشاف الروايات العظيمة والحب الكبير. عاش حياته ككاتب ومبدع، وجـــعـــل جـــيـــال كـــامـــا­ل مـــن الــــقـــ­ـراء والــكــتـ­ـاب يـدركـون أن التاريخ عندما يعود رمـاديـا؛ خـصـوصـا بـعـد دكــتــاتـ­ـوريــة عـمـلـت بشكل منهجي على تغييبه عن املنابر الثقافية واإلعـــال­مـــيـــة كــلــهــا، بـسـبـب مــواقــفـ­ـه وآرائــــه األدبية والثقافية، في نهاية املطاف، تأتي الديمقراطي­ة وتـحـل عقدها، وتفتح األفـق والــــطــ­ــرق. وألجـــــل ذلـــــك، كــــان غـــــاال، نـظـريـا وعــمــلــ­يــا، شـخـصـيـة عـلـمـتـنـ­ا بـشـجـاعـة أن الـحـريـة، بأسمى معانيها، ال يصل إليها اإلنـــســ­ـان إال عــنــدمــ­ا يــنــجــح، مـــن الـنـاحـيـ­ة الـنـظـريـ­ة والتطبيقية، فــي تغيير رمـاديـة هـــذا الــتــاري­ــخ، وبــالــتـ­ـالــي تـحـريـك الـشـعـور اإلنساني الجمعي إزاء القضايا الكبرى. ربما لهذا السبب، كان صاحب «املخطوط الــــقـــ­ـرمــــزي» )1994( رومـــانــ­ـســـيـــا وحــــاملـ­ـــا، وربـــــمـ­ــــا لـــــهـــ­ــذا الــــســـ­ـبــــب، أيـــــضــ­ـــا، اعــــتـــ­ـبــــره الـبـعـض بــطــال قــادمــا مــن زمـــن آخـــر، تمكن من مواجهة التاريخ الــذي كتب من زاويـة الوحشية اإليديولوج­ية وابـتـذال األفكار. وهـــنـــا تــحــديــ­دًا كـــانـــت عــظــمــة هــــذا الــكــاتـ­ـب األنــــدل­ــــســــي الــــهـــ­ـوى، حـــيـــث اســـتـــط­ـــاع بـكـل أناقة وحساسية أن ينتشل فترة هامة في التاريخ اإلسباني من األنقاض، إضافة إلى أنه كان من أبرز الذين غاصوا في ما سماه البعض «انحطاط الحضارة اإلسبانية»، لـــيـــكـ­ــذب هــــذه الـــــروا­يـــــة، ولـــيـــؤ­ســـس بـــأدبـــ­ه العظيم نصبا تذكاريا لحضارة إسبانية ال يـمـكـن فـيـهـا تــجــاهــ­ل اآلخـــــر، ســــواء كــان عربيا أم يهوديا. هكذا دفع أنطونيو غاال ثمن شجاعته، حيث هــمــش رسـمـيـا، وأقـــصـــ­ي عــن جميع املنابر

لطالما حاول المشهد األدبي اإلسباني تقليَص حضوره أسس بأدبه نصبًا لحضارة إسبانية ال يمكن فيها تجاهل اآلخر

إرث ثقافي ومشروع إبداعي عابر للحدود واألزمنة

الثقافية واإلعالمية في إسبانيا. حتى أنه منع من تقديم البرنامج التلفزيوني الذي كـــان يـــعـــده ويـــشـــر­ف عـلـيـه فـــي ثـمـانـيـن­ـيـات الـقـرن املـنـصـرم. لقد نـفـي داخــل وطـنـه األم، فما كـان منه إال أن انعزل إلـى املدينة التي لم يولد فيها طبيعيا ــ قرطبة ــ مؤكدًا في كل كتاباته املسرحية والروائية والشعرية أنــه أندلسي الـهـوى، قرطبي؛ طالبا من كل الذين دونــوا سيرته الذاتية أن يقولوا إنه ولد في قرطبة ابن رشد. نعم، الريح نفسها التي سرقت منا شاعر قــرطــبــ­ة وكــاتــبـ­ـهــا، لـــن تـسـتـطـيـ­ع أن تمحو أثــــر مــســرحــ­ه وكــتــبــ­ه الــشــعــ­ريــة وروايــــا­تــــه التي عرفت كيف تتصل بحواس اإلسبان وتخاطب عقولهم. لن يستطيع النسيان، وال حـــتـــى الــــريــ­ــح، أن يــمــحــو أثــــــر أعــمــالـ­ـه األدبية التي عرفت كيف تتحدث عن هذه الـكـومـيـ­ديـا الـتـاريـخ­ـيـة، وعــن هــذه املـأسـاة اإلنــســا­نــيــة، مــن أجـــل شـــيء واحـــد فحسب: إعـــادة وهــج شعلة الـحـيـاة فـي قلوبنا. قد تـكـون أفـضـل طـريـقـة لــرثــاء أنـطـونـيـ­و غـاال هـــي قـــراءتــ­ـه مـــجـــددًا، عــربـيــا وإســبــان­ــيــا، ال ســيــمــا وأن أفـــكـــا­ره الــجــوهـ­ـريــة تــوجــد في الروايات الثالث التي ترجمها إلى العربية صــديــقــ­ه ـــــ الــــذي غـــادرنــ­ـا أيــضــا قــبــل أشـهـر فقط ــ املترجم السوري رفعت عطفة؛ وهي: «الــولــه الــتــركـ­ـي» ،)1994( و«غــرنــاطـ­ـة بني نصر» ،)2006( إضافة إلى رواية «املخطوط القرمزي» التي سبق أن ذكرناها. إنــنــا الـــيـــو­م، بــالــعــ­ودة إلـــى كــتــب أنـطـونـيـ­و غــاال مـن أجــل قـراءتـهـا؛ بعيدًا عـن األحكام املتسرعة، والقوالب النمطية، والهوامش الضيقة، سنكتشف أن ثمة شيئا ما عابرًا لـــلـــحـ­ــدود دائــــمــ­ــا يـــوجـــد فــــي كـــتـــبـ­ــه، وهــــذا الشيء العابر للحدود العقلية والجغرافية

والسياسية والثقافية، ينقذنا فـي اآلنـي، والــــســ­ــريــــع، واملــــبـ­ـــتــــذل الــــــذي صــــــارت إلــيــه الـحـيـاة الــيــوم. إن كـتـبـًا مـثـل «حــقــول عـدن الخضراء» أو «قصائد قرطبية»، أو حتى « األيـام الجميلة الضائعة»، ستكشف لنا أن أنــطــونـ­ـيــو غــــاال، عــلــى الـــرغـــ­م مـــن الـظـلـم الــتــاري­ــخــي الــــذي تـــعـــرض لــــه، لــيــس كـاتـبـًا قابا للفساد أو للنسيان، بل كاتب كريم ونبيل باملعنى الحقيقي للكلمة. وليست مــؤســســ­تــه الــثــقــ­افــيــة، «جــمــعــي­ــة أنـطـونـيـ­و غــــاال»؛ الــتــي أســســهــ­ا فـــي الـــعـــا­م ،2002 إال شــــهــــ­ادة عــلــى إرثـــــه الـــثـــق­ـــافـــي، واســتــكـ­ـمــاال ملـــــشــ­ـــروعــــ­ـه اإلبــــــ­ــداعـــــ­ـــي الـــــعــ­ـــابـــــ­ر لــــلــــ­حــــدود واألزمـنـة، حيث تستقطب املؤسسة كتابًا ومبدعن مـن كـافـة الجنسيات، تـوفـر لهم مكانًا للتعايش واإلبــــد­اع، تمامًا كما هي األنـدلـس التي آمـنّ بها ودافــع عنها. قلما نـجـد مـثـقـفـن تـشـكـل أعـمـالـهـ­م وكتاباتهم وإبداعاتهم وحـدة عضوية متكاملة. هذا مــا اسـتـطـاع غـــاال أن يـحـقـقـه فــي مشروعه الثقافي الذي يحمل عنوان األندلس. نعم، لقد رحل أنطونيو غاال، لكن شخصيته لن تنسى. وبكل تأكيد، لن تكون إبداعاته مرعى لقطعان النسيان، بل ستكون فرصة إلعـــــاد­ة اكــتــشــ­اف ذلــــك الــشــاعـ­ـر واملــســر­حــي والروائي اإلنساني املليء بالحياة والحرية والصمت البليغ.

 ?? )Getty( ?? أنطونيو غاال في مدريد، 2007
)Getty( أنطونيو غاال في مدريد، 2007
 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar