دعوة للقراءة
ما يمكن لكتاٍب أن يفعله إذا فهمنا القراءة بوصفها حدثًا، أمكن حينها القول إن القارئ، من جراء الحدث الذي تعرض له ـ أي القراءة ـ لمَّ يعد اإلنسان السابق نفسه
الــــقــــراءة حــــدث، ال فـــي كــونــهــا تقتضي جلوسًا أمــام الكتاب فـي املكتبة أو في الــبــيــت، بــالــوســائــط املـخـتـلـفـة لــلــقــراءة، وال في كونها تقتضي أن يقتطع املرء مــن وقـتـه كــي يــقــرأ، وال لشبهها بلقاء صــديــق، مــع مــا فــي َّالـلـقـاء مــن طـقـوس. أقــــــــول صـــــديـــــق، ألن الـــــــقـــــــراءة حـــديـــث بـاتـجـاهـن، أحـدهـمـا مــن الـكـتـاب الــذي يقول إلى القارئ الذي يصغي. واآلخر، هو التأويل؛ أقصد ما يــراه الـقـارئ في الكتاب. القراءة حدث العتبارات كثيرة. لكن أخــص بهذا التوصيف مـا ينتمي إلى العالم الداخلي للمرء، إلى اإلدراك. إذ كــثــيــرًا مـــا تـصـنـع الــكــتــب جــانــبــًا من شخصية قارئها. غالبًا ما يبدأ املرء القراءة من محيطه، مـن مكتبة املـنـزل، مـن نصيحة أستاذه فــي املـــدرســـة أو أحـــد أخـــوتـــه. بشكل أو بــآخــر، يـبـدأ املـــرء قـــراءاتـــه مــن محيطه، ومن مرجعياته االجتماعية التي يكون محظوظًا إن كــانــت مـرجـعـيـات تصنع أفقًا إنسانيًا في املخيلة، وتنميها نحو اآلخـر، ال استغاقًا، أو عودة إلى الذات أو نكوصًا. ثم الحقًا، تصبح مرجعيات اآلخــريــن مرجعيات الــقــارئ نفسه، إنـه يرثها، وقــد يـواصـل قــراءاتــه بـنـاء على مــرجــعــيــات اآلخـــريـــن الــتــي تــبــنـاهــا في مرحلة مــا مــن حـيـاتـه. ويستمر الحال إلـى أن يقع على نصوص فارقة، تعيد تـــرتـــيـــب قــــــراء اتــــــه ونــــســــج وعــــيــــه. ومـــا يجعل نصًا مـا نصًا فــارقــًا، ليس فقط الـــجـــمـــالـــيـــات؛ بــــل تـــلـــك الـــنـــوعـــيـــة الــتــي تـسـتـهـدف الـــوعـــي بـــصـــورة مــبــاشــرة ال تخلو من أسلوب خاص. مـــن تــلــك الــنــوعــيــة عــلــى ســبــيــل املـــثـــال، رواية جورج أورويل الشهيرة ،»1984« وهــي روايــــة مــعــروف أنـهـا تـتـحـدث عن األخ الــكــبــيــر. وقــــد روج لــهــا املـعـسـكـر الــغــربــي عــلــى أنـــهـــا روايـــــة تــتــحــدث عن األنـظـمـة االشـتـراكـيـة الـتـي يـوجـد فيها من يراقبك طوال الوقت، ومن يخطط لك كيف تفكر، ومن تحب، وما الذي تبقيه فـــي ذاكـــرتـــك بــاعــتــبــارهــا بـيـتـًا لـــــإرادة، ومـــا الــــذي تـمـحـوه مـنـهـا. أي، بكلمات بسيطة، هناك من يعمل على أن يجعل والءك خـالـصـًا إلرادة عـلـيـا، تجهلها، تــســيــرك مـــن جــهــة وتـسـتـغـلـك مـــن جهة أخـــــرى. لــكــن أبـــعـــد مـــن ذلـــــك، ال أظــــن أن القارئ اليوم يجد فرقًا بن الرأسمالية نفسها، وبن األخ الكبير. فكل األنظمة االقـــتـــصـــاديـــة والــســيــاســيــة تـسـعـى ألن يكون لديها جيش تحت املراقبة، جيش من املستهلكن. يقود توصيف الـقـراءة على أنها حدث، إلــى توصيف الـحـدث نفسه. وال مناص من االعــتــراف، بأنها حـدث مـعـزول، وإذا أتــحــت لـلـمـقـال أن يــقــود نـفـسـه، قــلــت إن هـــذا الـــحـــدث املـــعـــزول يــؤكــد لــلــقــارئ أنـــه إنسان أعزل، ليس لديه ما يفعله بوعيه الذي أحدثته القراءة، ألنه، كقارئ، عرف شيئًا؛ واآلخـــرون، بدورهم كقراء، عرفوا غـــيـــره. فــتــجــربــة الــــقــــراء ة لـيـسـت تـجـربـة واحــــدة. وإلـــى جـانـب مرجعيات الـقـراءة الــتــي تـشـكـل الـــوعـــي، تـــضـــاف إلــيــهــا؛ بل تـسـبـقـهـا، مـرجـعـيـة الــعــيــش، والــتــجــارب الــحــيــاتــيــة نـفـسـهـا. إذًا، يـمـكـن أن تـكـون إحـــدى خــاصــات الـــقـــراءة؛ صـنـع إنـسـان معزول يدرك بأنه أعزل في الوقت نفسه. الــــقــــراء ة تــصــنــع وعــــي الــــقــــارئ بــعــزلــتــه. لكنها خاصة تهمل فكرة غنى التجربة املـعـرفـيـة الــتــي تـمـيـز إنــســانــًا عــن اآلخـــر.
كثيرًا ما تصنع الكتب جانبًا من شخصية قارئها
الــــــقــــــراءة تـــضـــيـــف إلــــــى تـــجـــربـــة الــعــيــش نفسها. وقــــراءة روايــــة أورويــــل 1903( - )1950 مـثـا، تجعل املــرء أقــل استبساال في الدفاع عن مضطهديه، أو مستثمريه، وتـجـعـلـه يـعـي مـوقـعـه فــي الــنــظــام الــذي يـشـمـلـه، أيــــًا كـــان تــوصــيــف الــنــظــام. ألن الـــقـــارئ مــن جــــَّراء الــحــدث الــــذي تـعـَّرض لــه، وهــو حــدث الــقــراءة، لـم يعد اإلنسان الــســابــق نـفـسـه. الـــقـــراءة غــيــرتــه، تجربة الــقــراءة جعلت منه إنـسـانـًا متمها في أحـــكـــامـــه، وفــــي ســلــوكــه، وفــــي مـقـاربـاتـه للواقع. ذلـك ألنـه قـرأ عاملًا مـجـردًا، يمكن أن يستخلص منه، يمكن أن يبني عليه، ويـــمـــكـــن أن يــســتــعــن بــــــه. الــــــقــــــراءة، فـي النهاية، عون اإلنسان في وحدته القائمة.