Al Araby Al Jadeed

دعوة للقراءة

ما يمكن لكتاٍب أن يفعله إذا فهمنا القراءة بوصفها حدثًا، أمكن حينها القول إن القارئ، من جراء الحدث الذي تعرض له ـ أي القراءة ـ لمَّ يعد اإلنسان السابق نفسه

- سومر شحادة

الــــقـــ­ـراءة حــــدث، ال فـــي كــونــهــ­ا تقتضي جلوسًا أمــام الكتاب فـي املكتبة أو في الــبــيــ­ت، بــالــوسـ­ـائــط املـخـتـلـ­فـة لــلــقــر­اءة، وال في كونها تقتضي أن يقتطع املرء مــن وقـتـه كــي يــقــرأ، وال لشبهها بلقاء صــديــق، مــع مــا فــي َّالـلـقـاء مــن طـقـوس. أقــــــــ­ول صـــــديــ­ـــق، ألن الـــــــق­ـــــــراء­ة حـــديـــث بـاتـجـاهـ­ن، أحـدهـمـا مــن الـكـتـاب الــذي يقول إلى القارئ الذي يصغي. واآلخر، هو التأويل؛ أقصد ما يــراه الـقـارئ في الكتاب. القراءة حدث العتبارات كثيرة. لكن أخــص بهذا التوصيف مـا ينتمي إلى العالم الداخلي للمرء، إلى اإلدراك. إذ كــثــيــرًا مـــا تـصـنـع الــكــتــ­ب جــانــبــًا من شخصية قارئها. غالبًا ما يبدأ املرء القراءة من محيطه، مـن مكتبة املـنـزل، مـن نصيحة أستاذه فــي املـــدرسـ­ــة أو أحـــد أخـــوتـــ­ه. بشكل أو بــآخــر، يـبـدأ املـــرء قـــراءاتـ­ــه مــن محيطه، ومن مرجعياته االجتماعية التي يكون محظوظًا إن كــانــت مـرجـعـيـا­ت تصنع أفقًا إنسانيًا في املخيلة، وتنميها نحو اآلخـر، ال استغاقًا، أو عودة إلى الذات أو نكوصًا. ثم الحقًا، تصبح مرجعيات اآلخــريــ­ن مرجعيات الــقــارئ نفسه، إنـه يرثها، وقــد يـواصـل قــراءاتــ­ه بـنـاء على مــرجــعــ­يــات اآلخـــريـ­ــن الــتــي تــبــنـاه­ــا في مرحلة مــا مــن حـيـاتـه. ويستمر الحال إلـى أن يقع على نصوص فارقة، تعيد تـــرتـــي­ـــب قــــــراء اتــــــه ونــــســـ­ـج وعــــيـــ­ـه. ومـــا يجعل نصًا مـا نصًا فــارقــًا، ليس فقط الـــجـــم­ـــالـــيـ­ــات؛ بــــل تـــلـــك الـــنـــو­عـــيـــة الــتــي تـسـتـهـدف الـــوعـــ­ي بـــصـــور­ة مــبــاشــ­رة ال تخلو من أسلوب خاص. مـــن تــلــك الــنــوعـ­ـيــة عــلــى ســبــيــل املـــثـــ­ال، رواية جورج أورويل الشهيرة ،»1984« وهــي روايــــة مــعــروف أنـهـا تـتـحـدث عن األخ الــكــبــ­يــر. وقــــد روج لــهــا املـعـسـكـ­ر الــغــربـ­ـي عــلــى أنـــهـــا روايـــــة تــتــحــد­ث عن األنـظـمـة االشـتـراك­ـيـة الـتـي يـوجـد فيها من يراقبك طوال الوقت، ومن يخطط لك كيف تفكر، ومن تحب، وما الذي تبقيه فـــي ذاكـــرتــ­ـك بــاعــتــ­بــارهــا بـيـتـًا لـــــإراد­ة، ومـــا الــــذي تـمـحـوه مـنـهـا. أي، بكلمات بسيطة، هناك من يعمل على أن يجعل والءك خـالـصـًا إلرادة عـلـيـا، تجهلها، تــســيــر­ك مـــن جــهــة وتـسـتـغـل­ـك مـــن جهة أخـــــرى. لــكــن أبـــعـــد مـــن ذلـــــك، ال أظــــن أن القارئ اليوم يجد فرقًا بن الرأسمالية نفسها، وبن األخ الكبير. فكل األنظمة االقـــتــ­ـصـــاديــ­ـة والــســيـ­ـاســيــة تـسـعـى ألن يكون لديها جيش تحت املراقبة، جيش من املستهلكن. يقود توصيف الـقـراءة على أنها حدث، إلــى توصيف الـحـدث نفسه. وال مناص من االعــتــر­اف، بأنها حـدث مـعـزول، وإذا أتــحــت لـلـمـقـال أن يــقــود نـفـسـه، قــلــت إن هـــذا الـــحـــد­ث املـــعـــ­زول يــؤكــد لــلــقــا­رئ أنـــه إنسان أعزل، ليس لديه ما يفعله بوعيه الذي أحدثته القراءة، ألنه، كقارئ، عرف شيئًا؛ واآلخـــرو­ن، بدورهم كقراء، عرفوا غـــيـــره. فــتــجــر­بــة الــــقـــ­ـراء ة لـيـسـت تـجـربـة واحــــدة. وإلـــى جـانـب مرجعيات الـقـراءة الــتــي تـشـكـل الـــوعـــ­ي، تـــضـــاف إلــيــهــ­ا؛ بل تـسـبـقـهـ­ا، مـرجـعـيـة الــعــيــ­ش، والــتــجـ­ـارب الــحــيــ­اتــيــة نـفـسـهـا. إذًا، يـمـكـن أن تـكـون إحـــدى خــاصــات الـــقـــر­اءة؛ صـنـع إنـسـان معزول يدرك بأنه أعزل في الوقت نفسه. الــــقـــ­ـراء ة تــصــنــع وعــــي الــــقـــ­ـارئ بــعــزلــ­تــه. لكنها خاصة تهمل فكرة غنى التجربة املـعـرفـي­ـة الــتــي تـمـيـز إنــســانـ­ـًا عــن اآلخـــر.

كثيرًا ما تصنع الكتب جانبًا من شخصية قارئها

الــــــقـ­ـــــراءة تـــضـــيـ­ــف إلــــــى تـــجـــرب­ـــة الــعــيــ­ش نفسها. وقــــراءة روايــــة أورويــــل 1903( - )1950 مـثـا، تجعل املــرء أقــل استبساال في الدفاع عن مضطهديه، أو مستثمريه، وتـجـعـلـه يـعـي مـوقـعـه فــي الــنــظــ­ام الــذي يـشـمـلـه، أيــــًا كـــان تــوصــيــ­ف الــنــظــ­ام. ألن الـــقـــا­رئ مــن جــــَّراء الــحــدث الــــذي تـعـَّرض لــه، وهــو حــدث الــقــراء­ة، لـم يعد اإلنسان الــســابـ­ـق نـفـسـه. الـــقـــر­اءة غــيــرتــ­ه، تجربة الــقــراء­ة جعلت منه إنـسـانـًا متمها في أحـــكـــا­مـــه، وفــــي ســلــوكــ­ه، وفــــي مـقـاربـات­ـه للواقع. ذلـك ألنـه قـرأ عاملًا مـجـردًا، يمكن أن يستخلص منه، يمكن أن يبني عليه، ويـــمـــك­ـــن أن يــســتــع­ــن بــــــه. الــــــقـ­ـــــراءة، فـي النهاية، عون اإلنسان في وحدته القائمة.

 ?? ?? «أزهارُ فوشيا مع منظر طبيعي وقمر» لـ غابرييلّا غونتر، زيت على قماش، 1928
«أزهارُ فوشيا مع منظر طبيعي وقمر» لـ غابرييلّا غونتر، زيت على قماش، 1928

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar