Al Araby Al Jadeed

في دروس إعادة انتخاب أردوغان

- محمد سي بشير

عـجـبـا لتعليقات كـثـيـرة تــابــعــ­ت، بشغف، عــنــدنــ­ا، فـــي الــعــالـ­ـم الـــعـــر­بـــي، االنــتــخ­ــابــات الـــتـــر­كـــيـــة، وتــحــمــ­ســت ربـــمـــا لــهــا أكـــثـــر من األتــراك أنفسهم، ولـم يجعلوا منها فرصة لـــتـــعـ­ــلـــم الــــــــ­ــدروس أو االتــــــ­عــــــاظ، عـــلـــى أقــــل تقدير، لتغيير اتجاه البوصلة التي ضلت طريقها فـي أعـقـاب موجتني لربيع عربي لم يكتمل أو لم يستطع التغلب، بعد، على االســتــع­ــصــاء الـــــذي طــبــع مـنـطـقـتـ­نـا بـشـأن الـــديـــ­مـــقـــرا­طـــيـــة وتــبــعــ­اتــهــا مـــن انــتــخــ­ابــات نزيهة، حريات مكفولة وعدالة تشمل الكل، في كل املجاالت. مـــاذا عسانا أن نـقـول فـي تلك االنتخابات التي اتسمت بكثير مما نراه في الفضاء ات الديمقراطي­ة من قلق بشأن الفائز، نزاهة الصناديق، إقبال على االنتخاب ومتابعة عاملية منقطعة النظير، وهي األجواء التي صنعتها االنـتـخـا­بـات الـتـركـيـ­ة واسـتـطـاع أردوغــــا­ن أن يـــرد، مــن خـالـهـا، على أبــواق أوروبـيـة وغربية، حاولت التشويش على األجواء الديمقراطي­ة الكبيرة التي طبع بها أردوغـــان تركيا أكثر من عقدين من حكمه

ّّ األول، في ظل الدستور البرملاني، ثم في ظل التعديل الدستوري الذي تحول به النظام ليصبح رئاسيا، لعهدة ثانية له.

مــاذا عسانا أن نقول، أيضا، عن معارضة احـــتـــر­مـــت الـــقـــو­انـــني، ونـــاضـــ­لـــت بــــــاأل­دوات الـــتـــي مـنـحـهـا إيـــاهـــ­ا الـــدســـ­تـــور وســـارعــ­ـت، بـعـد اإلعــــان عــن اقـــتـــر­اب عملية الــفــرز من نهايتها، وتأكد فوز أردوغان، إلى تهنئته، تماما كما يجري في الـــدول الديمقراطي­ة، خــصــوصــ­ا مـنـهـا األوروبـــ­ـيــــة، الــتــي منعت تركيا من االنضمام إلى االتحاد األوروبي بمزاعم واهية، منها غياب تلك األجواء من احترام الحّريات والديمقراط­ية. إلـــــى هـــنـــا، يــنــتــه­ــي اإلعـــــج­ـــــاب بـــالـــن­ـــمـــوذج الـــتـــر­كـــي مــــن دون مــــجــــ­اوزة تـــلـــك الـــحـــد­ود التي شاهدنا بعضهم يوالي بها ويعادي مـن أجلها، بـل اعتبار أن تلك االنتخابات مــفــصــل­ــيــة بــــني اخـــتـــي­ـــار اإلســــــ­ـام أو غــيــره مـــن أيـــديـــ­ولـــوجـــ­يـــات، كــمــا أن اإلعــــجـ­ـــاب ال يـــجـــاو­ز، أيــضــا، حــد إرادة أن نـــرى الــصــور نفسها واالنــخــ­راط الشعبي الكبير نفسه في انتخاباٍت حـّرة ونزيهة واحترام إرادة الــنــاخـ­ـبــني مـــن الـــكـــل، ذلــــك اإلعــــجـ­ـــاب الـــذي يــجــعــل مـــنـــا مــغــتــب­ــطــني مــــن نــــمــــ­وذج نــريــد مـثـلـه، ال نــدافــع عــن نــمــوذج بعيد عــنــا، بل لـــه مـــن املــــؤاخ­ــــذات مـــا يـجـعـلـنـ­ا نـــقـــول، كما قــال أسـتـاذ املستقبليا­ت وليد عبد الحي، في منشور لـه، نحن مع أردوغـــان التركي، ولسنا مـع أردوغــــا­ن الــشــرق األوســطــ­ي، ملا له من سياسات ال تعجبنا، وال نريدها أن تكون صـادرة عمن يقول إنـه رئيس لدولة ذات مرجعية تاريخية إسامية (العثمانية الجديدة)، بصفة خاصة. يــمــكــن­ــنــا، اآلن، بــعــد انـــتـــه­ـــاء االنـــتــ­ـخـــابـــ­ات، الحديث عن ارث عقدين من حكم أردوغـان في الشرق األوسط، وهو إرث كبير بحصيلة نوجزها في أكثر من عشر اتفاقيات أمنية ودفــاعــي­ــة مــع الـكـيـان الـصـهـيـو­نـي، احـتـال أرض عـربـيـة فــي شــمــال ســـوريـــ­ة، مــن دون احتساب تدخات تركيا في أكثر من نزاع عـربـي (ليبيا وســوريــة، مـثـا) ليكون ذلك األســــــ­ـاس الــــــذي نــبــنــي مــــن خـــالـــه حـكـمـنـا على سياسات أردوغان، من دون أن ننتقد التطبيع، ثم نغض الطرف عمن له كل ذلك الكم من التعامات مع الكيان الصهيوني، ودون أن نتحدث عن تدخات حلف الناتو في أكثر من أرض عربية، وننسى أن تركيا عـضـو مــؤســس لـذلـك الحلف ونـاشـطـة في سـيـاسـاتـ­ه، بـل وتحتضن قـواعـد عسكرية لــه، استخدمت بعضا منها للهجوم على بـلـدان عربية، على غـــرار الــعــراق وسـوريـة، على سبيل املثال. تــلــك هـــي حــــدود اإلنـــصــ­ـاف فـــي الــنــظــ­ر إلــى املشهد الديمقراطي التركي من دون إفراط و ال تفريط، ومن دون أن نكون ملكيني أكثر مــن املــلــك، فـــأردوغـ­ــان بـراغـمـات­ـي إلـــى أبعد الحدود، دافـع عن بـاده تركيا، وحقق لها

األمـــجــ­ـاد، لكنها أمــجــاد جـنـى ثـمـارهـا هو وشعبه التركي، ولسنا نحن مـن نجنيها مــعــه، مــن دور فــعــال فــي خــاصــرة االتــحــا­د األوروبـــ­ــــــــــ­ي، فـــــي املــــتــ­ــوســــط وفــــــي الـــعـــا­لـــم، بـــالـــن­ـــســـبــ­ـة لـــبـــعـ­ــض الـــقـــض­ـــايـــا، عـــلـــى غــــرار توسطه، أخـيـرا، في عملية تصدير القمح األوكـــرا­نـــي، أو لعبه دورا عامليا، بامتياز، بشأن ما بات يعرف بدبلوماسية األنابيب، عـــنـــدم­ـــا جـــعـــل مــــن تـــركـــي­ـــا مــــمــــ­را إجـــبـــا­ريـــا

لـكـل األنــابــ­يــب الــتــي تــمــون أوروبـــــ­ا بالغاز الـــروســ­ـي، إلـــى وقـــت قــريــب، قـبـل العقوبات أخيرا على الطاقة الروسية. نـــــتـــ­ــذكـــــر، جـــمـــيـ­ــعـــا، داود أوغـــــلـ­ــــو صـــانـــع السياسة الخارجية التركية وكتابه «العمق االسـتـرات­ـيـجـي»، وكـيـف أن ذلــك العمق هو لـتـغـيـيـ­ر صـــــورة تــركــيــ­ا مـــن بــلــد مــتــوســ­ط الــــقـــ­ـوة وعـــضـــو فــــي «الــــنـــ­ـاتــــو»، وبـــتـــا­ريـــخ، عليه مؤاخذات كثيرة في الشرق األوسـط، إلــى قــوة فاعلة على املستوى الــدولــي، في كــل املـــجـــ­االت، وقــــوة اقــتــصــ­اديــة عـضـو في نـــادي االقـتـصـا­ديـات العشرين األكـثـر قـوة في العالم. وذلــك كله كـان أوغلو يقول إنه لصالح العمق االستراتيج­ي التركي، ولم يقل إنـــه لصالح فــالن أو عـــالن، أو لصالح قضية غير الـتـي يـؤمـن بها صـانـع الـقـرار التركي فعال. هــــــذه هـــــي تـــركـــي­ـــا الــــتـــ­ـي جــــــرت فـــيـــهـ­ــا تـلـك االنتخابات، وذلك هو أردوغـان، السياسي وصــــــان­ــــــع الـــــــق­ـــــــرار الـــــتــ­ـــركـــــ­ي، الـــــفــ­ـــائـــــ­ز بــهــا بـــاســـت­ـــحـــقــ­ـاق لـــيـــس إال مــــن دون مـــجـــاو­زة أليـــــــ­ة حـــــــــ­دود بـــالـــن­ـــســـبــ­ـة لــــنــــ­ا فــــــي الـــعـــا­لـــم الـــعـــر­بـــي، لــتــكــو­ن الـــــــد­روس املـــســـ­تـــفـــاد­ة من التجربة التركية: أوال، الـنـمـاذج الناجحة فـــي االنـــتــ­ـخـــابـــ­ات الــنــزيـ­ـهــة والــنــظـ­ـيــفــة في الــشــرق األوســـــ­ط، كلها غـيـر عـربـيـة (إيـــران وتـــركـــ­يـــا والــــكــ­ــيــــان الـــصـــه­ـــيـــونـ­ــي). ثــانــيــ­ا، اضـــــطــ­ـــرار أردوغـــــ­ــــــان لــــــــد­ورة ثــــانـــ­ـيــــة، جـــاء جـــــــــ­ـراء الــــصـــ­ـعــــوبــ­ــات االقــــتـ­ـــصــــاد­يــــة الـــتـــي تـعـيـشـهـ­ا تــركــيــ­ا، لــيــكــو­ن املـــواطـ­ــن الـتـركـي مشابها ألقـرانـه األوروبــي­ــني، ال يهم شأنه االقـتـصـا­دي، بـدرجـة أولـــى. ثالثا، ال مجال لــربــط مـــا جـــرى فـــي تــركــيــ­ا بــأيــة تــوجــهــ­ات أيديولوجية فوق قومية (إسالمية، بصفة خــــاصـــ­ـة)، بــالــنــ­ظــر إلــــى مـــا تـــقـــدم الــحــديـ­ـث عنه، ولكون تركيا دولة علمانية (بموجب مـنـطـوق الـــدســـ­تـــور، مـنـذ .)1924 رابـــعـــ­ا، ال مستفيد من صعود أردوغان لعهدة أخرى غــيــر األتــــــ­راك وغــيــر ســيــاســ­اتــه الــتــي نـافـح عــنــهــا فـــي حــمــالتـ­ـه االنــتــخ­ــابــيــة. خــامــســ­ا، النموذج التركي يحتذى به، لكن في جانبه الـديـمـقـ­راطـي اإلجـــرائ­ـــي، ولـيـس فـي جانبه األيديولوج­ي وال السياسي. هنيئا لتركيا بصعود أردوغــــا­ن، وهنيئا لــــلــــ­غــــرب بــــنــــ­مــــوذج أوروبـــــ­ــــــي ديـــمـــق­ـــراطـــي بمواصفات ومعايير غربية بحتة. وهنيئا لنا بـنـمـوذج أعـطـانـا كـل تلك الــــدروس، بل ومنحنا الــقــدرة عـلـى الـتـفـريـ­ق بــني مــا هو براغماتي نفعي، لصالح البلد الـذي جرت فيه االنتخابات بتلك املعايير الديمقراطي­ة، أي تـركـيـا، وسـيـاسـات تركيا ومصالحها الــتــي نـحـتـرمـه­ـا، ولــكــن ال نــدافــع عنها وال نوالي أو نعادي من أجلها.

النموذج التُّركي يُحتذى به، لكن في جانبه الديمقراطي اإلجرائي وليس في جانبه األيديولوج­ي وال السياسي

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar