المسار المعلّق
لبنان وصندوق النقد
بحلول شهر نيسان/أبريل مـن هــذا الـعـام، يكون قـد مــّر عامان بالضبط على توقيع االتــفــاق على مستوى املوظفن بـن لبنان وصندوق النقد الدولي. ذلك االتفاق املبدئي، حدد للبنان مجموعة من الـشـروط التي يفترض تنفيذها، على مستوى أزمــات الدين السيادي والنظام املصرفي واملالية العامة،ّ كي يتم قبول البالد ضمن برنامج التمويلي مع الصندوق. وحتى هذه اللحظة، مازال ذلــك املــســار مـعـلـقـا، تـمـامـا كـحـال خـطـة الحكومة املـالـيـة وسائر املــلــفــات املـتـعـلـقـة بـــاألزمـــة االقـــتـــصـــاديـــة. خـــالل الــســنــوات األربـــع املاضية، تخلفت عشر دول نامية –مـن بينها لبنان- عن سداد ديونها السيادية، ألسباب اقتصادية ومالية متباينة. وجميع هذه الـــدول، باستثناء لبنان، تمكنت مـن الـتـفـاوض مـع دائنيها على بـرامـج إلعـــادة هيكلة الــديــون، مـن أجــل الــعــودة إلــى أســـواق الدين العاملية. وفي ثماني حـاالت، أنجزت هذه الـدول املتعثرة اتفاقات تمويلية مع صندوق النقد، إلقناع الدائنن بجدية خطط التصحيح املالية. ووحده لبنان، من بن الدول التي تعثرت منذ العام ،2020 لم يبدأ بعملية التفاوض مع الدائنن أصال. على هذا النحو، لم يضع لبنان منذ بداية أزمته خططا تصحيحية تعفيه من الحاجة لبرامج صندوق النقد، وفقا للموارد املتاحة في البالد. وبعد التخلف عن سداد الديون، وحصر الخيارات الحكومية بتلك التي تمر عبر برامج صندوق النقد، لم تلتزم الطبقة السياسية اللبنانية برزمة اإلصالحات املتفق عليها مع الصندوق. وبهذا الشكل، بات لبنان يواجه احتماالت السير في «أزمة لن تنتهي أبدا»، وبعواقب «ال رجعة فيها»، كما حذر الصندوق اللبنانين قبل عام في بيانه. في واقع األمر، ثّمة من يسأل اليوم عن سّر حاجة لبنان لصندوق النقد، في هذه املرحلة بالذات من األزمة. إذ إن حـجـم الـتـمـويـل املـــوعـــود، بحسب االتــفــاق عـلـى مستوى املوظفن، لن يتخطى الثالثة مليارات دوالر، سيحصل عليها لبنان خالل فترة تصل إلى 46 شهرا. وكما هو معلوم، ال يمثل هذا التمويل سوى جزء يسير من فجوة خسائر النظام املالي، الـتـي يتخطى حجمها حـــدود الـــ 73 مليار دوالر، ومــن القيمة االسمية لسندات اليوروبوند املستحقة، التي تتجاوز الـ 31.31 مليار دوالر من دون الفوائد. غـيـر أن الـحـاجـة لـبـرنـامـج صــنــدوق الـنـقـد حــالــيــا، لــم تـعـد ترتبط بقيمة التمويل الزهيد نفسه. فبعد أربــع سنوات من التعثر في سداد سندات الدين السيادي، وبعد فشل لبنان املتكّرر في تنفيذ اإلصـالحـات املالية والنقدية، باتت الحكومة تحتاج إلـى برنامج الصندوق كشهادة ثقة دولية، قبل التفاوض مع الدائنن وإقناعهم بـإعـادة هيكلة ديونهم. بهذا املعنى، بـات برنامج صندوق النقد ضمانة تـؤكـد للدائنن أن هـنـاك طـرفـا خـارجـيـا، سيواظب على مراقبة تنفيذ لبنان لخطة التعافي املالية املعلنة. وثمة ضـرورة دائـمـة للتذكير بــأن وصـفـات الصندوق املعروفة منيت بالفشل في الكثير من البلدان، وهو ما يفرض الحذر من استيراد خططه املعلبة والـجـاهـزة، من دون االلتفات إلـى الخصوصيات املحلية. لكن بالنسبة لـلـدائـنـن، سـيـوفـر الـصـنـدوق عـامـل اطـمـئـنـان، من خـالل املراجعة الفصلية التي يجريها، قبل صـرف كل شريحة من شرائح القرض. فأصحاب السندات باتوا يدركون أن أي رقابة خارجية، مهما كان نوعها، ستبقى أفضل من االتكال على طبقة سياسية لم تثبت جدارتها بإدارة أزمة من هذا النوع. فـي الـوقـت نفسه، مـن املـعـلـوم أن معظم الـجـهـات الـدولـيـة املانحة واملقرضة، التي ينتظر لبنان دعمها خالل مسار التعافي املالي، بـاتـت تـربـط تقديم التمويل بـدخـول لبنان فـي بـرنـامـج صندوق النقد. فعلى سبيل املثال، ثمة 11 مليار دوالر من االستثمارات والهبات والـقـروض املـرصـودة للبنان، منذ عقد مؤتمر «سيدر» عـــام .2018 لـكـن اسـتـكـمـال بــرامــج الــدعــم املــنــصــوص عـنـهـا في املؤتمر بات متعذرا، بعد تعثر لبنان في سداد ديونه عام ،2020 بانتظار توقيع االتفاق النهائي مع صندوق النقد. أمـــا األهـــم، فهو أن استقطاب االسـتـثـمـارات والــودائــع إلــى النظام املالي، بعد إعــادة هيكلته ومعالجة فجواته، سيكون صعبا، من دون مسار متفق عليه مع جهة دولية، ملراقبة عودة االنتظام إلى القطاع املصرفي. فمرور القطاع بأربع سنوات من التعثر، وامتناعه عن سداد الودائع ملستحقيها، أفقده الثقة في أسـواق املال وعلى مستوى املودعن. والعودة إلى املنافسة واجتذاب التحويالت من الخارج، باتت تستدعي إشراك الصندوق في اإلشراف على خطة إعادة الهيكلة. في بداية األزمة، كان من املمكن أن تعمل الحكومة اللبنانية على خطة مالية شاملة باالتفاق مع الدائنن واملصارف، إلعادة جدولة الديون العامة وتصحيح وضعية القطاع املصرفي املحلي، من دون املرور بصندوق النقد. لـكـن بـعـد الـتـخـلـف عــن دفـــع الــســنــدات الــســيــاديــة، وتـعـثـر القطاع املصرفي املحلي، ومن ثم مـرور أربـع سنوات من دون تنفيذ أي خطة تعاف مالية، لم تعد الدولة اللبنانية تملك املصداقية الدولية الالزمة لعقد تفاهمات من هذا النوع، إال بعد االستحصال على دعم ومراقبة صندوق النقد. على مستوى السياسة النقدية، يمكن الـقـول إن لبنان حقق خــالل الفترة املاضية الـشـروط األساسية الــتــي نـــص عليها االتـــفـــاق عـلـى مـسـتـوى املــوظــفــن مــع صـنـدوق النقد. فأسعار الصرف املعتمدة من قبل مصرف لبنان ووزارة املالية، في الغالبية الساحقة من املعامالت املصرفية والضريبية، بـاتـت مــوازيــة لسعر صــرف الــســوق الـــســـوداء. وبــهــذا الـشـكـل، لم تتمنع السلطتان النقدية والسياسية عن تنفيذ شروط الصندوق القاسية على املستوى املعيشي أو الشعبي، مثل تصحيح أسعار الصرف املعتمدة الستيفاء الرسوم والضرائب وفواتير الخدمات العاّمة. لكن في املقابل، مازالت العقدة األساسية، التي تحول دون استكمال تنفيذ باقي الشروط، تكمن في الجانب املتعلق بمعالجة خسائر القطاع املصرفي. إذ مـازالـت النخب املالية والسياسية تتمنع عـن تنفيذ مطالب الـصـنـدوق املتعلقة بتدقيق ميزانيات املـصـارف التجارية، ووضــع قانون خـاص إلعــادة هيكلة القطاع املصرفي. وخــالل شهر شباط/فبراير املـاضـي، نجحت جمعية املصارف في فرض شروطها على الحكومة اللبنانية، من خالل سحب مسودة مشروع قانون إعــادة الهيكلة عن طاولة مجلس الـــوزراء. بهذا املعنى، باتت عرقلة االتـفـاق مع الصندوق حرصا على مصالح هذه النخب بالتحديد. أما الجانب األخطر من األزمة الراهنة، فهو أن السلطة السياسية لم تباشر بعد التفاوض مع حملة سندات الدين السيادي، لوضع خطة إعادة هيكلة الدين، كما نص االتفاق مع الصندوق.