غزّة فريسة الفشل ال ُمشتهى
«أنــــــا يــــوســــف يــــا أبــــــي. يــــا أبــــــي، إخــــوتــــي ال يــحــبــونــنــي، ال يـــريـــدونـــنـــي بـيـنـهـم يـــا أبـــي. يعتدون علي ويرمونني بالحصى والكام، يـريـدونـنـي أن أمــــوت لكي يـمـدحـونـي. وهم أوصـــــدوا بـــاب بـيـتـك دونـــــي. وهـــم طــردونــي مـن الـحـقـل. هـم سـمـمـوا عنبي يـا أبـــي. وهم حطموا لعبي يا أبي. حني مر النسيم والعب شـــعـــري غـــــاروا وثـــــاروا عــلــي وثـــــاروا عليك، فماذا صنعت لهم يا أبـــي؟» يعصر الكاتب ذاته أحيانا فا يجد ما يروي ظمأه الداخلي
ًُ فـي انتقاء مواضيع الكتابة، وأحـيـانـا أخــر تقدح زناد فكره لوحة فنية أو قصيدة ٍُ شعر أو حــتــى شــاخــصــة مــــروريــــة. تـنـقـلـه لحظة الخطف هذه إلى مقاربات استثنائية لم تكن لتخطر على باله في األحـوال العادية. تكثر هذه التخاطرات الداخلية، إن صح استخدام املـصـطـلـح، عـنـد الــكــتــاب املـحـتـرفـني وأولـئـك املــــوهــــوبــــني حـــتـــى لـــتـــكـــاد تــصــبــح إلـــهـــامـــا، وليس غريبا على الـعـرب أنهم استخدموا قديما أوصافا تـدل على التخاطر مع الجن بـاعـتـبـاره سببا إللهامهم قـصـائـدهـم، وما وادي عبقر إال اسم لوادي الجن. مررت على ذاتــي، التي أقسمها بني السياسة والثقافة وشـــــــؤون الـــحـــيـــاة الـــيـــومـــيـــة بـــانـــحـــيـــاز إلـــى السياسة يكاد يسبب لألسرة كلها مشكات مزمنة، فوجدتها ممزقة بني أقطاب الواقعية السياسية املتعددة، الخالية من كل إحساس إنساني أو مشاعر من أي نـوع كانت، وبني ذاك الـــدفـــق الـبـعـيـد مــن أحــــام غــابــرة كانت محركة ملسار حياتي وحـيـاة أفـــراد أسرتي خال ثاثة عشر عاما خلت، وقد تكون هي ذاتــهــا أو شبيه لـهـا مــا حــــرك حــيــوات آالف الــســوريــني والــســوريــات يـــوم نـفـضـوا عنهم غبار الصمت! وقد تكون مثياتها من تراود أي فلسطيني عن نفسه كلما خلد إلى روحه يسألها عن املصير. بحثت في جعبتي عن كلمات أرخيها ستارًا بـــني الـــواقـــع والــحــلــم، أســطــرهــا عــلــى لـوحـة مفاتيح الحاسب لتندرج في موقع إلكتروني أو صحيفة، أو لتلقى في الركن عند مسؤول التحرير أو مديره أو املدقق اللغوي، أو حتى لتبقى حبيسة غــرف التواصل االجتماعي والعوالم االفتراضية، فلم أجد ما يسعفني
لـبـدء مقالة أالمـــس فيها، مــن وجـهـة نظري املتواضعة، شأنا فائق األهمية، راعف الدماء مـتـجـدد األلـــم ســـوى قـصـيـدة أنـــا يـوسـف يا أبـــــي. لـــكـــن مــحــمــود درويـــــــش، الـــــذي أعـشـق شعره حتى طغى على ذائقتي التي باتت تـزن كل كتابة أدبية بميزانه «الدرويشي»، إن سمحت لــي روحــــه الــخــالــدة بــني عباقرة اإلنسانية نحت هذا املصطلح، أسعفني إذ اخـتـصـر عــلــي بتكثيفه الـــخـــارق لنواميس الطبيعة ما يختلج بني ضلوعي ويجول في عقلي من أفكار. فلماذا يكره يوسف الغزاوي إخوته، وهل أعمتهم كلهم الغيرة من حلمه بالوجود، أم هل يرون في مرآة وجهه صورة هزيمتهم وذلهم وخذالنهم فيشيحون عنها وعنه كي ال يذكرهم بذواتهم املتيبسة؟ لكن يوسف الغزاوي ليس وحيدا في غيابة الــجــب، بــل رمــى الــدهــر معه إخــوتــه مــن أمــه العروبة. يمد يوسف أصابع يديه الغضتني ليتحسس جـدران البئر، فترتسم أمامه في وحــشــة الـظـلـمـاء وجــــوه مــن قــضــوا نحبهم في حفرة التضامن وساحة رابعة وأحياء املـــوصـــل وشــــــوارع بـــيـــروت وضـــفـــاف النيل األزرق. ورغــم أنــه ال يهم الـشـاة السلخ بعد الذبح، إال أن اإليناس يأتي من مجاورة من نحب ولو في القبور. لكن يوسف ال يموت، يوسف أرض ارتــوت باملسك والعنبر، حلم فـــاض عــن الحقيقة وفــــاق الــخــيــال، يوسف أنـشـودة يغنيها القمر وتحرسها الشمس وتسقي نسغها كلمات الله املعجزات، تلك التي ينفد البحر لو كان مــدادا لها وهي ال تنفد. من أنا ألقول لكم من هو يوسف، أو ألقـــول لـكـم مــا أقـــول لــكــم؟ هــل أنـــا محمود درويــــش الـــذي كـــان حــجــرا فصقلته املـيـاه
ٌُ ًٌ ًً فأصبح وجها، وكان قصبا ثقبته الرياح فــأصــبــح نــــايــــا؟ أنــــا واحــــــد مــثــلــكــم، حــجــر مرصوف في جدار البئر، أنا لوحة علقها
ًّ قائد الجيش نيشانا على بزته التي تقطر دمـاء وأرواحـــا معذبة، أنا أنتم وكـل واحد منكم. أنـا ابـن غــزة كما ابـن درعــا، وهاشم الـذي ضـم ثراها رفاته هو جــدي، وتسري في عروقي بقية من دمائه، وفي وجداني أن األرض لـــي والـــهـــواء والــبــحــر لـــي، غـــزة لي كما درعـا لي أيضا، ولـن تبقى فريسة الفشل املشتهى من إخوتي يا أبي.