Al Araby Al Jadeed

غزّة فريسة الفشل ال ُمشتهى

- حسان األسود

«أنــــــا يــــوســـ­ـف يــــا أبــــــي. يــــا أبــــــي، إخــــوتــ­ــي ال يــحــبــو­نــنــي، ال يـــريـــد­ونـــنـــي بـيـنـهـم يـــا أبـــي. يعتدون علي ويرمونني بالحصى والكام، يـريـدونـن­ـي أن أمــــوت لكي يـمـدحـونـ­ي. وهم أوصـــــدو­ا بـــاب بـيـتـك دونـــــي. وهـــم طــردونــي مـن الـحـقـل. هـم سـمـمـوا عنبي يـا أبـــي. وهم حطموا لعبي يا أبي. حني مر النسيم والعب شـــعـــري غـــــاروا وثـــــارو­ا عــلــي وثـــــارو­ا عليك، فماذا صنعت لهم يا أبـــي؟» يعصر الكاتب ذاته أحيانا فا يجد ما يروي ظمأه الداخلي

ًُ فـي انتقاء مواضيع الكتابة، وأحـيـانـا أخــر تقدح زناد فكره لوحة فنية أو قصيدة ٍُ شعر أو حــتــى شــاخــصــ­ة مــــروريـ­ـــة. تـنـقـلـه لحظة الخطف هذه إلى مقاربات استثنائية لم تكن لتخطر على باله في األحـوال العادية. تكثر هذه التخاطرات الداخلية، إن صح استخدام املـصـطـلـ­ح، عـنـد الــكــتــ­اب املـحـتـرف­ـني وأولـئـك املــــوهـ­ـــوبــــن­ي حـــتـــى لـــتـــكـ­ــاد تــصــبــح إلـــهـــا­مـــا، وليس غريبا على الـعـرب أنهم استخدموا قديما أوصافا تـدل على التخاطر مع الجن بـاعـتـبـا­ره سببا إللهامهم قـصـائـدهـ­م، وما وادي عبقر إال اسم لوادي الجن. مررت على ذاتــي، التي أقسمها بني السياسة والثقافة وشـــــــؤ­ون الـــحـــي­ـــاة الـــيـــو­مـــيـــة بـــانـــح­ـــيـــاز إلـــى السياسة يكاد يسبب لألسرة كلها مشكات مزمنة، فوجدتها ممزقة بني أقطاب الواقعية السياسية املتعددة، الخالية من كل إحساس إنساني أو مشاعر من أي نـوع كانت، وبني ذاك الـــدفـــ­ق الـبـعـيـد مــن أحــــام غــابــرة كانت محركة ملسار حياتي وحـيـاة أفـــراد أسرتي خال ثاثة عشر عاما خلت، وقد تكون هي ذاتــهــا أو شبيه لـهـا مــا حــــرك حــيــوات آالف الــســوري­ــني والــســور­يــات يـــوم نـفـضـوا عنهم غبار الصمت! وقد تكون مثياتها من تراود أي فلسطيني عن نفسه كلما خلد إلى روحه يسألها عن املصير. بحثت في جعبتي عن كلمات أرخيها ستارًا بـــني الـــواقــ­ـع والــحــلـ­ـم، أســطــرهـ­ـا عــلــى لـوحـة مفاتيح الحاسب لتندرج في موقع إلكتروني أو صحيفة، أو لتلقى في الركن عند مسؤول التحرير أو مديره أو املدقق اللغوي، أو حتى لتبقى حبيسة غــرف التواصل االجتماعي والعوالم االفتراضية، فلم أجد ما يسعفني

لـبـدء مقالة أالمـــس فيها، مــن وجـهـة نظري املتواضعة، شأنا فائق األهمية، راعف الدماء مـتـجـدد األلـــم ســـوى قـصـيـدة أنـــا يـوسـف يا أبـــــي. لـــكـــن مــحــمــو­د درويــــــ­ـش، الـــــذي أعـشـق شعره حتى طغى على ذائقتي التي باتت تـزن كل كتابة أدبية بميزانه «الدرويشي»، إن سمحت لــي روحــــه الــخــالـ­ـدة بــني عباقرة اإلنسانية نحت هذا املصطلح، أسعفني إذ اخـتـصـر عــلــي بتكثيفه الـــخـــا­رق لنواميس الطبيعة ما يختلج بني ضلوعي ويجول في عقلي من أفكار. فلماذا يكره يوسف الغزاوي إخوته، وهل أعمتهم كلهم الغيرة من حلمه بالوجود، أم هل يرون في مرآة وجهه صورة هزيمتهم وذلهم وخذالنهم فيشيحون عنها وعنه كي ال يذكرهم بذواتهم املتيبسة؟ لكن يوسف الغزاوي ليس وحيدا في غيابة الــجــب، بــل رمــى الــدهــر معه إخــوتــه مــن أمــه العروبة. يمد يوسف أصابع يديه الغضتني ليتحسس جـدران البئر، فترتسم أمامه في وحــشــة الـظـلـمـا­ء وجــــوه مــن قــضــوا نحبهم في حفرة التضامن وساحة رابعة وأحياء املـــوصــ­ـل وشــــــوا­رع بـــيـــرو­ت وضـــفـــا­ف النيل األزرق. ورغــم أنــه ال يهم الـشـاة السلخ بعد الذبح، إال أن اإليناس يأتي من مجاورة من نحب ولو في القبور. لكن يوسف ال يموت، يوسف أرض ارتــوت باملسك والعنبر، حلم فـــاض عــن الحقيقة وفــــاق الــخــيــ­ال، يوسف أنـشـودة يغنيها القمر وتحرسها الشمس وتسقي نسغها كلمات الله املعجزات، تلك التي ينفد البحر لو كان مــدادا لها وهي ال تنفد. من أنا ألقول لكم من هو يوسف، أو ألقـــول لـكـم مــا أقـــول لــكــم؟ هــل أنـــا محمود درويــــش الـــذي كـــان حــجــرا فصقلته املـيـاه

‪ٌُ ًٌ ًً‬ فأصبح وجها، وكان قصبا ثقبته الرياح فــأصــبــ­ح نــــايـــ­ـا؟ أنــــا واحــــــد مــثــلــك­ــم، حــجــر مرصوف في جدار البئر، أنا لوحة علقها

ًّ قائد الجيش نيشانا على بزته التي تقطر دمـاء وأرواحـــا معذبة، أنا أنتم وكـل واحد منكم. أنـا ابـن غــزة كما ابـن درعــا، وهاشم الـذي ضـم ثراها رفاته هو جــدي، وتسري في عروقي بقية من دمائه، وفي وجداني أن األرض لـــي والـــهـــ­واء والــبــحـ­ـر لـــي، غـــزة لي كما درعـا لي أيضا، ولـن تبقى فريسة الفشل املشتهى من إخوتي يا أبي.

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar