رُّد إيران العسكري وصبرها االستراتيجي
أخـــيـــرًا، وبـــعـــد تــمــهــل أســـبـــوعـــني، جــــاء رد إيــــران املــتــوقــع عـلـى الـقـصـف اإلسـرائـيـلـي قــنــصــلــيــتــهــا فــــي دمــــشــــق، الـــــــذي قـــتـــل 16 شــخــصــا، بــيــنــهــم اثـــنـــان مـــن كـــبـــار قــــادرة الـحـرس الـثـوري اإليــرانــي، قصفا مباشرًا على إسرائيل بـ024 مسيرة وصاروخ، بني كروز وباليستي، وهو رد ذو داللة رمزية قوية بوصفه االستهداف اإليراني املباشر األول مــن نــوعــه ألراض إسـرائـيـلـيـة ومـن داخــل إيـــران، وليس عبر وكـائـهـا، ولكنه أيـــضـــا رد مــضــبــوط ومـــنـــســـق مــســبــقــا، إذ أعلمت به طهران واشنطن قبل 72 ساعة، وأفــــشــــل بــمــنــظــومــة الـــــــردع اإلســرائــيــلــيــة وحلفائها، خصوصا الــواليــات املتحدة، فـــي حـــني أن صـــواريـــخ قـلـيـلـة سـقـطـت في قاعدة لساح الجو اإلسرائيلي وأحدثت أضرارًا طفيفة في البنية التحتية وبعض اإلصــــابــــات. أعــلــنــت الـبـعـثـة اإليـــرانـــيـــة في األمـــم املـتـحـدة «انـتـهـاء الــــرد» على قصف القنصلية، وتــم فتح األجــــواء أمـــام حركة الــطــيــران فـــي إســرائــيــل واألردن والـــعـــراق ولـــبـــنـــان مـــبـــاشـــرة بــعــد انـــتـــهـــاء الـعـمـلـيـة، فيما كــانــت فــحــوى املـكـاملـة الـهـاتـفـيـة بني الـــرئـــيـــس األمـــيـــركـــي جـــو بـــايـــدن ورئــيــس الـــــــوزراء اإلســـرائـــيـــلـــي بــنــيــامــني نتنياهو تأكيد واشنطن التمسك بـأمـن إسرائيل، وفــي الــوقــت نفسه مـحـاولـة لجم األخـيـرة عن استفزاز طهران بمزيد من العمليات النوعية واالغتياالت. بـــالـــنـــســـبـــة إليـــــــــران لـــيـــس الـــتـــصـــعـــيـــد فــي املـنـطـقـة فـــي مـصـلـحـتـهـا، وكــمــا الـــواليـــات املتحدة، تريد للحرب أن تبقى محصورة فـــي غــــــزة. أصـــــا لـــم تـــدعـــم طـــهـــران حــركــة حماس في مقاومتها االعتداء اإلسرائيلي عــلــى الــقــطــاع، وحـــاولـــت الــتــنــصــل مـــن أي مسؤولية أو علم لها بـ«طوفان األقصى» ومـنـعـت أذرعـــهـــا مــن انـــخـــراط مـبـاشـر في الـــحـــرب، إذ تـــجـــري مـــنـــاوشـــات بـــني حــزب الله وإسرائيل من دون التصعيد العالي، واكــــتــــفــــت جــــمــــاعــــة الــــحــــوثــــي فـــــي الـــيـــمـــن بالتضييق على حركة املاحة في البحر األحــمــر الـتـي تـخـص الـكـيـان اإلسـرائـيـلـي. اخــتــال مــيــزان الــقــوى ملصلحة إسـرائـيـل، بسبب الدعم الغربي، األميركي خصوصا، ال يسمح إليران باملواجهة والتصعيد إلى حــرب أوســـع، خـاصـة أن حلفاءها ليسوا فـــي وارد االنــــخــــراط فـــي حــــرب إقـلـيـمـيـة، فــالــصــني تـــركـــز عــلــى نــمــوهــا االقــتــصــادي واستراتيجية الحزام والطريق، وروسيا منهكة في حربها في أوكرانيا. جـاء الـرد الحتمي الذي توعدت به طهران إسرائيل رمـــــزيـــــا لـــحـــفـــظ مـــــــاء الــــــوجــــــه، وكـــــــــان مــن املمكن تنفيذه فــورًا بعد قصف إسرائيل القنصلية اإليرانية، لكن مدة أسبوعني من االنتظار كانت حافلة بجوالت مكوكية في املنطقة لوزير الخارجية اإليـرانـي حسني أمـــيـــر عـــبـــد الـــلـــهـــيـــان مــــن أجـــــل الــتــنــســيــق مـــــع الــــــواليــــــات املــــتــــحــــدة عـــبـــر الـــوســـاطـــة الـعـمـانـيـة، الحــتــواء رد إيــــران االنـتـقـامـي، مــقــابــل تـحـقـيـق مــكــاســب تـتـعـلـق بـإيـقـاف االغـــتـــيـــاالت اإلســرائــيــلــيــة الــنــوعــيــة لــقــادة الــحــرس الــثــوري، بعد خــســاراٍت موجعٍة، كوادر عديدة من الحرس الثوري في ستة أشـــهـــر. تـــريـــد طـــهـــران تــعــزيــز دورهــــــا في اإلقليم عبر الحفاظ على أذرعها املنتشرة في أربع دول عربية؛ ورغم حدة شعاراتها املعلنة، والتي ترفض الوجود اإلسرائيلي فـي املنطقة، فــإن العاقة بـني طـهـران وتل أبيب عاقة منافسة على النفوذ واملصالح اإلقـــلـــيـــمـــيـــة. الــــــغــــــرب، خـــــاصـــــة الـــــواليـــــات املــــتــــحــــدة، يـــتـــبـــنـــى دعـــــم إســــرائــــيــــل كــيــانــا يضمن اســتــمــرار تـوتـيـر املـنـطـقـة، وراض عن دور طهران فيها، ويعمل على ضبط إيـقـاع االسـتـفـزازات بـني إسرائيل وإيـــران، وأن تبقى دون سقف التصعيد. وجـــــود الـــكـــيـــان الــصــهــيــونــي، وإشــكــالــيــة الصراع العربي معه، شكا رافعة لطهران لـبـنـاء أذرعــهــا الطائفية فــي املـنـطـقـة، في لــبــنــان تـــحـــديـــدًا، والـــتـــي نــمــت مـــع انـهـيـار فـصـائـل املــقـاومـة الـوطـنـيـة الفلسطينية. وخــــاض حـــزب الــلــه حــربــا فــي 2006 ضـد إسرائيل لتبرير وجـوده تنظيما مسلحا فــي لــبــنــان، فــي حــني أن بــاقــي املليشيات في العراق واليمن وسورية كانت بسبب
لن تضّحي إيران بأذرعها في المنطقة من أجل رد عسكري على إسرائيل
الــــحــــرب والـــفـــوضـــى األمـــنـــيـــة الــحــاصــلــة، واســـتـــغـــال الــعــامــل الــطــائــفــي. إن وجـــود كيان استعماري استيطاني مـدعـوم من الــــغــــرب بــشــكــل ال مــــحــــدود فــــي فـلـسـطـني هــو فــي عـمـق أســبــاب عـــدم االســتــقــرار في املنطقة، وبـالـتـالـي، إزالـــة الـكـيـان هــي في مصلحة تقدم العالم العربي واستقراره، ولـيـسـت فــي مصلحة نــفــوذ إيـــــران. ورفــع شعار إبـــادة إسـرائـيـل هـو لتبرير أجندة أذرع إيران «املقاومة»، وليس للقيام بفعل املـقـاومـة ذاتــهــا. هنا كــان على طـهـران أن تـــرد عسكريا عـلـى اعــتــداء تــل أبـيـب على قـنـصـلـيـتـهـا لــتــحــفــظ مــــاء وجـــهـــهـــا، أمـــام وكـــائـــهـــا فـــي املــنــطــقــة بـــالـــدرجـــة األولـــــى. تــــصــــرفــــت طـــــهـــــران بـــحـــكـــمـــة عــــبــــر ردهـــــــا الحتمي، لكن املضبوط واملعلن عنه، فا يـصـيـب أهـــدافـــا تـــجـــر املــنــطــقــة إلــــى حــرب أوســــع تــهــدم كــــل مـــا بـنـتـه إيــــــران، الــدولــة املنبوذة من الغرب، من نفوذ، فظلت تواجه الــضــربــات املـوجـعـة بصبر استراتيجي، ولن تضحي بأذرعها في املنطقة من أجل رد عـسـكـري عـلـى إســرائــيــل، فتلك األذرع التي تقوم بــدور إزعـــاج إسـرائـيـل، وليس إيذائها، هي أوراق مفاوضة إيرانية أمام الــغــرب لــاعــتــراف بـــدورهـــا اإلقـلـيـمـي في املنطقة، فـي أي تسويات مستقبلية، في اليمن ولبنان والــعــراق وســوريــة، وكذلك في فلسطني.