الحرب على غزّة... ترويكا ماكرون وترويكا سانشيز
حولت الحرب اإلسرائيلية على غزة ثالثة رؤســــــاء دول إلــــى مــــجــــرد أصـــحـــاب رأي، وســـط الــتــفــاعــالت املــتــواتــرة الــتــي نجمت عــــن اإلبـــــــــادة الـــجـــمـــاعـــيـــة. فــــجــــاء ت دعــــوة الـرئـيـسـن؛ الـفـرنـسـي إيـمـانـويـل مــاكــرون، واملــــصــــري عـــبـــد الـــفـــتـــاح الـــســـيـــســـي، رفــقــة العاهل األردني عبد الله الثاني، إلى وقف فــوري إلطــالق الـنـار فـي غــزة واإلفـــراج عن جــمــيــع الـــرهـــائـــن، عــلــى شــكــل مــقــالــة رأي نــشــرتــهــا أربـــــع صــحــف يـــومـــيـــة: لــومــونــد (فرنسية) وواشنطن بوست» (أميركية)، والـــــــرأي (أردنـــــيـــــة)، واألهــــــــرام (مـــصـــريـــة)، إعالنًا صارخًا عن العجز الجيوسياسي لثالث من أهـم عواصم صناعة القرار في منطقة الشرق األوسط )!( تـــحـــول املـــوقـــعـــون الـــثـــالثـــة مـــن قـــــادة دول إلـى قـادة رأي، في وقـت ترعى بعض هذه الـــدول وســاطــات سياسية وأخـــرى أمنية تـــقـــدم عــلــى أنـــهـــا مــهــمــة جـــــدًا. لــقــد تــنــازل الرؤساء عن وضعهم االعتباري أصحاب سلطة ومـوقـع وقـــدرات جيوستراتيجية، وصــنــفــوا أنـفـسـهـم، طــواعــيــة فـيـمـا يــبــدو، فـي خانة املطالبن الحقوقين واملثقفن والــنــقــابــيــن، وهــــو وضــــع جــديــد يضعف املــــوقــــف الــفــلــســطــيــنــي أكـــثـــر مـــمـــا يـــقـــويـــه، ويــكــشــف عـــن تـــحـــول فـــي طـبـيـعـة املــواقــف الــتــي تسير جنبًا إلـــى جـنـب مــع التقتيل والــــتــــدمــــيــــر. وكــــمــــا فـــــي كــــــل رســـــالـــــة عــبــر اإلعـالم، لنا أن نسأل من املرسل إليه؟ هل هـو مجلس األمـــن الـــذي عجز عـن تحويل قرار صادر عنه إلى واقع في غزة لحماية شعب بكامله يتعرض لــإبــادة؟ وال عذر لفرنسا فـي هـذه الحالة، هـي التي تشغل منصب عضو دائـم في مجلس األمـن منذ مــيــالده، وتملك وسـائـل إلسـمـاع صوتها في وجه إسرائيل وغير إسرائيل. ويكون من املنطقي وقتها أن نعتبر فرنسا املرسل واملرسل إليه، فوجهت الرسالة إلى نفسها بتوقيع ثالثي األطراف. هل هي رسالة إلـى إسرائيل؟ كـان عليهم أوال أن يكتبوها بلغة غير لغة «النصيحة» الـتـي «تـنـبـه إسـرائـيـل مـن عـواقـب خطيرة لهجوم تعتزم شنه في رفح». وثانيًا، كان على األردن ومصر، على األقل، أن تجتهدا في فـك العزلة عن الشعب املحاصر تحت
وابل من القنابل والجوع والتقتيل، بقرار مـــشـــتـــرك مــنــهــمــا، وتـــوفـــيـــر الــــحــــد األدنــــــى لــلــوقــوف فـــي وجــــه الــحــصــار الـــــذي يمنع املـسـاعـدات. لـم تعلن الـرسـالـة عـن املــرســل إليه، فكانت ال تختلف عن أي بيان صادر عن املنظمات الدولية أو املثقفن امللتزمن أو املــــراقــــبــــن غـــيـــر املــــحــــايــــديــــن لــلــوضــع فــــي املـــنـــطـــقـــة، وغــــرقــــت فــــي لـــغـــة وصــفــيــة، وســقــطــت فـــي نــــوع مـــن تـحـصـيـل حـاصـل (طوطولوجيا) مـحـذرة من أن الحرب «ال تفضي إال إلــى مزيد مـن املــوت واملـعـانـاة، وزيادة مخاطر وعواقب التهجير القسري الجماعي لسكان غـزة»، كما لو أن غيرهم كان يتوقع أن تـؤدي الحرب إلى الخصب واملهرجانات والسرور العارم. فـي انتظار قصيدة جماعية على شاكلة قـصـائـد مظفر الــنــواب لـلـقـدس أو «مـديـح الــــظــــل الـــــعـــــالـــــي»، تـــحـــمـــل تـــوقـــيـــع الــــقــــادة أنـــفـــســـهـــم، يـــــقـــــدم االشـــــتـــــراكـــــي الـــعـــمـــالـــي اإلســبــانــي، بــيــدرو سـانـشـيـز، مـــرة أخـــرى، املوقف الـذي تتطلبه املرحلة، كما ينشط الــنــقــاش الـحـقـيـقـي الــــذي يـتـطـلـبـه الـشـرط الــجــيــوســتــراتــيــجــي فـــي الـــشـــرق األوســـــط حاليًا، فقد جمع حوله ثالثية أكثر تقدمًا فـي الـدفـاع عـن الفكرة الفلسطينية، وعن مخرج ملا يقع، عندما توجه إلـى أوسلو، في 11 إبريل/ نيسان الحالي، ثم إلى دبلن حيث عقد مؤتمرين صحافين مشتركن مع نظيريه النرويجي يوناس غار ستور، واأليرلندي سيمون هاريس، أعلنت بعده الـدول الثالث االستعداد لالعتراف بدولة فـلـسـطـيـنـيـة، بـــاالشـــتـــراك مـــع دول أخــــرى. سانشيز الـذي يدعو إلى االعتراف بدولة فـلـسـطـيـنـيـة، جــعــل مـــن هــــذا الـــهـــدف أفــقــًا جـيـوسـتـراتـيـجـيـًا، وحـــــدد لـــه تــاريــخــًا هو نهاية شهر يونيو/ حــزيــران املقبل، كما جعل منه حجر الزاوية في تحليله الوضع الــعــاملــي، وكـــذا لتقدير املــوقــف األوروبــــي. وإذا كـــان يــتــحــرك فـــي كـــل الــعــواصــم ذات الـتـأثـيـر فــي مـسـتـجـدات الــشــرق األوســــط، وأوروبـــــا تــحــديــدًا، فـهـو يـــدرك أن اختيار الــزمــن، بــن استعجالية الــوضــع الـحـالـي وضــرورة إنضاج شـروط اإلعــالن، يفرض عليه «االعـتـراف بالدولة الفلسطينية في أقرب وقت عندما تكون الظروف مناسبة، وبطريقة يكون لها أكبر تأثير إيجابي في عملية السالم». التحرك الحالي لسانشيز
يقدم سانشيز، مرة أخرى، الموقف الذي تتطلبه المرحلة، كما يُنّشط النقاش الحقيقي الذي يتطلبه الشرط الجيوستراتيجي في الشرق األوسط حاليًا
سيجعل من مدريد «طرفًا فاعال مهمًا في إطــــار زخـــم دبـلـومـاسـي جــديــد فــي الــنــزاع اإلسرائيلي الفلسطيني»، بحسب مذكرة ملعهد إلكانو امللكي للدراسات. ولعل أهـم شـيء ينطلق منه سانشيز هو رؤيته الواقعية التي تعتبر أن االعـتـراف «يندرج في إطار املصلحة الجيوسياسية ألوروبــــــا»، وبــالــتــالــي وضـــع فلسطن فـي صــــرة الــعــالــم االســتــراتــيــجــي، عـلـى عكس الــعــقــيــدة الــغــربــيــة الـــتـــي أكـــــــدت، وتـــؤكـــد، طـــــــوال الـــعـــقـــديـــن األخـــــيـــــريـــــن أن حــمــايــة إسـرائـيـل مـن بـراكـن الـشـرق األوســـط هي ضمانة ملصلحة الـغـرب عمومًا، وأوروبـــا خصوصًا، واعتبار أن ما يتفرع عن ذلك هـو ضـــرورة تقزيم أدوار الـــدول املـعـاديـة، بل تفكيكها كما هو حال العراق في بداية األلفية أو توسيع حضور الدولة العبرية فـــي صــنــاعــة الـــوضـــع الــجــيــوســتــراتــيــجــي الـــعـــربـــي الـــجـــمـــاعـــي. وتــكــتــســي تــحــركــات اإلسـبـانـي االشـتـراكـي أهمية فـي محيطه ّّ القاري،إذ إنه سيغير من املوقف األوروبي، وينشط دينامية جديدة عابرة لألوطان. ويــــدخــــل الـــتـــحـــرك ضـــمـــن ديـــنـــامـــيـــة طـــرح االعتراف مجددًا أمام مجلس األمـن، وهو الطلب الــذي يــراوح مكانه منذ سبتمبر/ أيلول ،2011 عندما أطلق رئيس السلطة الـفـلـسـطـيـنـيـة إجــــــــراءات «انـــضـــمـــام دولـــة فلسطن إلـى األمــم املتحدة»، وظــل معلقًا في دهاليز الجهاز التنفيذي لهذه املنظمة األمـــمـــيـــة، فـــي انـــتـــظـــار تــوصــيــة إيــجــابــيــة مـــن مـجـلـس األمــــن تـسـمـح بـتـحـويـلـه إلــى الجمعية العامة. والــواضــح أن أدوات الفعل عند الترويكا التي شكلها سانشيز بشأن جدول أعمال فــعــلــي، يــعــيــد بــعــض األمـــــل فـــي املـسـلـسـل األمـــــمـــــي حــــــول الــــحــــق الـــفـــلـــســـطـــيـــنـــي، مـع حـــــدوده الــدنــيــا مـــن الـــنـــجـــاح، والــتــرويــكــا الــتــي نـشـطـهـا مـــاكـــرون ال تـتـقـاطـع سـوى مع اسقاطات الوضع الحالي على السالم الدولي. وغير ذلك، تظل األدوات متباينة إن لم نقل على طرفي نقيض، فهي بالغية تعبيرية فــي ثالثية مــاكــرون، وسياسية ديبلوماسية عند ترويكا سانشيز، ولعل الــــوضــــع املـــنـــفـــلـــت املـــــوســـــوم بــالــتــصــعــيــد الحالي سيعطي معنى للترويكا األخيرة، فــــي حــــن ســـيـــزيـــد مــــن عــبــثــيــة الـــرســـائـــل مجهولة العنوان لدى الثانية.