انفجار فّقاعة حرب األيام الستة
بعد حــرب 1967 بقليل، وبينما كـانـت املـقـاومـة الفيتنامية تتصاعد بـوتـائـر عالية وتحتل العناوين، تـــداول اإلسرائيليون املنتشون بنتائج عـــدوان الخامس من يونيو من ذلك العام، نكتة سمجة، إن وزير الحرب آنذاك موشيه دايان اتصل هاتفيًا بنظيره األميركي روبرت مكنمارا عارضًا عليه إرسال الفرقة املوسيقية في جيش االحتالل إلـى األدغـــال الفيتنامية للقضاء على الـ«فيت كونغ» في 6 أيــام، كافية لحسم الحرب وتخليص الـدولـة العظمى مـن ورطتها العسكرية. لـم تكن هــذه النكتة الجارحة التي تبادلها السكارى في أجــواء االحتفاالت الصاخبة بهزيمة الجيوش العربية، وجاهر بـهـا املـنـتـشـون بحصيلة حــــرب حـقـقـت أكــثــر مـمـا كـــان مـخـطـطـًا لــهــا، مــجــرد طرفة ســاخــرة، وإنــمــا كـانـت التعبير املــاجــن عــن املــنــاخ السياسي والسيكولوجي السائد في حينه، إذ كـان غــرور الـقـوة طاغيًا، وروح الغطرسة ضاربة في الجيش واملجتمع والكنيست، ما تجلى في أوضح صوره في األداء السياسي املتفلت من كل اعتبار أو قيد، وفي الخطاب اإلعالمي الفائض بالعجرفة واالستعالء، تمامًا على نحو ما أكدته االعـتـداءات املتالحقة من دون رادع، وبرهنت عليه شتى قــرارات الضم واالستيطان. ما كان للعنوان أعاله أن يجد لنفسه مسوغًا في املجال العام أو مطرحًا على شاشة الكمبيوتر، وال أن يطرح هكذًا قبل 6 أشهر، لوال ذلك الطوفان الهائل فجر يوم السابع من أكتوبر (املاضي)، وما تاله من تداعيات غيرت وجه الشرق األوسط، وربما العالم، فتكشفت في غالف غزة حقائق صلبة، وتهتكت في محيطها مزاعم هشة، أملت، ألول مـّرة، على من أدار الشراُب رؤوسهم إجـراء املراجعات االضطرارية بصوت مسموع، بعضها على ألسنة قادة سياسيني وازنني وجنراالت متقاعدين، أجمعت، على أن دولة االحتالل خسرت الحرب، وأن الوضع الذي كان مضى ولن يعود. حـني نستعير مصطلح «الـفـقـاعـة» الــــدارج فـي عـالـم املـــال واألعـــمـــال، نــأولــه سياسيًا، ونسقطه على الــوضــع الــراهــن فــي دولـــة االحـــتـــالل، فإننا نـرمـز بـذلـك إلـــى حـالـة قوم صـحـوا لـتـوهـم مــن الــنــوم متثاقلني، فــي سـاعـة مــتــأخــرة بـعـد الـظـهـر، جــــراء اإلفـــراط فــي شـــرب خــمــرة لـيـالـي حـــرب األيـــــام الــســتــة، فـفـوجـئ أولــئــك الــســكــارى بــــأن الــواقــع الــــذي نـــامـــوا عـلـيـه تـــبـــدل، وأن الـفـقـاعـة الــتــي تـكـونـت قـبـل عــقــود قـــد انــفــجــرت بفعل أول حــــرب هـجـومـيـة فـلـسـطـيـنـيـة، أنـــجـــزت املــهــمــة فـــي ســــت ســـاعـــات، حــــرب عــادلــت نتائجها، مـوضـوعـيـًا، نتائج مــا ســمــوه على سبيل التفاخر «حـــرب األيــــام الستة». يضيق املقام عن سرد األقوال واالعترافات والخالصات، التي انتهى إليها ساسة وعسكر وكتاب يقرون بالحقيقة الصادمة، وأن الواقع على األرض قد تغير، ربما إلى غير رجعة، وأن الخسارة مركبة وباهظة، ليس في امليدان فقط، وإنما في الفضاء السياسي األشمل أيضًا، إذ غدت الدولة املدللة في الغرب مكروهة، فاجرة ومتوحشة، تقف اليوم عارية أمام قفص العدالة الدولية، ومحكمة الرأي العام، بتهمة ارتكابها الجرائم املوثقة بالصوت والصورة، وفوق ذلك تحولت، بحسب مشاهد الجسر الجوي وحامالت الطائرات، من ذخر استراتيجي للغرب، وسيف حديدي من سيوفه، إلى عال ٍة مستدام ٍة وعبٍء أخالقي ثقيل. إزاء ذلك كله، يمكن القول، بثقة، إن نقطة الضعف التكوينية لدولة االحتالل كانت كامنة في االحتالل ذاته، وإن الفقاعة التي عاشت فيها كانت بمثابة الفخ الذي وقعت فيه على وجهها غداة حرب األيام الستة، حني استطابت الحياة فيه من دون تبصر، وسكرت في حاناته الواسعة حتى الثمالة، وأبت إيقاظها من نشوة الشراب الرخيص، وراحت تطلب االستزادة معولة على مضاء آلة حربية محشوة بالديناميت وشهوة القتل واألحقاد التلمودية، وظلت على انغالق عقلها األحـــادي هــذا، إلـى أن فتحت أعينها، ثم فركت جفونها طويال، غير مصدقة أن الفقاعة الكبيرة قد انفجرت أخيرًا، وأن رجع دويها مأل أرجاء العالم كله.