Al Araby Al Jadeed

البعد اإلنساني االنفتاحي في شخصية يوسف سالمة

- عبد الباسط سيدا

انضم عدة أساتذة ومحاضرين جدد إلى قسم الـــدراسـ­ــات الفلسفية واالجـتـمـ­اعـيـة فــي كلية اآلداب بجامعة دمشق في الثمانينيا­ت. ترك اثــنــان منهم أثـــرًا خــاصــًا، وانـطـبـاع­ـًا إيجابيًا الفتًا لدى الطلبة واألساتذة معًا. ولم يكن من السهل في ذلك الحن أن ينال أحدهم اعترافًا بـأهـلـيـت­ـه وقــــدرات­ــــه األكـــادي­ـــمـــيــ­ـة فـــي مـواجـهـة أسماء كبيرة متميزة كانت تنتمي إلى األسر األرستقراط­ية املعروفة في سورية، وهي األسر التي استطاعت، بفضل إمكاناتها وعاقاتها، إرســــــا­ل أبــنــائـ­ـهــا إلــــى الـــجـــا­مـــعـــات األوروبـــ­ـيــــة واألميركية. هذا إلى جانب أساتذة ممن كانوا قد حصلوا، بناء على انتماءاتهم السياسية، على منح دراسية في دول اشتراكية أو عربية، على سبيل املثال عــادل الـعـوا، وبديع الكسم، وصــــادق جـــال الـعـظـم، وعـبـد الـكـريـم الـيـافـي، وأسعد عربي درقـــاوي، وغانم هنا، وجوليت عويشق، ونايف بللوز، وحامد خليل، وطيب تـــيـــزي­ـــنـــي، وخــــضـــ­ـر زكـــــريـ­ــــا، وأحــــمــ­ــد درغـــــــ­ام، وبكري عاء الدين. واألسـتـاذ­ان املعنيان هنا هما الفلسطينيا­ن الـسـوريـا­ن: أحمد برقاوي ويوسف سامة. بدأ برقاوي العمل في القسم قبل يوسف. أظن أنه بدأه في أوائل ثمانينيات الـقـرن املـنـصـرم، بينما بــدأ يوسف فـي أواخــر العقد نفسه. وسرعان ما أصبحا من األسماء املـحـتـرم­ـة علميًا وشـخـصـيـًا وإنــســان­ــيــًا، فقد تميزا بنشاط حيوي من جهة بناء العاقات، واملشاركة في الـنـدوات والفعاليات املعرفية. ولم يشعرا، ولم نشعر، في يوم ما بغربتهما عن املجتمع السوري، بل كنا، وما زلنا، نتعامل معهما بوصفهما سورين يهتمان بالقضايا الـسـوريـة، ويعلنان عـن املــواقــ­ف الجريئة من جهة نقد السلبيات والدعوة إلى التغيير في مرحلة حكم حافظ األسد نفسه، وحتى الدعوة إلى إعادة النظر في املادة الثامنة من الدستور في مرحلة حكم بشار األسد، وهي الدعوة التي سبق إليها الراحل الكبير يوسف سامة غيره. تــــعــــ­رفــــت إلــــــى أحــــمـــ­ـد بـــــرقــ­ـــاوي عـــبـــر صـــديـــق موريتاني عـزيـز مشترك، هـو الــراحــل محمد الــــبـــ­ـخــــاري، وتــــحـــ­ـولــــت الـــعـــا­قـــة إلـــــى صـــداقـــ­ة مــســتــم­ــرة. كـــان بـــرقـــا­وي عــضــو الـلـجـنـة الـتـي نـاقـشـت رسـالـتـي فــي املـاجـسـت­ـيـر، إلـــى جانب الراحلن صادق جال العظم وطيب تيزيني، فـــي عــــام ،1983 وكـــــان عـــنـــوا­نـــهـــا: «فـــكـــر زكــي نـجـيـب مــحــمــو­د الــفــلــ­ســفــي». أمــــا الــعــاقـ­ـة مع الــــراحـ­ـــل يـــوســـف ســـامـــة فــكــانــ­ت ال تـــــزال في بداياتها في خريف 1991 (حصلت فيه على الـــدكـــ­تـــوراه وغــــــاد­رت فــيــه ســـوريـــ­ة إلــــى ليبيا للتدريس هـنـاك، ثـم إلــى السويد عــام .)1994 بـــدأ سـامـة الــتــدري­ــس فــي الـقـسـم بينما كنت أستعد لانتهاء من أطروحتي في الدكتوراه «من الوعي األسطوري إلى التفكير الفلسفي النظري: بـاد ما بن النهرين تحديدًا». وقد كـــنـــت أقـــضـــي مــعــظــم وقـــتـــي فــــي ذلـــــك الــحــن

فـــي عــــامـــ­ـودا، حــيــث كــنــت أراجــــــ­ع األطــــرو­حــــة. وفــي األثــنــا­ء، كنت أتـابـع أخـبـار سـامـة الـذي كـــان يعتبر اسـمـًا وازنــــًا ضـمـن أعــضــاء هيئة التدريس. وكـم كانت سعادتي كبيرة حينما وجـــدتـــ­ه جــالــســًا فـــي مــقــدمــ­ة الــحــضــ­ور أثــنــاء مناقشة أطروحتي في صيف عام .1991 أكــمــل الــدكــتـ­ـور يــوســف دراســـاتـ­ــه الـعـلـيـا في جـــامـــع­ـــة الــــقـــ­ـاهــــرة بـــــإشــ­ـــراف كـــــل مــــن زكـــريـــ­ا إبراهيم في مرحلة املاجستير، وكان عنوان أطــروحــت­ــه: «املـنـطـق عـنـد أدمـــونــ­ـد هــوســرل» ،)1975( وحسن حنفي في الـدكـتـور­اه، وكان عــــنــــ­وان األطـــــر­وحـــــة: «الـــســـل­ـــب والـــيـــ­وتـــوبـــ­يـــا: دراســــــ­ـــة فـــــي هـــيـــغـ­ــل ومـــــارك­ـــــيــــ­ـوز» .)1987( وفـــي ظــــروف االنــفــج­ــار الـكـبـيـر الــــذي شـهـده املـجـتـمـ­ع الـــســـو­ري نتيجة الـــثـــو­رة الشعبية العارمة التي انطلقت في ربيع ،2011 غادر ســــامـــ­ـة ســـــوريـ­ــــة، مـــثـــل كـــثـــيـ­ــريـــن غــــيــــ­ره مـن األســاتــ­ذة والباحثن، وغيرهم مـن أصحاب االختصاصات والـخـبـرا­ت، نتيجة رفـض ما كـان يجري، وااللـتـزا­م بالتطلعات املشروعة للشعب السوري. وكـان استقراره في مدينة ماملو بالسويد، وقد أخبرني بذلك الصديق يان هينيغسون، مدير املعهد السويدي في اإلسكندرية سابقًا. وكان الخبر بالنسبة لي مـن األخـبـار الــســارة فـي عاملنا املتخم راهنا بكل املنغصات واألخبار املؤملة. وشـاءت مصادفة جميلة أن نلتقي الحقًا في برلن للمشاركة فـي فعالية نظمها صالون هنانو (مركز حرمون للدراسات املعاصرة)، عـــن املـــســـ­ألـــة الـــكـــر­ديـــة فـــي صــيــف عــــام .2016 وكــــانــ­ــت املـــنـــ­اســـبـــة فـــرصـــة ســـعـــيـ­ــدة لــالــتــ­قــاء بــمــجــم­ــوعــة مـــن األصــــدق­ــــاء بــعــد ســـنـــوا­ت من الـــــفــ­ـــراق. كـــمـــا مــكــنــت­ــنــي الـــفـــر­صـــة عــيــنــه­ــا مـن الـتـعـّرف إلــى مجموعة مـن األعــــزا­ء ممن كنت قد سمعت بأسمائهم أو قــرأت لهم، وتابعت أخــبــاره­ــم مــن دون أن أحــظــى بـالـلـقـا­ء معهم. وألول مـرة عرفت سامة عن قـرب، وتناقشنا فـــي جــمــلــة مــســائــ­ل تـــخـــص الـــشـــأ­ن الـــســـو­ري، منها مسائل ثقافية فكرية وأخرى مجتمعية سـيـاسـيـة. واتـفـقـنـ­ا عـلـى اســتــمــ­رار الــلــقــ­اءات؛ وهذا ما كان، من خال العمل املشترك ضمن هيئة تحرير مجلة قلمون التي اقترح سامة أن أكـون عضوًا في أسرتها إلـى جانت نخبة من األساتذة والباحثن األفاضل. وكان العدد األول فـي مـايـو/ أيـــار ،2017 مخصصًا لفكر أسـتـاذي الـراحـل صــادق جــال العظم. وأصــر سـامـة بمنطقه العقاني املـقـنـع املـعـهـود أن

يـكـون ملف الـعـدد الـثـانـي، فـي أغسطس/ آب ،2017 مـخـصـصـًا لــتــاريـ­ـخ الـــكـــر­د وثـقـافـتـ­هـم، والـــذي شــارك فيه عــدة كـتـاب وباحثن أكــراد وعــرب. وكـان اهتمام سامة بالعدد الفتًا، إذ حـــرص عـلـى مـتـابـعـة أدق الـتـفـاصـ­يـل، يتابع الــكــتــ­اب مــن دون كــلــل، ويـحـثـهـم عـلـى إنـجـاز األوراق البحثية في الوقت املخصص. يقترح عليهم الفكر، ويساعدهم بخبرته على تجاوز العثرات. يفعل ذلك كله من دون أن يقيد حرية الـبـاحـث، بــل كــان يــشــدد على ضـــرورة إعطاء الباحثن كامل الحرية، وإتاحة املجال أمامهم لــيــعــب­ــروا عـــن أفـــكـــا­رهـــم كــمــا يـــرغـــب­ـــون. وقـبـل صـــدور الــعــدد، اقــتــرح عـلـي بـكـل ود أن أكتب كلمة الـــعـــد­د، لـكـنـي اعـــتـــذ­رت، مبينًا تقديري لـــاقـــت­ـــراح األخــــــ­ــوي، وكــــانــ­ــت حــجــتــي أن مـن الضروري االلتزام بقواعد املهنة، فكلمة العدد يكتبها رئيس التحرير ال غيره. وقــــــــ­ـررت هــيــئــة الـــتـــح­ـــريـــر تــخــصــي­ــص مــلــف فـــي املـــجـــ­لـــة لــلــســر­يــان الـــســـو­ريـــن، بــعــنــو­ان: «السوريون السريان قديمًا وراهنًا: التاريخ، الـثـقـافـ­ة، الــــدور» (الــعــدد 81، يـنـايـر/ كـانـون الــثــانـ­ـي ،)2022 وكــلــفــ­ت مـــن هـيـئـة الـتـحـريـ­ر بــكــتــا­بــة الــــورقـ­ـــة الــخــلــ­فــيــة ومــــحـــ­ـاور املـــلـــ­ف، فــقــبــل­ــت بـــكـــل ســــــرور، ولـــكـــن­ـــي اعــــتـــ­ـذرت مـــرة أخـــرى عــن كـتـابـة كلمة الــعــدد، تــاركــًا املهمة لـــرئـــي­ـــس الـــتـــح­ـــريـــر. وتــــكـــ­ـرر األمــــــ­ر مــــع كـلـمـة العدد 22 (يناير، ،)2023 الـذي تضمن ملف: «الــســوري­ــون والــتــحـ­ـديــات املعيشية بـعـد 11 عامًا من الحرب والتمزق»، الذي كتبت ورقته الـخـلـفـي­ـة ومـــحـــا­وره. واســتــمـ­ـرت رحـلـتـي مع يــوســف ســامــة ضــمــن هـيـئـة الــتــحــ­ريــر على مدى ست سنوات، أصدرنا خالها 22 عددًا. وفي األثناء، كلفني سامة بكتابة بحث عن أســـتـــا­ذي طــيــب تـيـزيـنـي، لـيـكـون إلـــى جانب أبـــحـــا­ث أخــــرى تــنــاولـ­ـت كــوكــبــ­ة مـــن أســاتــذة الفلسفة في سورية، وصدرت األبحاث ضمن كتاب من إعداد كل من يوسف سامة ومشير باسيل عــون، تحت عـنـوان: «الفكر الفلسفي املعاصر في سورية» (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، ،)2020 األمر الذي كان موضع فرحي وتقديري. ما الحظته من خـال العمل مع سامة، ومن الـحـوارات بيننا، أنــه كـان سوريًا بصدق إلى جـــانـــب فــلــســط­ــيــنــيـ­ـتــه، يـــحـــرص عـــلـــى تــكــريــ­م املـــفـــ­كـــريـــن واملــــبـ­ـــدعــــن الــــســـ­ـوريــــن مــــن خـــال تـخـصـيـص مــلــفــا­ت املــجــلـ­ـة لــتــنــا­ول إنـتـاجـهـ­م وأفـــــكـ­ــــارهـــ­ــم. مـــنـــهـ­ــم صـــــــاد­ق الــــعـــ­ـظــــم، وطـــيـــب تيزيني، وجورج طرابيشي، وزكريا تامر. كما كـان يعطي أهمية خاصة للجوانب الثقافية الـــســـو­ريـــة املــشــتـ­ـركــة. ومــــن بـــن مـــا اتـــســـم بــه، إلـــى جــانــب دائـــــرة مــعــارفـ­ـه الـــواســ­ـعـــة، ودقــتــه الفلسفية، تـواضـعـه األصــيــل، وأدبــــه النبيل، وصـبـره املـتـواصـ­ل فـي مـيـدان املتابعة، وكـان ذلــك كله يحول بيني وبــن تقديم االستقالة مــن هـيـئـة الـتـحـريـ­ر بـفـعـل ظــروفــي الـخـاصـة، وانشغالي باألمور العامة. ولكني في نهاية األمر اضطررت التخاذ القرار الصعب، وقدمت االستقالة (وكان سامة قد رفضها)، من هيئة التحرير فـي صيف ،2023 ولـجـأت هــذه املــرة إلى تكتيك آخر، إذا صح التعبير، فقد أعلنت عن استقالتي عبر رسالة وجهتها إلى رئيس هيئة التحرير وجميع أعضائها، مع إعطاء وعــــد (مـــلـــتـ­ــزم بــــه) بــمــتــا­بــعــة الـــتـــع­ـــاون كـتـابـة وتحكيمًا ضمن حدود اإلمكان. تواصلت مع الـدكـتـور ســامــة، قبل وفــاتــه بــأيــام، للحديث بـــشـــأن بــحــث كــلــفــن­ــي بـــه لــيــكــو­ن ضــمــن ملف اآلثـــار، فـي الـعـدد 27 (إبــريــل/ نيسان .)2024 وعـــرفـــ­ت مــنــه أنـــــه أجـــــرى فـــحـــوص­ـــات نتيجة معاناته من املـرض، ولم يذكر لي التفاصيل، ونـظـرًا إلــى حساسية مثل هــذه املـواضـيـ­ع لم أســال عـن طبيعة تلك الفحوصات أو نوعية املرض. وكان خبر وفاته بالنسبة لي مفاجئًا وألــيــمـ­ـًا، ولـــم أتــمــكــ­ن بــكــل أســـف مــن املـشـاركـ­ة في مراسم جنازته بسبب ظروفي الصحية، وضــيــق الـــوقـــ­ت، وبـــعـــد املــســاف­ــة. ومـــع تحسن الصحة توجهت إلى مدينة ماملو التي تبعد عن إبـسـاال، حيث أسكن، نحو 700 كـم، ألقـدم واجب العزاء ألسرته الكريمة. لقد غـادر يوسف سامة دنيانا، ولكنه ترك إرثــــًا عـلـمـيـًا مـعـرفـيـًا غــنــيــًا، وســجــا ناصعًا فــي مــيــدان االهـتـمـا­مّ بـالـشـأن الــعــام مــن دون أن يــنــخــر­ط فـــي مــنــغــص­ــات الــعــمــ­ل الــحــزبـ­ـي الـيـومـي وأوجــاعــ­ه ومــآزقــه املـزعـجـة. وتمكن من إعداد كوكبة من الطلبة املتميزين، وتمتع بسمعة طيبة. وخلف سليم وقاسم ورنيم، لــيــكــو­نــوا خـيـمـة تـــقـــاو­م عـــواصـــ­ف الــهــجــ­رات واإلخفاقات والنكبات، خيمة عمادها سيدة فاضلة وقفت إلى جانب زوجها في أصعب الظروف بوفاء، وأثبتت بصبرها وتفاؤلها وإخــــاصـ­ـــهــــا لــــزوجــ­ــهــــا وأوالدهـــ­ــــــــا وبــيــتــ­هــا وأهلها أن اإلنسانية، رغم كل شيء، ما زالت بخير. رحم الله يوسف سامة، وألهم أسرته وذويه وطلبته ومحبيه الصبر.

كان يوسف سالمة سوريًّا بصدق إلى جانب فلسطينيته، يحرص على تكريم المفكرين والمبدعين السوريين من خالل تخصيص ملفات مجلة قلمون لتناول إنتاجهم.

أعطى أهمية خاصة للجوانب الثقافية السورية المشتركة. واتسم إلى جانب دائرة معارفه الواسعة ودّقته الفلسفية، بتواضعه األصيل وأدبه النبيل

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar