فوزية أبو خالد
نموت خجًال... نتقّوى بهم ونكتب
تقف هذه الزاوية مع مبدع عربي في أيام العدوان على غزّة وكيف أثر على إنتاجه وحياته اليومية، وبعض ما يوّد مشاركته مع القرّاء. «كيف ولماذا وإلى متى نصحو وننام... وغزّة ُتحرق حية على الهواء؟»، تقول الشاعرة السعودية لـ«العربي الجديد»
كيف ألّيٍ منّا أن ينظر في المرآة وأطفال غزة يذبحون أمامنا؟
إلى متى نموت أو نتظاهر بالموت وغزة أمامنا تدعونا للحياة؟
■ ما الهاجس الذي يشغلك هذه األيام فـــي ظـــل مـــا يـــجـــري مـــن عـــــــدوان إبـــــادة على غزة؟ ليس مـا يشغلني هـاجـسـا، بـل مـا يعصف بفكري ووجداني ويزلزل جسدي وعاطفتي وعقلي هي مجموعة من األسئلة الحارقة الـــحـــائـــرة املـــبـــرحـــة الـــتـــي تــفــتــك بـضـمـيـري وبـــكـــل ضــمــيــر إنـــســـانـــي حـــــر، أمـــــام جـريـمـة اإلبـــادة الجماعية، التي يرتكبها االحتالل الـعـسـكـري الـصـهـيـونـي االســتــعــمــاري على أرض غـزة، يوميا، على مدى خمسة أشهر. ومن هذه األسئلة: أوال: كيف ألي منا أن ينظر في املرآة من دون أن يمحو مالمحه وروحه الحياء من أطفال غـزة وهم يذبحون أمامنا وفي بث مباشر على الهواء أمام عيوننا وعيون العالم، من دون أن نحرك ساكنا، غير صمت مخز أو كتابة كلمات بكماء كما أفـعـل اآلن؟ كيف وملـــاذا وإلـــى متى نصحو ونــنــام ونغتسل ونـلـبـس ونــأكــل ونــشــرب ونتنفس وكـأنـنـا بشر سوي وقد حول االحتالل الصهيوني أرض غـزة عن بكرة أبيها وأمها وأطفالها إلـى فـرن غــازي مستدام. فال طفل وال طائر وال حـجـر إال وتـــحـــول حـطـبـا لــنــيــران حقد االحتالل املتقدة ليل نهار. ثــانــيــا: كـيـف وملــــاذا وإلــــى مـتـى لـلـعـالــم، كـل العالم، أن يصبر ويصمت ويتعايش على هذا الذل والهوان وهذه الجريمة الوحشية البواح التي يرتكبها علنا وبإجماع «قادة
ّّ الـــعـــالـــم الـــحـــر واملــســتــعــبــد مـــعـــا»، لــيــس في حــق أهــل غـــزة الــعــزل، بـل فـي حـق األولـيـات والبديهيات اإلنسانية؟! ثـــالـــثـــا: كـــيـــف يــصــمــد أهـــــل غــــــزة عــــــــزال هـــذا الصمود األسطوري وهم يتعرضون يوميا ألطــــول حـــرب احـــتـــالل وأقــســاهــا وأبـشـعـهـا وحـشـيـة ضــاريــة نــاريــة مــــرت عـلـى العصر الحديث أو سجلت في كتب التاريخ؟ كيف يستطيع الغزاويون، وأطفالهم يتعرضون ألطول مجاعٍة في عالم اليوم ويموتون ّأمام عيونهم جوعا وعطشا وقصفا، أن يمدونا بــأســبــاب الــحــيــاة، ونــحــن والــعــالــم الـقـريـب والبعيد يعجز أن يمدهم بحبة دواء ملوت رحيم أو برغيف خبز وشربة ماء. رابعا: إلى متى غزة تحرق حية على الهواء؟ أوليس الصبح بقريب؟ تـقـلـيـب هــــذه األســئــلــة ومــــا شـاكـلـهـا كـثـيـر، وما هو أحد وأصعب منها وأكثر تفصيال وتفرعا مما تـولـده اإلبـــادة الجماعية التي يرتكبها االحــتــالل الصهيوني عـلـى أرض غزة لستة أشهر متواصلة، بتأييد من قوى العالم املتنفذة، هي قشة األمل التي أتمسك
بها شخصيا، لئال أرى في املــرآة مجموعة حيوانات داجنة جريحة أو أتحول إلى جثة هامدة.
■ إلى أي درجة تشعرين أن العمل اإلبداعي ممكن وفـعـال فـي مواجهة حــرب اإلبـــادة التي يقوم بها النظام الصهيوني في فلسطني اليوم؟ اطــلــعــت عــبــر عــــدة مـــواقـــع إلــكــتــرونــيــة على كــــتــــابــــات إبــــداعــــيــــة كـــتـــبـــهـــا مـــجـــمـــوعـــة مـن الـــشـــعـــراء والـــكـــتـــاب عــلــى أرض غـــــزة تحت القصف املتواصل، وفي اختناقات الغازات السامة ودخــان الحريق، وسربتها للعالم بعض األرواح الجريئة، وبعضها جـاء مع أخبار استشهاد كتابها قبل أن يجف حبر كتاباتهم، ومنهم الشهيدة هبة أبو ندى. هـذا يعني أن اإلبـــداع الحياتي األسطوري اليومي الذي ينتجه أطفال غزة وأهلها أمام سطوة املوت قد ألهم املبدعني الفلسطينيني ليخرجوا على حالة الذهول والهلع والجزع واإلبــادة الجماعية التي ترتكبها آلة القتل اإلسرائيلية العسكرية في حقهم، ليكتبوا حياتهم في مواجهة املوت. فـــــإذا كــــان مـــن يـــواجـــهـــون املـــــوت شخصيا بأكثر صـــوره وحشية يـجـدون فـي اإلبـــداع حــــيــــاة، فـــإنـــنـــا كـــتـــابـــا ومـــبـــدعـــني ومــثــقــفــني نعيش جريمة اإلبـــادة الجماعية لغزة عن بعد، ال نملك، وإن متنا خجال منهم، إال أن نتقوى بهم ونكتب: «حقا، إن للبشرية في الشعر واإلبداع حياة».
■ لـو قيض لـك الـبـدء مـن جـديـد، هـل ستختارين املجال اإلبداعي أو مجاال آخر، كالعمل السياسي أو النضالي أو اإلنساني؟ هناك في رأيـي تعالق مشيمي بني اإلبـداع وبني كل أوجه العمل وحقوله التي تذكرها في سؤالك، ولكنني أجد أن العمل اإلبداعي قد يكون أكثر استقاللية وتحررًا من الكثير منها، وإن كــان ال عمل يضاهي شــرف من يـسـتـشـهـدون عــــــزال، وأطـــفـــاال وكـــبـــارًا، على أرض غــــزة الـــيـــوم، ولــيــس فـــي أيــديــهــم قلم مـن أسلحة الـسـالم، وال ذخـيـرة مـن أسلحة الحرب، إال ضمة من تراب أرضهم وحياتهم نفسها.
■ ما هو التغيير الــذي تنتظرينه أو تريدينه في العالم؟ الحياة بعدل وحرية وكرامة وســالم، ليس شعارات فحسب، ولكن أماني حاملة وخبز حالل.
■ شخصية إبداعية مقاومة من املاضي تودين لقاءها، وماذا ستقولني لها؟ شخصيات كثيرة وســأقــول لـهـم: لـم تضع مقاومتكم سدى، ولكن وإن تناسل األشرار ولم يمت الشر بعد، فقد جعلتم طريق األمل آهلة باألرواح األبية وأقل وحشة.
■ كلمة تقولينها للناس في غزة؟ ليس مـن كلمة يقولها املـوتـى لألحياء إال: علمتمونا، يا أهل غزة، شرف الحياة. صبرًا أهل غزة، فموعدكم فلسطني.
■ كلمة تقولينها لإلنسان العربي في كل مكان؟ إلـــى مـتـى نـمـوت أو نتظاهر بــاملــوت وغـــزة أمامنا تدعونا للحياة.
■ حني سئلت الطفلة الجريحة داريـن البياع التي فــقــدت مـعـظـم أفـــــراد عـائـلـتـهـا فـــي الــــعــــدوان، مـــاذا
تـريـديـن مــن الـعـالـم، أجــابــت «رسـالـتـي لـلـنـاس إذا بيحبوا دارين يكتبوا لي رسالة أو أي إشي».. ماذا تقولني لدارين وألطفال فلسطني؟
سؤال موجع: «ها دارين وغا السام عليكم أطفال غزة، سامحينا دارين. فالعالم جبان وأطفال غزة الشجاعة العالم خواء، وأطفال غزة العنى العالم مريض وأطفال غزة شفاء دارين ارمي للموتى قبلة في الهواء فمن سوى دارين طفلة من بطولة غزة تطلب من العالم أن يكاتبها وقد كتبت بدمها األعزل أعظم رسالة سام».