«التيّار الوطني الشيعي»... ماذا بعد؟
يقال إن واحدة من مهمات السياسي إطالق الشعارات املبهمة أو التي تحتمل أكثر من تأويل، وربما الشعارات الخالية من املعنى أيـــضـــا، فــيــمــا تـــكـــون مــهــمــة الـــكـــاتـــب إعــــادة الــــروح إلـــى تـلـك الـــشـــعـــارات، وتمحيصها، وكـشـف مـا فيها مـن غـمـوض وإبــهــام. وقد نصحنا املعلم الصيني كونفوشيوس، في واحـــدة مـن مـأثـوراتـه، أن نعيد املعنى إلى الكلمات وهي في مرحلة التداول. نــحــن أمـــــام مــهــمــة مـــن هــــذا الـــنـــوع، عـنـدمـا يطلق مقتدى الصدر تسمية التيار الوطني الشيعي عـلـى الـتـيـار الـــذي يـتـزعـمـه، وهـي التسمية التي تحتمل أكثر من معنى، الهدف األساسي منها االستعداد لجولة أخرى تضع الصدر وتياره، من جديد، في خانة العملية السياسية املاثلة، التي هجرها قبل أكثر من عام، بعدما وجه إليها سهام نقده، ودعا إلى تغييرها. وإذا كان الصدر معروفا بتقلباته املزاجية املفاجئة، وعدم انضباطه، وبسعيه إلى إعادة إنتاج نفسه كلما أحاطت به ظروف خانقة، إال أن ما هو مهم في آخر خطواته تلك إطالقه صفتي «الوطنية» و«الشيعية»، في آن معا، على تياره، وما تحمله التسمية من تناقض، وما تثيره من ظنون، وهذا ما دعا «وزير القائد»، محمد صالح العراقي، إلــــــى الـــتـــوضـــيـــح أن قــــائــــده يـــعـــنـــي وضـــع «املذهب» أوال، ثم «اإلسالم» ثانيا، ثم «الوطن ومكوناته»، فأعاد بهذا التوضيح، من حيث ال يعلم، التيار الصدري، إلى املربع األول، فكرسه «تيارًا مذهبيا» بامتياز، ونفى عنه ضمنا صفة «الوطنية» التي أراد أن يسبغها عليه، فجاء ت تغريدته بعكس ما أراد، وكنا نتمنى لو أن األمر جرى على غير ذلك، لو أن خلوة الصدر املديدة أعانته على فتح الطريق
ّّ أمامه لتأسيس تيار وطني، عراقي، خالص، يتعالى فوق الهويات الثانوية، ويرقي ليمثل كل العراقين على قاعدة االنتماء إلى الوطن، عندها يكون قد تراجع عن خطاياه املعروفة، وإحداها تشكيله مليشيا جيش املهدي بعد االحتالل، املليشيا السوداء التي أوغلت في دماء العراقين، وفتكت باملئات من العلماء والضباط، وذوي الكفاءات واملهن الراقية، وأودت بالكثير من األسر. ومـــاذا بـعـد؟ مـا الـــذي يـريـد مقتدى الصدر الـــوصـــول إلـــيـــه؟. ... بــمــراجــعــة الـحـسـابـات السياسية الـقـائـمـة، نـجـد أن الــصــدر، رغـم كـل ما عليه من مآخذ ومالحظات، ال يزال
يحظى بمكانة متقدمة لدى فقراء الشيعة، مــتــدنــي الـــوعـــي، الــذيــن يــــرون فـيـه «خشبة الخالص» من أوضاعهم املتردية، وأمال في أن تمنحهم طاعتهم آل الصدر رضا األمام املهدي عند ظهوره، وفق العقيدة «املهدوية»، وقد استطاع الصدر استثمار هذه الثقة في تجييش األتباع واألنصار، والدفع بهم إلى الشارع متى أراد ذلك، وقد أصبح، في فترة، وربــمــا إلـــى اآلن، قــــادرًا عـلـى صـنـع املــلــوك، يعكس ذلك خشية أطـراف سياسية كثيرة منه، وباألخص تيار دولة القانون وزعيمه نــــوري املــالــكــي، وكـــذلـــك زعـــمـــاء املليشيات املتمركزة في الدولة العميقة، الذين أحرزوا مواقع متقدمة في أثناء عزلة الصدر، تلك العزلة التي ارتضاها لنفسه على أمــل أن تشكل له نقطة قوة، لكنها أضعفته إلى حد مــا، وجعلته يفكر الـيـوم فـي ولــوج امليدان السياسي من جديد، ومواجهة خصومه من القيادات الشيعية التقليدية الذين يتهمهم بالفساد والتبعية لألجنبي، مراهنا على الحصول على غالبية نيابية في االنتخابات الـبـرملـانـيـة الـتـي سـتـجـري فــي وقـــت قـريـب، واإلمساك بقرار إدارة شـؤون البالد، وهذا ما أدركته إيران، وفكرت فيه عندما حاولت الجمع بينه وبن خصومه لوضعهم جميعا فيّ خدمة خططها االستراتيجية فيّ املنطقة، لكنها فشلت في تحقيق ذلك، إذ أصر الصدر على إبـقـاء حبل الــود بينه وبــن خصومه مقطوعا. ومع ذلك، ظلت إيران تتواصل معه، ومع كل األطــراف، متمسكة بمنطق الدولة الراعية ملصالحها، ولضمان بقاء نفوذها مــن دون أن تخسر أحـــدًا مــن الـالعـبـن في الساحة، الذين تنظر إليهم مجرد «بيادق» تستخدمهم متى شاء ت وارتأت مصالحها. وأدرك هو، من ناحيته، أن ال بد من مواالة إيـران على أمل أن تساعده في االستحواذ على «الجائزة الكبرى» التي يريدها لنفسه دونا عن غيره من القيادات الشيعية. وهكذا، يظل الصدر زمنا أطول مالئا الدنيا وشـــاغـــال الـــنـــاس، وأحــــد شــخــوص املشهد السياسي العراقي البارزين، وربما تصح حـــســـابـــاتـــه هـــــذه املــــــرة أكـــثـــر مــــن الـــســـابـــق، فـيـحـقـق الـغـالـبـيـة الـبـرملـانـيـة الــتــي يسعى إليها، وينهي سطوة خصومه ومنافسيه. لكن ذلــك، لـو حــدث فـعـال، فلن يعني شيئا بالنسبة لغالبية العراقين الذين يريدون الــتــغــيــيــر الــــجــــذري والــــشــــامــــل، وتـــلـــك هـي املفارقة.