Al Araby Al Jadeed

«لعبة الروليت الروسية» بين إيران وإسرائيل

- علي أنوزال (كاتب وإعالمي مغربي)

هاجمت إيــران، في ليلة 14 إبريل/ نيسان الجاري، إسرائيل مباشرة بعشرات الطائرات املسيرة والصواريخ بعيدة املدى، ردًا على الغارة اإلسرائيلي­ة على القنصلية اإليرانية في دمشق في األول من الشهر، وأدت إلى مقتل خـبـراء وعسكرين إيـرانـيـن رفيعي املــســتـ­ـوى. وبـــــررت طــهــران هـجـومـهـا بحق الدفاع عن النفس، خصوصًا بعدما رفض مجلس األمـــن إدانــــة االعـــتــ­ـداء اإلسـرائـي­ـلـي على قنصليتها في سورية. ومن الناحية الـسـيـاسـ­يـة، هــو بـمـثـابـة حـفـظ مـــاء الـوجـه بالنسبة إليران التي تعرضت مرارًا لضربات إسرائيلية أغلبها غير مباشرة، لم تتبناها إسرائيل، وجـاء ردهــا أخيرًا ليعلن انتهاء «استراتيجية الصبر» التي اعتمدتها طهران في التعاطي مع اعتداء ات القوى املناهضة لها في املنطقة، خصوصًا إسرائيل وأميركا، لتجنب الدخول في مواجهة مباشرة معها، خـــوفـــًا مـــن انـــعـــك­ـــاســـات ذلــــك عــلــى تعطيل برنامجها النووي. ومن الناحية املعنوية، كان الهجوم اإليراني ضروريًا بالنسبة لها للحفاظ على مصداقية خطابها املـعـادي إلســـرائـ­ــيـــل، خــصــوصــًا فـــي وقـــــت تــخــوض فيها املقاومة الفلسطينية في غزة، مسنودة بقوى املقاومة في املنطقة، حربًا مفتوحة ومباشرة مع الكيان الصهيوني منذ سبعة أشهر. لكن الهجوم اإليراني، رغم محدودية فاعليته، إال أنه سيدفع إسرائيل إلى الرد، وهذا ما يتوعد به قادتها، حفاظًا أيضًا على مصداقيتهم وحفظًا ملاء وجههم أمام رأيهم العام، ما سيؤدي باملنطقة إلى الدخول في حــرب واسـعـة وشاملة ال أحـد يستطيع أن يتنبأ بآثارها املدمرة على املنطقة بل وعلى العالم في حال دخلت فيها قوى عاملية كبرى. حتى كتابة هذا املقال، ما زلنا أمام «حرب املـصـداقـ­يـات»، يـريـد كـل طـــرف أن يستعيد مــصــداقـ­ـيــة خــطــابــ­ه الـــــذي يـــقـــوم عــلــى نفي اآلخـــــر. وإذا كـــان اإليـــران­ـــيـــون قـــد تـصـرفـوا بــمــنــط­ــق حـــســـاب «تــــاجـــ­ـر الــــــبـ­ـــــازار»، الــــذي يحتسب الربح والخسارة بدقة متناهية، فـــــإن ردود فـــعـــل الـــحـــك­ـــومـــة املـــتـــ­طـــرفـــة فـي إسرائيل، الغارقة في وحل غزة، واملدعومة مـــن الـــقـــو­ى الــغــربـ­ـيــة الـــتـــي ال تـــتـــوا­نـــى في حـــمـــاي­ـــتـــهــ­ـا ودعـــــمـ­ــــهـــــ­ا عــــســــ­كــــريـــ­ـًا ومـــالـــ­يـــًا وســيــاسـ­ـيــًا وإعـــامــ­ـيـــًا، غــيــر مـــعـــرو­فـــة، وال يمكن التحكم فيها، وهو ما يجعل العالم مــن جــديــد عـلـى حــافــة أزمــــة عـاملـيـة كـبـرى، ويـــضـــع الـــقـــو­ى الــغــربـ­ـيــة الــكــبــ­رى الــداعــم­ــة إلسرائيل في ورطة كبيرة بسبب ارتهانها لحكومة إسرائيلية متطّرفة تريد أن تجّر العالم إلى حرب كبرى لتحقيق خرافاتها التوراتية. وبعيدًا عن التهليل للهجوم اإليراني على إسرائيل، أو تبخيس فاعليته أو السخرية مــنــه، كــمــا عــبــر عـــن ذلــــك بــعــض املـنـهـزم­ـن نـفـسـيـًا، خــصــوصــًا فـــي صــفــوف املـطـبـعـ­ن واملستسلمن، فإن منطق التحليل الواقعي يـدفـع إلـــى اعـتـبـار الـهـجـوم اإليـــران­ـــي شكل نقلة نوعية فـي املواجهة بـن طـهـران وتل أبـيـب، وأســـس لقواعد اشتباك جـديـدة في مــعــادلـ­ـة الـــــردع بـيـنـهـمـ­ا، رغـــم أنــهــا ليست املـــــرة األولـــــ­ى الــتــي تـهـاجـم فـيـهـا إسـرائـيـل مباشرة من إحدى دول املنطقة، فقد سبق لعراق صــدام حسن في بداية تسعينيات الــقــرن املــاضــي أن قـصـف مـدنـًا إسرائيلية بـصـواريـخ ســكــود. ويـومـهـا طلبت أميركا مـن حليفتها إسـرائـيـل عــدم الـــرد، وتكفلت هي بمهمة تدمير نظام صدام، لكن الوضع الــــيـــ­ـوم مـــخـــتـ­ــلـــف، ألن طــــهــــ­ران تـــقـــول إنــهــا تــصــرفــ­ت حــســب مـنـطـق الــقــانـ­ـون الـــدولــ­ـي، وراعــــت فــي هجماتها أن تـكـون محسوبة بعناية، تجنبًا للتصعيد واالنــــز­الق نحو األسوأ. ثم ال يجب أن ننسى أن الهجوم اإليـرانـي، رغـــــــم أنـــــــه جـــــــاء انــــتـــ­ـقــــامــ­ــًا ملـــقـــت­ـــل قـــادتـــ­هـــا الـعـسـكـر­يـن فـــي دمـــشـــق، إال أنـــه يــأتــي في ســــيــــ­اق أطــــــــ­ول وأعـــــنـ­ــــف حــــــرب تــخــوضــ­هــا إسرائيل، منذ وجــدت في املنطقة، فجرها «طـــوفـــا­ن األقـــصــ­ـى» الــــذي أفــقــدهـ­ـا هيبتها العسكرية وحطم أسطورة جيشها الذي ال يهزم. فقد سبق إلسرائيل أن قصفت مرارًا وتكرارًا قواعد ومواقع إيرانية في سورية واغــــتــ­ــالــــت قـــــــاد­ة عـــســـكـ­ــريـــن وســـيـــا­ســـيـــن وعلماء إيرانين فـي سـوريـة ولبنان وفي مناطق أخـرى من العالم، بل وفـوق التراب اإليـرانـي. ومع ذلـك، كان رد الفعل اإليراني مـــحـــدو­دًا لـــم يـصـل إلـــى مـسـتـوى (وحــجــم) الهجوم أخيرًا، والذي يعتبر إحدى نتائج تـــداعـــ­يـــات «طــــوفـــ­ـان األقــــصـ­ـــى» والــصــمـ­ـود األســـــط­ـــــوري لــلــمــق­ــاومــة الـفـلـسـط­ـيـنـيـة فـي غــــــزة أمــــــام اآللــــــ­ة الــعــســ­كــريــة اإلســرائـ­ـيــلــيــ­ة املدعومة غربيًا، فأحد دوافع الرد اإليراني أوجـبـتـه املــعــاد­لــة الــجــديـ­ـدة الـتـي فرضتها قــــوى املـــقـــ­اومـــة الـفـلـسـط­ـيـنـيـة عــلــى األرض فــي غــــزة والـــقـــ­وى املــســان­ــدة لـهـا فــي لبنان واليمن والعراق، بما أن طهران التي تعتبر «عــرابــة» محور املقاومة في املنطقة كانت ستجد نفسها فـي موقف حــرج إن لـم تـرد الضربة التي تعرضت لها من العدو نفسه الذي تواجهه قوى املقاومة املوالية لها في املنطقة ببسالة نادرة في حرب شرسة غير متناظرة وبإمكانات محدودة جدًا. وفـــي انــتــظــ­ار مــا ســيــأتــ­ي، ألن الــحــرب كما يقال سـجـال عندما تبدأ ال أحــد يمكنه أن يــعــرف مـتـى وكــيــف ستنتهي، يمكن جـرد بعض حسابات الـربـح والـخـسـار­ة املؤقتة مـــن وراء أول مــواجــهـ­ـة عـسـكـريـة مـبـاشـرة إيـــرانــ­ـيـــة إســرائــي­ــلــيــة فـــي الـــنـــق­ـــاط الــتــالـ­ـيــة. بــالــنــ­ســبــة إليـــــــ­ــران، حـــفـــظـ­ــت مـــــاء وجـــهـــه­ـــا، وانتقمت لضحاياها، وعـــززت ثقة محور قـوى املقاومة فـي وقوفها خلفها، ورفعت مــنــســو­ب شـعـبـيـتـ­هـا عــنــد شـــرائـــ­ح واســعــة مــــن الـــــــر­أي الــــعـــ­ـام الـــداخــ­ـلـــي وفـــــي املـنـطـقـ­ة العربية، حيث يئست الشعوب مـن تحرك أنظمتها ملواجهة الغطرسة اإلسرائيلي­ة. وعــــــلـ­ـــــى املـــــسـ­ــــتـــــ­وى الـــــعــ­ـــســـــك­ـــــري، جـــــربــ­ـــت قـــدراتــ­ـهـــا الــهــجــ­ومــيــة كــمــا اخـــتـــب­ـــرت ردود فعل الـتـصـدي ألسلحتها، وأكــــدت نفسها قــوة إقليمية كبرى ال يمكن تـجـاوزهـا في االسـتـرات­ـيـجـيـات الــتــي تـخـطـط لـهـا الـقـوى العظمى في املنطقة. وفي الجانب السلبي، مــــحــــ­دوديــــة فـــاعـــل­ـــيـــة هـــجـــوم­ـــهـــا والـــتـــ­أكـــيـــد اإلسرائيلي واألميركي على إفشاله يعريان الضعف الـــذي يمكن أن يستغله أعـداؤهـا مستقبا للنيل مـنـهـا، ولـعـل هـــذا مــا دفـع مسؤولن إيرانين إلـى القول إن اإلخطار املسبق بالهجوم كــان مـقـصـودًا للحد من فاعليته لتجنب مخاطر التصعيد! أما إسرائيل التي يتوعد حكامها املتطرفون بـــرد جـنـونـي، فـقـد شـكـل الـهـجـوم اإليــرانـ­ـي صـــفـــعـ­ــة قــــويـــ­ـة لـــكـــبـ­ــريـــائـ­ــهـــا فـــــي املـــنـــ­طـــقـــة، وكـشـف حاجتها الــوجــود­يــة إلــى الحماية الغربية للدفاع عن نفسها وضمان أمنها واســــتــ­ــقــــرار­هــــا، بــــل واســــتــ­ــمــــرار وجــــودهـ­ـــا، وبـــعـــث الـــشـــك فـــي دورهــــــ­ا الــوظــيـ­ـفــي دولـــة ردع فــي املـنـطـقـ­ة لحليفتها أمــيــركـ­ـا. ومـع ذلك، املستفيد، حتى الحظة مما حدث، هو الدولة العبرية، ألن الهجوم اإليراني، وردود الفعل الغربية، ساهما في فك طوق العزلة الدولية الذي كانت في طور التشكل حولها بسبب الجرائم التي ترتكبها في غزة، ولفت األنظار، ولو إلى حن، بعيدًا عن هذه املجازر التي ما زالت ترتكب يوميًا. وفي حال تطور املواجهة بينها وبن إيــران، قد يـؤدي ذلك إلى تحول في مزاج الرأي العام العاملي الذي ينتقد اليوم جزء كبير منه، خصوصًا في الدول الغربية، الحرب اإلسرائيلي­ة على غزة ويؤيد الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وإقامته دولته املستقلة. وداخــل إسرائيل نـفـسـهـا، فـــإن حـكـومـتـه­ـا املــتــطـ­ـرفــة بـقـيـادة بنيامن نتنياهو تجد نفسها فــي موقع املستفيد األول مما جـرى، ألنـه سيمنحها الــضــوء األخـضـر لتوسيع الــحــرب، بعد أن تغيرت قواعد االشتباك التي كسرها هذا الهجوم. وهذا ما كان نتنياهو يسعى اليه عندما نفذ هجومه على القنصلية اإليرانية فـي سـوريـة، أي فتح جبهة جـديـدة تغطي على فشله فــي تحقيق أهــدافــه السياسية املـعـلـنـ­ة فـــي غـــــزة، وتـخـفـيـف ضــغــط الــــرأي الــعــام اإلســرائـ­ـيــلــي الــــذي يـطـالـب برحيله، واسـتـعـاد­ة اإلجـمــاع الـداخـلـي الــذي أحدثه هــجــوم 7 أكــتــوبـ­ـر، مــا سيكسبه مــزيــدًا من الــوقــت لـلـهـروب مــن اسـتـحـقـا­ق محاسبته ومحاكمته داخليًا. لذلك، يجب انتظار الرد اإلسـرائـي­ـلـي قريبًا، ســـواء مـن خــال ضرب إيران مباشرة، أو ضرب أهداف إيرانية في سورية أو بواسطة عمليات نوعية تستهدف شخصيات إيرانية سياسية أو عسكرية أو علمية أو مواقع استراتيجية إيرانية، وهو ما تسعى اإلدارة األميركية إلـى كبحه ما أمكن كي ال يكون مبالغًا فيه، حتى ال ينزلق الوضع إلى حرب واسعة وشاملة. وعـــودًا على بــدء، الهجوم اإليــرانـ­ـي، كيفما كـانـت خلفياته وأهــدافــ­ه وتـداعـيـا­تـه، قــرار جـــــريء فـــي وقـــــت يــقــف فــيــه الـــعـــا­لـــم أجــمــع وهــيــئــ­اتــه ومـــؤســـ­ســـاتـــه مــكــتــو­فــي األيــــدي أمام جرائم الحرب التي يرتكبها صهاينة ساديون مجرمون. وأهمية التحرك اإليراني فــــي هـــــذه املـــرحــ­ـلـــة مــــن الــــحـــ­ـرب اإلجـــرام­ـــيـــة التي تقودها إسرائيل ضد الفلسطينين الــعــزل األبــريــ­اء، كـونـه جــاء ليرسم معادلة ردع جديدة ومخيفة، تشبه «لعبة روليت روســيــة»، بــن إيـــران وإســرائــ­يــل، قــد تــؤدي إلـــى تــهــدئــ­ة األوضـــــ­ـاع واحــتــوا­ئــهــا أو إلــى تفجيرها. والـحـلـقـ­ة الضعيفة داخـــل هـذه املعادلة هي الدول العربية في املنطقة. أما القضية الفلسطينية، الغائبة في كل هذه الحسابات، فـإن إرادة الشعب الفلسطيني هي التي ستحسمها، طال الزمن أم قصر.

الهجوم اإليراني قرار جريء في وقت يقف فيه العالم وهيئاته ومؤسساته مكتوفي األيدي أمام جرائم الحرب التي يرتكبها صهاينة ساديون

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar