Al Araby Al Jadeed

السردية الليبرالية أو االنتصار بطعم الهزيمة

- رفيق عبد السالم

مــنــذ بـــدايـــ­ات الـــقـــر­ن الــعــشــ­ريــن كـــانـــت هـنـاك ثــاث ســرديــات حـداثـيـة كـبـرى تـتـزاحـم على عــقــل (وقـــلـــب) الـــغـــر­ب األوروبـــ­ــــي واألطــلــ­ســي وامتداداته العاملية، وكان لكل منها منظروها وأتباعها، وامتداداته­ا في الغرب والشرق. قــــامـــ­ـت الــــفـــ­ـاشــــيــ­ــة عــــلــــ­ى خـــلـــيـ­ــط مـــــركــ­ـــب مــن الــقــومـ­ـيــة الــعــنــ­صــريــة عــلــى نــحــو مـــا تكثفت فـــي وجــهــهــ­ا األملــــا­نــــي الــــنـــ­ـازي املــســتـ­ـنــد إلــى مقولة تـفـوق العنصر الجرماني اآلري، مع اإليمان املطلق بالدور الطائعي للدولة في هندسة املجتمع، وصياغة الفرد عبر التعليم والــثــقـ­ـافــة والـــدعــ­ـايـــة وأجــهــزت­ــهــا اإلكــراهـ­ـيــة، لدفعه نحو االنصهار والتقدم. أما السردية الشيوعية فأسست على املــنــاد­اة باملساواة وإلغاء الطبقات االجتماعية وكل االنتماءات الـحـصـريـ­ة لـلـقـومـي­ـات واألديــــ­ـان (وإن كانت تـحـمـل فــي أحـشـائـهـ­ا قــومــيــ­ة خــفــيــة وديــانــة دنــيــويـ­ـة صــامــتــ­ة). فـمـنـذ الـــثـــو­رة البلشفية، فــرض «الـحـل الشيوعي» نفسه فـي مختلف الـــقـــا­رات بــاعــتــ­بــاره أداة الــخــاص الـوحـيـدة واملـمـكـن­ـة مـــن الــتــفــ­اوت االجــتــم­ــاعــي والـظـلـم الــطــبــ­قــي ومــــن هــيــمــن­ــة الـــغـــر­ب الـــرأســ­ـمـــالـــ­ي. وجـمـعـت الــســردي­ــة الـلـيـبـر­الـيـة بــن االعـتـقـا­د الــــقـــ­ـوي فــــي حــــريـــ­ـة الــــســـ­ـوق وحـــــريـ­ــــة الـــفـــر­د، بــاعــتــ­بــارهــمـ­ـا رافـــعـــ­تـــن ضـــروريــ­ـتـــن لصنع مـــجـــتـ­ــمـــعـــ­ات مــــتــــ­حــــّررة ومـــفـــت­ـــوحـــة وتــنــعــ­م بــالــرفـ­ـاه، وقـــد تـمـكـنـت الـلـيـبـر­الـيـة «املــعــدل­ــة» تــحــت ضــغــط الـشـيـوعـ­يـة فـــي نــهــايــ­ة املــطــاف من االنتصار على األيديولوج­يات املنافسة، بقبولها الــــدور الـتـعـديـ­لـي لــلــدولـ­ـة، ومـــن ثم فــرضــت نـفـسـهـا ســـرديـــ­ة مــعــوملـ­ـة ذات نـزعـة تبشيرية خاصية في مختلف القارات. هكذا نجحت الليبرالية فـي إزاحـــة الفاشية مــن أوروبـــــ­ا وهـزيـمـتـ­هـا بــقــوة الــســاح خـال الـــــحــ­ـــرب الـــعـــا­ملـــيـــة الـــثـــا­نـــيـــة بـــعـــد تـــــدخــ­ـــل أم الليبراليا­ت (أميركا). ومن عامات ذلك، دحر أملــانــي­ــا الـهـتـلـر­يـة وحليفتها اإليــطــا­لــيــة، ثـم كسر املوجة الشيوعية بعد إنهاكها بالحرب الـــبـــا­ردة، وكـــان املــثــال األبـــرز على ذلــك تفكك االتـــحــ­ـاد الـسـوفـيـ­يـتـي ومــعــه حــلــف وارســــو. وكان هذا االنتصار نتيجة مزيج مركب من توظيف القوة الناعمة (قوة التأثير الثقافي والــــفــ­ــنــــي) واالســـــ­تـــــخـــ­ــدام املـــحـــ­ســـوب لــلــقــو­ة العسكرية (منهج الــردع)، ملحاصرة االتحاد السوفييتي وخـنـقـه فــي مـهـده بـعـد اشـتـداد تـنـاقـضـا­تـه الــداخــل­ــيــة وتـــورطــ­ـه فــي مـغـامـرة عــســكــر­يــة غـــيـــر مــحــســو­بــة فــــي أفــغــانـ­ـســتــان فــي ثـمـانـيـن­ـيـات الــقــرن املـــاضــ­ـي. وغــــذت هـذا االنتصار نزعة تبشيرية واحتفائية بتفوق النموذج الليبرالي با منازع. ورغــم التفوق الـواضـح الــذي أبـــداه النموذج الــلــيــ­بــرالــي بــســبــب رجـــحـــا­ن كــفــتــه عـسـكـريـًا وامــتــدا­د أذرعـــه املالية واملؤسساتي­ة عامليًا، إال أن هذا االنتصار الصارخ كان في الحقيقة

ًّ بـطـعـم الــهــزيـ­ـمــة، ألنــــه لـــم يــــؤد ضــــــرور­ة إلــى الــنــهــ­ايــة الــســعــ­يــدة املــــرجـ­ـــوة الـــتـــي تـوقـعـهـا الـلـيـبـر­الـيـون، بـشـقـيـهـ­م؛ الــجــدد واملحافظن الجدد، الذين بشروا، كل على طريقته، بالقرن األميركي الجديد (الواحد والعشرين)، بحكم أن الساحة الدولية قد انفتحت على صراعات جديدة وقـوى صاعدة وأخــرى عائدة بشكل أكـــثـــر تــعــقــي­ــدًا، مـــع صـــعـــود ســــرديــ­ــات أخـــرى مـزاحـمـة تـشـكـك فــي كـونـيـة الــحــل الليبرالي ومنظومته القيمية. وفــــي الـــوقـــ­ت الــــذي كــانــت تــســري فــيــه حـركـة العوملة الكونية في مختلف نواحي املعمورة على وقـع سقوط املنظومة الشيوعية، وفي أجـواء االحتفاالت البهيجة بنهاية التاريخ، عاودت القوميات الصعود مجددًا، سواء في وجوهها الناعمة أو املتطرفة. وعــــلـــ­ـى الـــجـــه­ـــة األخــــــ­ــــرى، بـــــــدأ­ت «الــــســـ­ـرديــــة الكبرى» لإلسام تفرض نفسها في الساحة الـــدولــ­ـيـــة، بــأشــكــ­ال سـلـمـيـة أحــيــانـ­ـًا وأخــــرى عنيفة، وقــد بــرز ذلــك بــصــورة واضــحــة بعد انــــــدا­لع الــــثـــ­ـورة اإليـــران­ـــيـــة فـــي ،1979 تحت شعارات إسامية وبقيادة عالم دين شيعي معمم، وما أعقبها من صعود متنام للحالة الــســيــ­اســيــة اإلســـامـ­ــيـــة فـــي أكـــثـــر مـــن مـوقـع فــــي الـــعـــا­لـــم اإلســـــا­مـــــي، ســــــواء فــــي وجــهــهــ­ا الــســلــ­مــي املــعــتـ­ـدل أم وفــــي وجــهــهــ­ا الـعـنـيـف واملتطرف، كما هو حال «القاعدة» و«داعش» ومشتقاتهما. على أن ما يمكن ماحظته هنا أن السرديات املنافسة لليبرالية تـظـل أقـــرب إلــى الوصف إلى حد اآلن بأنها أصوات احتجاجية مجزأة منها إلى تقديم بدائل متكاملة، بحكم اتساع نطاق هيمنة الغرب الليبرالي قرونًا متتالية. ويـبـقـى الــتــحــ­دي األكـــبــ­ـر، الـــذي كـــان ومـــا زال يواجه املنظومة الليبرالية، سواء في شكلها الـتـقـلـي­ـدي أو املـــحـــ­دث، هـــو مـــا يـسـكـنـهـ­ا من تناقض جذري بسبب تلبسها بالقومية، أو باألحرى بمصالح الدولة القومية، بما وسع الهوة الفاصلة بن تحررية الداخل وهيمنة الـخـارج. والحقيقة أن تحررية الداخل حالة نسبية، كانت حصيلة جهد فكري وفلسفي لتعرية آليات الهيمنة والتحكم على نحو ما أبرزته املاركسية ومدارسها الاحقة، واألكثر أهمية من ذلك وجود قوى اجتماعية فاعلة مـــن الــنــقــ­ابــات والـجـمـعـ­يـات واألحـــــ­ـزاب الـتـي خففت من وطأة التحكم وآليات الهيمنة التي لبست بالنظام الرأسمالي الليبرالي، ولك أن تقول هنا: كبح جماح الرأسمالية املتزاوجة مع القومية عبر ضخها بالليبرالي­ة. ولكن، على الصعيد الخارجي، بقيت لغة الهيمنة واملصالح املنتزعة بقوة األساطيل والجيوش هي الغالبة، رغم موجات التحرر واالستقال

وحـــركـــ­ات املـــقـــ­اومـــة. غــيــر أن هـيـمـنـة الــغــرب السياسية والعسكرية باتت تواجه منافسة شرسة من عديد من القوى الدولية املغايرة، مـــدفـــو­عـــة بــمــصــا­لــحــهــا الـــقـــو­مـــيـــة الـــخـــا­صـــة، ومحاولة افتكاك نصيبها في ساحة النفوذ الــــعـــ­ـاملــــي. وبــــــمـ­ـــــوازاة ذلــــــك، يـــشـــتـ­ــد الـــتـــز­احـــم عـلـى تشكيل الـعـقـول والــقــلـ­ـوب فــي مختلف القارات عبر توظيف الثقافة ونظام الرموز، واســـتـــ­خـــدام اإلعـــــا­م والــــدرا­مــــا واملــوســ­يــقــى، والــرمــو­ز الدينية والـدهـريـ­ة، وغـيـرهـا. وهـذا يــعــنــي وجــــــود وجـــهـــن مـــتـــاز­مـــن فــــي هـــذه الـظـاهـرة. أولهما أن مختلف شعوب العالم وقــــارات­ــــه تـــأثـــر­ت بــأنــمــ­اط الــحــيــ­اة والـثـقـاف­ـة الغربين حتى في أكثر مظاهر «العودة» إلى الهوية الذاتية، ومن منا لم يتأثر بالغرب في الفكر والسلوك وامللبس واملـأكـل. وثانيهما أن هـنـاك رفـضـًا ومــقــاوم­ــة مــن أمـــم وشـعـوب وحضارات لعوملة هذه القيم، ولفرضها على العالم بأشكال وصيغ مختلفة. كـــانـــت مـــوجـــة االجـــتــ­ـيـــاح الــعــســ­كــري ملنطقة الــــشـــ­ـرق الـــعـــر­بـــي واإلســـــ­امـــــي، ومـــنـــذ حـمـلـة نابليون في مصر وما تاها، اختبارًا عمليًا الدعـــاءا­ت الحداثة الغربية في جلب املدنية والـــتـــ­قـــدم املـــنـــ­شـــوديـــ­ن، والــحــقـ­ـيــقــة أن ثـقـافـة الـــغـــر­ب الــلــيــ­بــرالــي بــأحــامـ­ـهــا وتـطـلـعـا­تـهـا كانت قــدرًا مشتركًا، وإن بـدرجـات متفاوتة، بـــن الــنــخــ­ب الــعــربـ­ـيــة واإلســـام­ـــيـــة، بــمــا في ذلـك رجــاالت اإلصاحية اإلسامية نفسها. أمـــــا الـــقـــو­ى الـــتـــح­ـــرريـــة واالســتــ­قــالــيــ­ة الـتـي قـــاومـــ­ت االســتــع­ــمــار الــغــربـ­ـي فـقـد كــانــت هي األخــرى واقعة تحت ضغط األيديولوج­يات الــغــربـ­ـيــة بـــدرجـــ­ات مــتــفــا­وتــة. هــــذا هـــو حــال أتــاتــور­ك فــي تركيا ومحمد علي جـنـاح في الهند وبورقيبة في تونس، من جهة، وعال الفاسي في املغرب وأحمد عرابي في مصر، ورجــــاال­ت الــرابــط­ــة الـعـربـيـ­ة فــي بـــاد الـشـام، مـــن جــهــة أخــــــرى. أمـــــا تــلــك الـــتـــي حـــاولـــ­ت أن تتحرر من الوجه االستعماري الكالح للغرب الليبرالي، في ما بعد، فقد استعاضت عنه بالشق االشتراكي منه، كما كان حال جمال عــبــد الــنــاصـ­ـر فـــي مــصــر، وحــــزب الــبــعــ­ث في سورية والعراق واليمن الجنوبي، وهـواري بــــومـــ­ـديــــن فـــــي الـــــجــ­ـــزائــــ­ـر، مـــــا يــــنــــ­م عـــــن قـــوة التأثيرات الغربية فـي عصرنا الـراهـن التي تركت بصماتها حتى في موجة العودة إلى الهوية، وحركات الرفض واملقاومة. وال نـــعـــلـ­ــم إن كــــــان مـــــن ســــــوء حـــــظ الـــعـــر­ب واملـسـلـم­ـن، أم مــن حـسـنـه، أن تــوالــت عليهم

مــــوجـــ­ـات الـــعـــد­وانـــيـــ­ة الـــغـــر­بـــيـــة واحـــــــ­دة تـلـو األخـــرى، كلما دفعوا موجة جاءتهم أخـرى، حــتــى اســتــحــ­الــت مــــوعـــ­ـودات الــتــحــ­ريــر الـتـي دونها رجال األنوار إلى احتال مقيت، وباتت الـديـمـقـ­راطـيـة املــنــشـ­ـودة اســتــبــ­دادًا سياسيًا ثقيا تدعمه أميركا ويحرسه الغرب، ولعل الوجهن األكـثـر كثافة الـيـوم فـي تلك الهوة السحيقة الـتـي تفصل بـن دعـــاوى الحداثة الغربية في الحرية والتحرير، وتجسداتها العملية في منطقتنا العربية، هما مشروع االحـــتــ­ـال الـصـهـيـو­نـي لفلسطن ومـــا يلقاه مـن أشـكـال الـدعـم الخفي واملعلن مـن القوى الــغــربـ­ـيــة، تـتـقـدمـه­ـا الـــواليـ­ــات املــتــحـ­ـدة، ومـا يــجــري الــيــوم فــي غـــزة يــقــدم شــهــادة كاشفة وحـيـة لــذلــك، ثــم مــا رآه قـبـل ذلـــك الـعـراقـي­ـون واألفـــــ­ـغــــــان وشـــــعــ­ـــوب املـــنـــ­طـــقـــة مـــــن مــظــاهــ­ر الترويع والقتل العشوائي. فالغرب األوروبي واألطــــل­ــــســــي الــــحـــ­ـديــــث، الــــــــ­ذي كــــــان املـــوطــ­ـن األصلي لوالدة هذه القيم الليبرالية، واملبشر األكــبــر بـهـا، كــان ومــا زال هــو نفسه أول من يعمل على نقضها وتسفيهها، وتجييرها لخدمة لعبة املصالح والهيمنة السياسية والـــعـــ­ســـكـــري­ـــة واالقــــت­ــــصــــا­ديــــة، تـــحـــت عـــنـــوا­ن «الواقعية السياسية»، وكانت الرسائل التي يوجهها إلى العالم، خصوصًا إلينا نحن في هذه الرقعة املنكوبة من العالم التي ابتليت بالحروب واالحتال والتدخات الخارجية: ال تصدقوا ما نبيعه لكم من حديث عن حرية وديمقراطية وحقوق إنسان وقانون دولي، فهذه كلها مجرد بسملة ذبح لتغليف آليات القوة والهيمنة. صحيح أن الغرب الحديث ال يمكن اختزاله في مشهد جيوش االحتال أو األيديولوج­يات الشمولية التي غمرت العصر الحديث، ذلك أنه يتمتع بمدونة الحقوق املدنية وحريات اإلنـسـان، والفصل بن السلطات والدستور والـــحـــ­كـــم املـــقـــ­يـــد، عـــلـــى نـــحـــو مــــا بــــشــــ­رت بـه أدبــيــات عصر األنــــوا­ر األوروبـــ­يـــة، وجلجلت بــه كـــل مــن الـثـورتـن الفرنسية واألمـيـرك­ـيـة، وتـــضـــم­ـــنـــه الحـــقـــًا الـــبـــي­ـــان الـــعـــا­ملـــي لــحــقــو­ق اإلنسان واملواثيق الدولية. وهو إلى جانب ذلك محضن العلوم واآلداب والفنون الراقية، وال أحـد منا بمنأى عن ثقافة الغرب وآدابـه وفنونه بشكل أو بآخر. مع ذلك، تظل وجوه الهيمنة واالستعمار واملصالح العارية أكثر رجـحـانـًا مــن وجــوهــه الــتــحــ­رريــة وادعـــاءا­تـــه الليبرالية.

ثقافة الغرب الليبرالي بأحالمها وتطلعاتها كانت قدرًا مشتركًا بين النخب العربية واإلسالمية، بما في ذلك رجاالت اإلصالحية اإلسالمية نفسها

كان الغرب الموطن األصلي لوالدة القيم الليبرالية، وأّول من يعمل على نقضها وتسفيهها وتجييرها لخدمة لعبة المصالح والهيمنة، تحت عنوان «الواقعية السياسية»

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar