السردية الليبرالية أو االنتصار بطعم الهزيمة
مــنــذ بـــدايـــات الـــقـــرن الــعــشــريــن كـــانـــت هـنـاك ثــاث ســرديــات حـداثـيـة كـبـرى تـتـزاحـم على عــقــل (وقـــلـــب) الـــغـــرب األوروبـــــــي واألطــلــســي وامتداداته العاملية، وكان لكل منها منظروها وأتباعها، وامتداداتها في الغرب والشرق. قــــامــــت الــــفــــاشــــيــــة عــــلــــى خـــلـــيـــط مـــــركـــــب مــن الــقــومــيــة الــعــنــصــريــة عــلــى نــحــو مـــا تكثفت فـــي وجــهــهــا األملــــانــــي الــــنــــازي املــســتــنــد إلــى مقولة تـفـوق العنصر الجرماني اآلري، مع اإليمان املطلق بالدور الطائعي للدولة في هندسة املجتمع، وصياغة الفرد عبر التعليم والــثــقــافــة والـــدعـــايـــة وأجــهــزتــهــا اإلكــراهــيــة، لدفعه نحو االنصهار والتقدم. أما السردية الشيوعية فأسست على املــنــاداة باملساواة وإلغاء الطبقات االجتماعية وكل االنتماءات الـحـصـريـة لـلـقـومـيـات واألديـــــان (وإن كانت تـحـمـل فــي أحـشـائـهـا قــومــيــة خــفــيــة وديــانــة دنــيــويــة صــامــتــة). فـمـنـذ الـــثـــورة البلشفية، فــرض «الـحـل الشيوعي» نفسه فـي مختلف الـــقـــارات بــاعــتــبــاره أداة الــخــاص الـوحـيـدة واملـمـكـنـة مـــن الــتــفــاوت االجــتــمــاعــي والـظـلـم الــطــبــقــي ومــــن هــيــمــنــة الـــغـــرب الـــرأســـمـــالـــي. وجـمـعـت الــســرديــة الـلـيـبـرالـيـة بــن االعـتـقـاد الــــقــــوي فــــي حــــريــــة الــــســــوق وحـــــريـــــة الـــفـــرد، بــاعــتــبــارهــمــا رافـــعـــتـــن ضـــروريـــتـــن لصنع مـــجـــتـــمـــعـــات مــــتــــحــــّررة ومـــفـــتـــوحـــة وتــنــعــم بــالــرفــاه، وقـــد تـمـكـنـت الـلـيـبـرالـيـة «املــعــدلــة» تــحــت ضــغــط الـشـيـوعـيـة فـــي نــهــايــة املــطــاف من االنتصار على األيديولوجيات املنافسة، بقبولها الــــدور الـتـعـديـلـي لــلــدولــة، ومـــن ثم فــرضــت نـفـسـهـا ســـرديـــة مــعــوملــة ذات نـزعـة تبشيرية خاصية في مختلف القارات. هكذا نجحت الليبرالية فـي إزاحـــة الفاشية مــن أوروبـــــا وهـزيـمـتـهـا بــقــوة الــســاح خـال الـــــحـــــرب الـــعـــاملـــيـــة الـــثـــانـــيـــة بـــعـــد تـــــدخـــــل أم الليبراليات (أميركا). ومن عامات ذلك، دحر أملــانــيــا الـهـتـلـريـة وحليفتها اإليــطــالــيــة، ثـم كسر املوجة الشيوعية بعد إنهاكها بالحرب الـــبـــاردة، وكـــان املــثــال األبـــرز على ذلــك تفكك االتـــحـــاد الـسـوفـيـيـتـي ومــعــه حــلــف وارســــو. وكان هذا االنتصار نتيجة مزيج مركب من توظيف القوة الناعمة (قوة التأثير الثقافي والــــفــــنــــي) واالســـــتـــــخـــــدام املـــحـــســـوب لــلــقــوة العسكرية (منهج الــردع)، ملحاصرة االتحاد السوفييتي وخـنـقـه فــي مـهـده بـعـد اشـتـداد تـنـاقـضـاتـه الــداخــلــيــة وتـــورطـــه فــي مـغـامـرة عــســكــريــة غـــيـــر مــحــســوبــة فــــي أفــغــانــســتــان فــي ثـمـانـيـنـيـات الــقــرن املـــاضـــي. وغــــذت هـذا االنتصار نزعة تبشيرية واحتفائية بتفوق النموذج الليبرالي با منازع. ورغــم التفوق الـواضـح الــذي أبـــداه النموذج الــلــيــبــرالــي بــســبــب رجـــحـــان كــفــتــه عـسـكـريـًا وامــتــداد أذرعـــه املالية واملؤسساتية عامليًا، إال أن هذا االنتصار الصارخ كان في الحقيقة
ًّ بـطـعـم الــهــزيــمــة، ألنــــه لـــم يــــؤد ضــــــرورة إلــى الــنــهــايــة الــســعــيــدة املــــرجــــوة الـــتـــي تـوقـعـهـا الـلـيـبـرالـيـون، بـشـقـيـهـم؛ الــجــدد واملحافظن الجدد، الذين بشروا، كل على طريقته، بالقرن األميركي الجديد (الواحد والعشرين)، بحكم أن الساحة الدولية قد انفتحت على صراعات جديدة وقـوى صاعدة وأخــرى عائدة بشكل أكـــثـــر تــعــقــيــدًا، مـــع صـــعـــود ســــرديــــات أخـــرى مـزاحـمـة تـشـكـك فــي كـونـيـة الــحــل الليبرالي ومنظومته القيمية. وفــــي الـــوقـــت الــــذي كــانــت تــســري فــيــه حـركـة العوملة الكونية في مختلف نواحي املعمورة على وقـع سقوط املنظومة الشيوعية، وفي أجـواء االحتفاالت البهيجة بنهاية التاريخ، عاودت القوميات الصعود مجددًا، سواء في وجوهها الناعمة أو املتطرفة. وعــــلــــى الـــجـــهـــة األخــــــــــرى، بـــــــدأت «الــــســــرديــــة الكبرى» لإلسام تفرض نفسها في الساحة الـــدولـــيـــة، بــأشــكــال سـلـمـيـة أحــيــانــًا وأخــــرى عنيفة، وقــد بــرز ذلــك بــصــورة واضــحــة بعد انــــــدالع الــــثــــورة اإليـــرانـــيـــة فـــي ،1979 تحت شعارات إسامية وبقيادة عالم دين شيعي معمم، وما أعقبها من صعود متنام للحالة الــســيــاســيــة اإلســـامـــيـــة فـــي أكـــثـــر مـــن مـوقـع فــــي الـــعـــالـــم اإلســـــامـــــي، ســــــواء فــــي وجــهــهــا الــســلــمــي املــعــتــدل أم وفــــي وجــهــهــا الـعـنـيـف واملتطرف، كما هو حال «القاعدة» و«داعش» ومشتقاتهما. على أن ما يمكن ماحظته هنا أن السرديات املنافسة لليبرالية تـظـل أقـــرب إلــى الوصف إلى حد اآلن بأنها أصوات احتجاجية مجزأة منها إلى تقديم بدائل متكاملة، بحكم اتساع نطاق هيمنة الغرب الليبرالي قرونًا متتالية. ويـبـقـى الــتــحــدي األكـــبـــر، الـــذي كـــان ومـــا زال يواجه املنظومة الليبرالية، سواء في شكلها الـتـقـلـيـدي أو املـــحـــدث، هـــو مـــا يـسـكـنـهـا من تناقض جذري بسبب تلبسها بالقومية، أو باألحرى بمصالح الدولة القومية، بما وسع الهوة الفاصلة بن تحررية الداخل وهيمنة الـخـارج. والحقيقة أن تحررية الداخل حالة نسبية، كانت حصيلة جهد فكري وفلسفي لتعرية آليات الهيمنة والتحكم على نحو ما أبرزته املاركسية ومدارسها الاحقة، واألكثر أهمية من ذلك وجود قوى اجتماعية فاعلة مـــن الــنــقــابــات والـجـمـعـيـات واألحــــــزاب الـتـي خففت من وطأة التحكم وآليات الهيمنة التي لبست بالنظام الرأسمالي الليبرالي، ولك أن تقول هنا: كبح جماح الرأسمالية املتزاوجة مع القومية عبر ضخها بالليبرالية. ولكن، على الصعيد الخارجي، بقيت لغة الهيمنة واملصالح املنتزعة بقوة األساطيل والجيوش هي الغالبة، رغم موجات التحرر واالستقال
وحـــركـــات املـــقـــاومـــة. غــيــر أن هـيـمـنـة الــغــرب السياسية والعسكرية باتت تواجه منافسة شرسة من عديد من القوى الدولية املغايرة، مـــدفـــوعـــة بــمــصــالــحــهــا الـــقـــومـــيـــة الـــخـــاصـــة، ومحاولة افتكاك نصيبها في ساحة النفوذ الــــعــــاملــــي. وبــــــمــــــوازاة ذلــــــك، يـــشـــتـــد الـــتـــزاحـــم عـلـى تشكيل الـعـقـول والــقــلــوب فــي مختلف القارات عبر توظيف الثقافة ونظام الرموز، واســـتـــخـــدام اإلعـــــام والــــدرامــــا واملــوســيــقــى، والــرمــوز الدينية والـدهـريـة، وغـيـرهـا. وهـذا يــعــنــي وجــــــود وجـــهـــن مـــتـــازمـــن فــــي هـــذه الـظـاهـرة. أولهما أن مختلف شعوب العالم وقــــاراتــــه تـــأثـــرت بــأنــمــاط الــحــيــاة والـثـقـافـة الغربين حتى في أكثر مظاهر «العودة» إلى الهوية الذاتية، ومن منا لم يتأثر بالغرب في الفكر والسلوك وامللبس واملـأكـل. وثانيهما أن هـنـاك رفـضـًا ومــقــاومــة مــن أمـــم وشـعـوب وحضارات لعوملة هذه القيم، ولفرضها على العالم بأشكال وصيغ مختلفة. كـــانـــت مـــوجـــة االجـــتـــيـــاح الــعــســكــري ملنطقة الــــشــــرق الـــعـــربـــي واإلســـــامـــــي، ومـــنـــذ حـمـلـة نابليون في مصر وما تاها، اختبارًا عمليًا الدعـــاءات الحداثة الغربية في جلب املدنية والـــتـــقـــدم املـــنـــشـــوديـــن، والــحــقــيــقــة أن ثـقـافـة الـــغـــرب الــلــيــبــرالــي بــأحــامــهــا وتـطـلـعـاتـهـا كانت قــدرًا مشتركًا، وإن بـدرجـات متفاوتة، بـــن الــنــخــب الــعــربــيــة واإلســـامـــيـــة، بــمــا في ذلـك رجــاالت اإلصاحية اإلسامية نفسها. أمـــــا الـــقـــوى الـــتـــحـــرريـــة واالســتــقــالــيــة الـتـي قـــاومـــت االســتــعــمــار الــغــربــي فـقـد كــانــت هي األخــرى واقعة تحت ضغط األيديولوجيات الــغــربــيــة بـــدرجـــات مــتــفــاوتــة. هــــذا هـــو حــال أتــاتــورك فــي تركيا ومحمد علي جـنـاح في الهند وبورقيبة في تونس، من جهة، وعال الفاسي في املغرب وأحمد عرابي في مصر، ورجــــاالت الــرابــطــة الـعـربـيـة فــي بـــاد الـشـام، مـــن جــهــة أخــــــرى. أمـــــا تــلــك الـــتـــي حـــاولـــت أن تتحرر من الوجه االستعماري الكالح للغرب الليبرالي، في ما بعد، فقد استعاضت عنه بالشق االشتراكي منه، كما كان حال جمال عــبــد الــنــاصــر فـــي مــصــر، وحــــزب الــبــعــث في سورية والعراق واليمن الجنوبي، وهـواري بــــومــــديــــن فـــــي الـــــجـــــزائـــــر، مـــــا يــــنــــم عـــــن قـــوة التأثيرات الغربية فـي عصرنا الـراهـن التي تركت بصماتها حتى في موجة العودة إلى الهوية، وحركات الرفض واملقاومة. وال نـــعـــلـــم إن كــــــان مـــــن ســــــوء حـــــظ الـــعـــرب واملـسـلـمـن، أم مــن حـسـنـه، أن تــوالــت عليهم
مــــوجــــات الـــعـــدوانـــيـــة الـــغـــربـــيـــة واحـــــــدة تـلـو األخـــرى، كلما دفعوا موجة جاءتهم أخـرى، حــتــى اســتــحــالــت مــــوعــــودات الــتــحــريــر الـتـي دونها رجال األنوار إلى احتال مقيت، وباتت الـديـمـقـراطـيـة املــنــشــودة اســتــبــدادًا سياسيًا ثقيا تدعمه أميركا ويحرسه الغرب، ولعل الوجهن األكـثـر كثافة الـيـوم فـي تلك الهوة السحيقة الـتـي تفصل بـن دعـــاوى الحداثة الغربية في الحرية والتحرير، وتجسداتها العملية في منطقتنا العربية، هما مشروع االحـــتـــال الـصـهـيـونـي لفلسطن ومـــا يلقاه مـن أشـكـال الـدعـم الخفي واملعلن مـن القوى الــغــربــيــة، تـتـقـدمـهـا الـــواليـــات املــتــحــدة، ومـا يــجــري الــيــوم فــي غـــزة يــقــدم شــهــادة كاشفة وحـيـة لــذلــك، ثــم مــا رآه قـبـل ذلـــك الـعـراقـيـون واألفــــــغــــــان وشـــــعـــــوب املـــنـــطـــقـــة مـــــن مــظــاهــر الترويع والقتل العشوائي. فالغرب األوروبي واألطــــلــــســــي الــــحــــديــــث، الــــــــذي كــــــان املـــوطـــن األصلي لوالدة هذه القيم الليبرالية، واملبشر األكــبــر بـهـا، كــان ومــا زال هــو نفسه أول من يعمل على نقضها وتسفيهها، وتجييرها لخدمة لعبة املصالح والهيمنة السياسية والـــعـــســـكـــريـــة واالقــــتــــصــــاديــــة، تـــحـــت عـــنـــوان «الواقعية السياسية»، وكانت الرسائل التي يوجهها إلى العالم، خصوصًا إلينا نحن في هذه الرقعة املنكوبة من العالم التي ابتليت بالحروب واالحتال والتدخات الخارجية: ال تصدقوا ما نبيعه لكم من حديث عن حرية وديمقراطية وحقوق إنسان وقانون دولي، فهذه كلها مجرد بسملة ذبح لتغليف آليات القوة والهيمنة. صحيح أن الغرب الحديث ال يمكن اختزاله في مشهد جيوش االحتال أو األيديولوجيات الشمولية التي غمرت العصر الحديث، ذلك أنه يتمتع بمدونة الحقوق املدنية وحريات اإلنـسـان، والفصل بن السلطات والدستور والـــحـــكـــم املـــقـــيـــد، عـــلـــى نـــحـــو مــــا بــــشــــرت بـه أدبــيــات عصر األنــــوار األوروبـــيـــة، وجلجلت بــه كـــل مــن الـثـورتـن الفرنسية واألمـيـركـيـة، وتـــضـــمـــنـــه الحـــقـــًا الـــبـــيـــان الـــعـــاملـــي لــحــقــوق اإلنسان واملواثيق الدولية. وهو إلى جانب ذلك محضن العلوم واآلداب والفنون الراقية، وال أحـد منا بمنأى عن ثقافة الغرب وآدابـه وفنونه بشكل أو بآخر. مع ذلك، تظل وجوه الهيمنة واالستعمار واملصالح العارية أكثر رجـحـانـًا مــن وجــوهــه الــتــحــرريــة وادعـــاءاتـــه الليبرالية.
ثقافة الغرب الليبرالي بأحالمها وتطلعاتها كانت قدرًا مشتركًا بين النخب العربية واإلسالمية، بما في ذلك رجاالت اإلصالحية اإلسالمية نفسها
كان الغرب الموطن األصلي لوالدة القيم الليبرالية، وأّول من يعمل على نقضها وتسفيهها وتجييرها لخدمة لعبة المصالح والهيمنة، تحت عنوان «الواقعية السياسية»