اإلسالم السياسي ضرورة وطنية
أثـــارت عملية طـوفـان األقـصـى الـتـي نفذتها كتائب عـز الدين القسام، الجناح العسكري لــحــركــة املـــقـــاومـــة اإلســـامـــيـــة (حــــمــــاس)، في الــســابــع مـــن أكـــتـــوبـــر/ تــشــريــن األول ،2023 وما تاها من عدوان صهيوني وحشي على قطاع غزة، خلف آالف الضحايا ومئات آالف الجرحى واملفقودين ودمارًا هائا في املنازل واملرافق والبنى التحتية، أثارت أسئلة بشأن تبعات «الــطــوفــان»، واملـسـؤولـيـة السياسية واألخاقية عنها. وحملت شخصيات فكرية، وتيارات سياسية عربية، حركة حماس هذه املسؤولية، وربطتها بعقيدة الحركة الدينية الـــتـــي جــلــبــت بــأســالــيــبــهــا الــعــنــيــفــة «املـــــوت والــــدمــــار»، ودعــــت إلـــى حـرمـانـهـا مـــن حقها فـــي الــعــمــل الــســيــاســي، كــمــا حــصــل لجماعة اإلخــــــــــوان املـــســـلـــمـــن املــــصــــريــــة ومــــــع حـــركـــة النهضة التونسية. يــشــكــل تـحـمـيـل «حــــمــــاس» مــســؤولــيــة املـــوت والـــــــــدمـــــــــار نــــقــــطــــة خـــــافـــــيـــــة بـــــــن املــــحــــلــــلــــن السياسين يمكن تجاوزها، ألن معظم الذين يـحـمـلـونـهـا املـسـؤولـيـة مــن الــعــرب ينطلقون من منطلق عقائدي يناصب حركات اإلسام السياسي الــعــداء. ولـكـن مـا ال يمكن تـجـاوزه أو غــض الــطــرف عنه هــو الــدعــوة إلــى إخــراج هذه الحركات من املجال السياسي وحرمانها مــن حـقـهـا الـطـبـيـعـي فــي الـعـمـل فــيــه. ذلـــك أن الـــحـــرمـــان الـــســـيـــاســـي مـــوقـــف إقـــصـــائـــي غـيـر ديمقراطي، من جهة، وألنــه يحدث فراغًا في املشهد السياسي، من جهة ثانية، يقود إلى اسـتـنـكـاف قـطـاعـات واســعــة مــن املجتمع عن املــشــاركــة فــي الــشــأن الــعــام نتيجة حرمانها من امتاك قوة سياسية تمثلها، ألن ثقافتها وقيمها ومخيالها الـسـيـاسـي واالجـتـمـاعـي إســـامـــي املـــحـــتـــوى، مـــتـــذرعـــة (الــشــخــصــيــات الــفــكــريــة والــــتــــيــــارات الــســيــاســيــة) بــشــعــارات حركات اإلســام السياسي السلفي وبرامجه التي ليس من إجماع عليها بن املسلمن. تـمـتـلـك حـــركـــات اإلســـــام الــســيــاســي مـــبـــررات موضوعية لقيامها، ولتلعب دورًا في الحياة السياسية فــي املجتمعات الـتـي تـديـن بدين اإلســام، في ضـوء الحقائق اآلتية: أولـهـا، إن فلسفة اإلســــام وقـيـمـه الـعـامـة تـنـطـوي على تـــوجـــيـــهـــات ســيــاســيــة واجــتــمــاعــيــة ال يمكن فـصـلـهـا عـــن الـــجـــانـــب اإليـــمـــانـــي والـــتـــعـــبـــدي. ثانيها، تــحــول هــذه التوجيهات إلــى عقيدة راسخة لدى املؤمنن بها، فا يمكن تجاوزها أو القفز عنها، فــاإلســام عنصر بنيوي في تـكـويـن املـجـتـمـعـات املـسـلـمـة وفـــي شخصية الفرد املسلم، ليس من السهل االلتفاف عليه أو اسـتـبـدال عـقـيـدة ثـانـيـة بـــه. ثـالـثـهـا، الـــدور الـذي لعبه اإلسـام في مقاومة الغزو التتري واملــغــولــي واألوروبـــــــي، ونــجــاحــه فـــي تحرير مـجـتـمـعـات مـسـلـمـة مـــن الــقــهــر واالســتــعــمــار. رابعها، ما يشهده عاملنا املعاصر من صراع متعدد املستويات؛ من سعي أميركي أوروبي إلـــــى تـــغـــريـــب الـــعـــالـــم، مـــــــرورًا بــســعــي الــصــن وروســـيـــا إلـــى كـسـر الهيمنة األمـيـركـيـة على الــــقــــرار الــــدولــــي، وحـــجـــز مـــوقـــع مـــنـــاســـب في الخريطة الدولية يخدم مصالحهما الوطنية، إلــى سعي دول إقليمية قوية (تركيا وإيــران وإســـرائـــيـــل) إلــــى فــــرض هـيـمـنـتـهـا عــلــى دول صــغــيــرة وضــعــيــفــة، مـــن بـيـنـهـا دول عـربـيـة، وصــــوال إلـــى سـعـي شـعـوب الـعـالـم اإلسـامـي إلى التحرر من التبعية واالستبداد والفساد. فـالـغـرب وقــوتــه الـرئـيـسـة، الــواليــات املـتـحـدة، يسعى لتأبيد هيمنته وسيطرته على العالم عــبــر تــغــريــب هــــذا األخـــيـــر بــــدءا بـــالـــدفـــاع عن النظام الدولي القائم على القواعد، وال يعترف بالهيمنة املـتـأصـلـة فــي هـــذه الـسـيـاسـة، كما الحظ عالم السياسة األميركي أملاني األصل
رينهولد نيبور، «الـقـواعـد نفسها هـي شكل من أشكال الهيمنة». فهي ليست محايدة، بل صممت من أجل الحفاظ على الوضع الدولي الـــراهـــن، الـــذي سيطر عليه الـعـالـم الليبرالي بقيادة الـواليـات املتحدة مـدة ثمانية عقود، فالنظام القائم على القواعد ليس أكثر من أداة لهذه الهيمنة، مرورًا بتسويق قيم اجتماعية، كالفردية املطلقة، بذريعة غير مثبتة، هي أن الـفـرد سيكون أعـظـم إذا تـحـرر مـن الجماعة، واملثلية... إلخ. روسـيـا والـصـن تسعيان إلــى كسر الهيمنة الغربية من دون امتاك أساس فكري وقيمي يقود إلـى تحرر املجتمعات على الصعيدين الجماعي والـفـردي، ما سيجعل انتصارهما عـــلـــى الـــهـــيـــمـــنـــة الـــغـــربـــيـــة، بـــالـــنـــســـبـــة لـــلـــدول الضعيفة، بمثابة اسـتـبـدال هيمنة بهيمنة. هـذا فـرض وسيفرض على مجتمعاتنا التي تـــخـــوض صــــراعــــًا مـــتـــعـــدد األبـــــعـــــاد، بـــمـــا فـي ذلــك الحفاظ على الـهـويـة، البحث عـن ركيزة خاصة وراسخة ملواجهة املرحلة واالحتفاظ بــــاالســــتــــقــــال الـــنـــســـبـــي وتــــطــــويــــره لـيـصـبـح استقاال شاما، واإلسام هو املتاح في هذه املعمعة، في ضوء ما يمثله للمسلمن، فهو، وفــــق الــبــاحــث فـــي مــؤســســة رانـــــد األمــيــركــيــة لـــأبـــحـــاث والـــتـــطـــويـــر، الـــبـــروفـــســـور غـــراهـــام فــــولــــر، «املـــــحـــــرك الــطــبــيــعــي لــلــســيــاســة عـبـر العالم اإلسـامـي. ففي العالم اإلسـامـي يعد اإلسـام مقياسًا للعدالة واإلنسانية والحكم الـصـالـح ومـحـاربـة الـفـسـاد، ويـمـثـل مرجعية عقائدية للصراعات الداخلية ضد الحكومات االستبدادية العلمانية ولصراعات األقليات املسلمة مــن أجـــل الــتــحــرر مــن الـسـلـطـات غير اإلسامية القاسية في أحـيـان كثيرة». وهذا
ٍّ يــســتــدعــي مـــن األحــــــزاب والــــتــــيــــارات الـفـكـريـة الـعـلـمـانـيـة أن تـتـوقـف عــن مــحــاربــة طـواحـن الـــهـــواء بـمـحـاربـة وجــــود اإلســـــام الـسـيـاسـي فــــي الـــخـــريـــطـــة الـــســـيـــاســـيـــة، فـــهـــذا يــتــعــارض مـــع حـــريـــة الــــــرأي والــتــعــبــيــر، ومــــع أولـــويـــات الـديـمـقـراطـيـة، إذ ال تحفظ على حــق أي فكر أو حــــزب فـــي الــعــمــل عــلــى الـــســـاحـــة. ووجــــود حـركـات اإلســـام الـسـيـاسـي، وبـاقـي العقائد، حـق ديمقراطي، وألنهم (األحـــزاب والتيارات الـــفـــكـــريـــة الـــعـــلـــمـــانـــيـــة) يـــقـــضـــون بــــذلــــك عـلـى علمانيتهم ويلحقون الضرر بالديمقراطية. هــــذه املــاحــظــة يـمـكـن تـوجـيـهـهـا إلــــى بعض دعـــاة التنوير اإلســامــي الـذيـن يعتقدون أن التنوير يقتضي اجتثاث اإلسـام السياسي، فاملعركة مع حركات اإلسام السياسي يجب أال تتعلق بـوجـودهـا على املــســرح الــســوري، فهذا حق طبيعي لها، كما أسلفنا، حالها حال كل التيارات الفكرية والعقائد السياسية، بل تتعلق بمحتوى هذا الوجود، والصراع معها ال يـــدور على خلفية وجــودهــا مــن عــدمــه، بل على خلفية طبيعتها، أفكارها، ممارساتها. فوجودها منطقي وطبيعي، واملشكلة معها فـــي قـــراءتـــهـــا الـــنـــص املــــؤســــس وتــصــوراتــهــا االجـتـمـاعـيـة، وتمسكها بفقه قـديـم غالبيته كتبت في عصور االنحطاط اإلسامي، فجاء متأثرًا بمناخه وشروطه املعرفية، وتمسكها بــمــا حــصــل فـــي الـــتـــاريـــخ اإلســـامـــي بـوصـفـه تـــاريـــخ اإلســـــــام، مـــع أنـــــه مـــلـــيء بــاملــخــالــفــات لجوهر اإلسام. غــيــر أن امـــتـــاك حـــركـــات اإلســـــام الـسـيـاسـي شرعية الوجود والعمل في الفضاء السياسي ال يـمـنـحـهـا شـيـكـًا عــلــى بـــيـــاض، بـــل يـلـزمـهـا بـتـوظـيـف هـــذه الـشـرعـيـة بــصــورة صحيحة، وتـــكـــريـــســـهـــا عــــبــــر خــــطــــط وبــــــرامــــــج تــنــمــيــة اجـــتـــمـــاعـــيـــة واقـــتـــصـــاديـــة مــــدروســــة وقــابــلــة لــلــتــنــفــيــذ، مــــا يـــســـتـــدعـــي مـــنـــهـــا إعــــــــادة نـظـر شاملة فــي منطلقاتها الفكرية والسياسية والـــتـــنـــظـــيـــمـــيـــة، بــــــــدء ا بـــالـــعـــمـــل عـــلـــى الــفــكــر اإلسامي، لتخليصه من القراء ات التبسيطية والـــســـاذجـــة لــلــنــص املــــؤســــس، والـــعـــمـــل على املــخــيــال الـسـيـاسـي واالجــتــمــاعــي للمسلمن لـتـخـلـيـصـه مـــن الــتــنــاقــضــات والـــتـــعـــارضـــات وتــحــريــر املــســلــمــن مـــن الــجــمــود والـسـلـبـيـة، والعمل داخل الحداثة ومعطياتها لتوظيفها في خدمة املسلمن، فإذا كان الدين في الباد اإلسامية من شـروط الوجود، حسب محمد عــابــد الــجــابــري، فــانــه، كـمـا قــــال، «شــــرط غير كــــاف، ويــحــتــاج كــي يـنـجـح إلـــى طـــرح أهـــداف سياسية واجـتـمـاعـيـة واضــحــة وقــــادرة على معالجة مشكات أوسع الجماهير الشعبية، وإلــــى أخـــذ قـضـيـة الــتــحــديــث بــكــل مـظـاهـرهـا السلبية واإليـجـابـيـة فــي االعـتـبـار وتوظيف الــديــن فــي قضية الــعــدل االجـتـمـاعـي والحكم الديمقراطي والتحديث الفكري والحضاري وتحريك الخريطة االجتماعية وتوازناتها». وبدءًا أيضًا بالتحرر من قاعدة الطاعة العمياء لـــلـــقـــيـــادة، الـــتـــي تــبــرمــجــت كــــوادرهــــا عـلـيـهـا، وإطاق حرية الرأي والتعبير داخل صفوفها لفتح مجال االجتهاد وتعدد القراء ات والرؤى (لعبت القاعدة املـذكـورة دورًا مدمرًا في هذه الحركات، إذ لم يجد املخالف للرأي الرسمي لــلــحــركــة ســــوى االنـــشـــقـــاق وتــشــكــيــل جـمـاعـة موازية)، إلى الحسم في قضية الشورى ملزمة أو معلمة وتبني إلزاميتها داخــل الحركات وفــــــي املـــجـــتـــمـــع، إلــــــى الـــتـــخـــلـــي عـــــن تـحـمـيـل اإلســــام وزر الــتــاريــخ اإلســـامـــي، الـــذي عـرف خـروجـًا على التوجيهات والـقـيـم اإلسامية الـسـيـاسـيـة واالجــتــمــاعــيــة (الـــشـــورى وواليـــة األمة على ذاتها، وحقها في اختيار قياداتها ومحاسبتهم وعزلهم، واملساواة بن املسلمن بــغــض الــنــظــر عـــن الـــعـــرق والـــلـــون والــجــنــس، والعدالة االجتماعية... إلخ) بالتمييز بن ما هـو ديــن ومــا هـو تـاريـخ، فالتاريخ مـن صنع بشر غير معصومن، بينما للدين توجيهاته وتـــوصـــيـــاتـــه الـــثـــابـــتـــة واملــــلــــزمــــة، مــــا يـسـمـح بالتخلص من عبء التاريخ املثقل بالكوارث والنكوصات، وفتح بـاب البحث واالجتهاد، وقراء ة النص املؤسس بروح جديدة مستفيدة مــن الــتــطــور الـعـلـمـي واملــعــرفــي واالجـتـمـاعـي الـــذي عـرفـه املجتمع اإلنــســانــي، إلـــى التخلي عـن سياسة مسايرة ثقافة املجتمع الدينية والــعــمــل عــلــى تخليصه مـــن حــالــة االخــتــاط الـــســـائـــدة بـــن ظـــهـــرانـــيـــه، بـــن فــحــوى الــنــص املؤسس والتاريخ، ومن الفهم القاصر لعاقة الله بالكون، وملعنى تدبيره له، ومن الروايات الــشــفــهــيــة املـــتـــداولـــة عـــن املــــذاهــــب والــعــقــائــد بــعــضــهــا عــــن بــــعــــض، ومــــــن أقــــــــوال املـــشـــايـــخ وتحذيرهم من الوافد من الحضارات األخرى، حـتـى غـــدا وعــيــه الـديـنـي صــــورة مـجـمـعـة من قطع صـور كثيرة، فغدت مشوهة وغير ذات مـــوضـــوع، مـــا جــعــل إســـامـــه سـطـحـيـًا وهــشــًا وقابا للحرف والتوظيف بسهولة. فالتحرر والــتــطــور املــنــشــودان يـحـتـاجـان، وفـــق علماء السياسة، إلى مواطن يتمتع باملهارات الكافية للتفكير النقدي، وإلى ثقافة سياسية سليمة، وإلـــــى أمـــاكـــن عـــامـــة آمـــنـــة ومـــتـــاحـــة ملــمــارســة الــنــشــاط الــســيــاســي، وإلــــى آلـــيـــات للمشاركة الشعبية، وإلى الحوار بن الدولة واملجتمع، وإلـــــى مـــشـــاركـــة مــدنــيــة واســــعــــة. أي بـحـاجـة إلـى مجتمع قـوي يمتلك وسائل ضغط على السلطة كي تلتفت ملطالبه وطموحاته، وهذا يحتاج قــوى وسيطة، مـن النخب والـتـيـارات الــفــكــريــة واألحــــــــزاب الــســيــاســيــة والــنــقــابــات، للعمل على توفيره.
معظم من يحملون «حماس» مسؤولية الموت والدمار في غزة ينطلقون من منطلق عقائدي يناصب حركات اإلسالم السياسي العداء