الذكاء االصطناعي: التمرد قريبًا
هنــاك مــن يقول اليــوم إّن الحرب الروســية األوكرانيــة والعدوان اإلســرائيلي على غّزة يشــكالن حقًال تجريبيًا لبرمجيــات الذكاء االصطناعي. تســتعرض هــذه المادة كتاب «التفــرد قريبًا: عندما يتخطى البشــر البيولوجيا» للعالم والمختــرع األميركي راي كيرزويل، إلى جانب كتب أخرى
كـــــثـــــيـــــرة هـــــــي الـــــكـــــتـــــب واملـــــــقـــــــاالت والـــــبـــــرامـــــج الـــتـــلـــفـــزيـــونـــيـــة الـــتـــي خـــصـــصـــت لـــلـــحـــديـــث عــــن الــــذكــــاء االصـــطـــنـــاعـــي، وال أحـــســـب األمــــــر سـيـتـوقـف عند مقال هنا أو كتاب هناك، بل سينال هذا املـــوضـــوع حــصــة األســــد فـــي مـــواقـــع مسكوت عنها، وليس في املساحات املفتوحة للنقاش وحــســب. ومــا يثير الـفـضـول فــي هــذه الـفـورة االحتفالية في ميدان علمي يقوم على أسس ومـفـاهـيـم تستعصي عـلـى فـهـم األفـــــراد غير املختصني أن ثمة مساحة كبيرة مـن اآلمــال والـــتـــوقـــعـــات الـــتـــي ســتــســاعــد الــبــشــريــة على تـــجـــاوز مـــشـــكـــات كــثــيــرة فـــي مـــيـــاديـــن شتى بفضل الــذكــاء االصــطــنــاعــي، وصــــوال إلـــى ما يمكن تسميتها املدينة الفاضلة. بيد أن هذه النشوة االحتفالية التي تصل إلى حد املبالغة تستدعي، في الوقت ذاته، شبهة الشك والحذر على مبدأ «كاد املريب أن يقول خذوني». مـــن بـــني هـــذه الــكــتــب الــتــي تــنــاولــت مــوضــوع الـــــذكـــــاء االصـــطـــنـــاعـــي، هـــنـــاك كـــتـــاب لــلــعــالــم واملــخــتــرع األمــيــركــي راي كــيــرزويــل بـعـنـوان: «الـــــتـــــفـــــرد قــــريــــبــــا: عـــنـــدمـــا يـــتـــخـــطـــى الــبــشــر الـبـيـولـوجـيـا» Singularity Is Near: When( .)Humans Transcend Biology يربط كيرزويل الـــهـــيـــمـــنـــة املــــتــــوقــــعــــة لــــلــــذكــــاء االصـــطـــنـــاعـــي بمستقبل العملية التطورية للعرق البشري فـــي مـنـحـى يـثـيـر الـــفـــزع والــدهــشــة مــعــا، ومــا يـــرمـــي فـــي عـــنـــوان الـــكـــتـــاب «الـــتـــفـــرد قــريــبــا» يــقــارب الـخـريـطـة املــوســوعــيــة ملــا طــرحــه بيل غيتس في كتابه الذي نشر عام 1995 بعنوان «طــريــق املـسـتـقـبـل»، وتـــحـــدث فـيـه عــن مــآالت الـــثـــورة الـحـاسـوبـيـة عـلـى مستقبل البشرية جمعاء، وفكرة العوملة. ما يقدمه كيرزويل في كتابه رؤيــة طوباوية ملستقبل قريب يتفوق فــيــه الـــذكـــاء االصــطــنــاعــي عــلــى الـبـيـولـوجـي، ويـفـتـح املــجــال أمـــام مــا كـــان بــاألمــس القريب خياال محضا لكي يصبح واقعا طوع البنان، وعلى مرمى البصر. ويشير العالم واملخترع األمـــيـــركـــي فـــي هــــذه الـــتـــوقـــعـــات، الــتــي تــعــود، فـــي غـالـبـيـتـهـا، إلــــى عــــام ،2005 تـــاريـــخ نشر الـــكـــتـــاب، إلــــى أن الــبــشــريــة بـــاتـــت، فـــي مطلع األلـفـيـة الــجــديــدة، تقف على شفا مرحلة من الـــتـــحـــول هـــي األكـــبـــر واألخــــطــــر فـــي الــتــاريــخ تستحيل فـيـهـا طبيعة مــا يـسـمـى اإلنــســان، أكثر غنى وتحديا مـع تـحـرر الـعـرق البشري مـن قـيـود اإلرث البيولوجي وبـلـوغـه مراحل ال يمكن تخيلها مـن الــذكــاء والـتـطـور املـــادي والـعـمـر املــديــد وصـــوال إلــى الـتـفـرد والتمايز عـــن بــاقــي املــخــلــوقــات. فـــي كــتــابــه The Age« »of Spiritual Machine (الــــذي تـرجـمـه عـزت عامر إلى العربية تحت عنوان «عصر اآلالت الــروحــيــة» ونـشـرتـه دار كـلـمـة، بـالـتـعـاون مع دار كـلـمـات عـربـيـة فــي أبــوظــبــي عـــام ،)2010 يطرح كـيـرزويـل مـا مـفـاده بــأن الكمبيوترات سـتـتـفـوق عـلـى الـــذكـــاء الــبــشــري، بـفـضـل هـذا اإليــقــاع املـتـسـارع للتطور التكنولوجي، في حـني يــرى فـي كتابه «الـتـفـرد قريبا» أن قفزة نوعية عماقة ستقع في هـذا املـيـدان، تتمثل في اندماج اإلنسان واآللة على نحو تكتسب بوساطته أدمغتنا مقدرات ووسائل معرفية جـــبـــارة. ويــعــرض مـلـخـص وضــــع عـلـى غـاف الــكــتــاب األمـــامـــي يـــقـــول: «هــــذا االنـــدمـــاج هـو، بــحــد ذاتـــــه، مــاهــيــة الـــتـــفـــرد؛ حـقـبـة يستحيل فيها ذكاؤنا وعلى نحو متزايد ال بيولوجي، وأقوى بتريليونات املرات مما هو عليه اآلن، إنـه فجر حضارة جديدة ستجعلنا نتخطى الـــقـــيـــود الـــبـــيـــولـــوجـــيـــة ونــــزيــــد مــــن قـــدراتـــنـــا اإلبــداعــيــة. فــي هــذا الـعـالـم الـجـديـد، لــن يبقى هــنــاك فـــرق واضــــح بـــني اإلنـــســـان واآللــــــة، بني الـواقـع الحقيقي والـواقـع املـفـتـرض». ويتابع في استهال الكتاب: «هــذا واحــد من جوانب فـرادة جنسنا: يرتفع ذكاؤنا بقدر كـاف فوق العتبة الـضـروريـة الــازمــة لنرتقي بقدراتنا إلــــى مـــســـتـــويـــات غــيــر مــــحــــدودة مـــن اإلبــــــداع، ولدينا اإلبـهـام املقابل فـي اليد الـــازم لجعل الـــكـــون طــــوع إرادتـــــنـــــا». يــســتــخــدم كــيــرزويــل فـــــي هــــــذه الــــعــــبــــارة اصـــــطـــــاح opposable« ،»appendage واملقصود بها العضو الزائد في كف اليد، وهو اإلبهام الذي يستطيع التحرك ومقابلة األصــابــع األخــــرى، وضـمـهـا معا في تكويرة القبضة كناية عن القدرة على التحكم والسيطرة. يــســتــشــهــد كــــيــــرزويــــل بــــهــــاري بــــوتــــر عــنــدمــا يــــدمــــدم هـــــذا األخــــيــــر بـــالـــتـــعـــويـــذة املــنــاســبــة ليطلق سـحـره، الفـتـا إلــى أن األمـــر ال يقتصر عــلــى اكـــتـــشـــاف الـــتـــعـــويـــذات وتــطــبــيــقــهــا، بل يحتاج األمـــر إلــى معرفة تسلسل وإجــــراءات وقــواعــد تطبيق التعويذة املناسبة بالشكل الـــصـــحـــيـــح. تــمــثــل هـــــذه الــعــمــلــيــة عـــلـــى وجـــه الــتــحــديــد تـجـربـتـنـا مـــع الــتــكــنــولــوجــيــا، كما يقول كيرزويل. فالتعويذات، في هذا السياق، «هــــي املــــعــــادالت والـــخـــوارزمـــيـــات الــتــي يـقـوم عـلـى أســاســهــا سـحـر عـصـرنـا الـــحـــديـــث». إذ، وبوساطة التسلسل الصحيح، بمقدورنا أن نجعل حـاسـوبـا يــقــرأ كـتـابـا بــصــوت مرتفع، ويــفــهــم الـــكـــام الـــبـــشـــري، بـــل ويــتــنــبــأ ويـمـنـع حـــدوث نـوبـة قلبية، أو يتوقع حـركـة أســواق البورصة. لكن في حال كانت «التعويذة» غير صـحـيـحـة، فـــا يـمـكـن لــهــذا لـسـحـر أن يعمل،
أو سيكون ضعيف األثـــر على األقـــل. يعتمد كـــيـــرزويـــل فـــي تــفــســيــره عــلــى قـــانـــون مــــردود الــتــســارع »Law of Accelerating Returns« الـــــذي يــتــوقــع تـــزايـــدًا أســـيـــا فـــي تـكـنـولـوجـيـا الـــروبـــوتـــات، والــحــواســيــب، وعــلــم الـجـيـنـات، وتقانة النانو «املـصـغـرات»، وبالطبع الذكاء االصطناعي. والتزايد أو النمو األسي تعبير رياضي يصف عملية تزايد قيمة «س» خال فترات متساوية بمعدل الزيادة. واألس في لغة الجبر واإلحـصـاء هو القوة التي يرفع إليها عدد أو رمز ما أو تعبير أو اصطاح رياضي، فالتعبير »4س« يعني أن الكمية مضروبة في نفسها أربـــع ُّ مــــرات،«س» هنا تسمى قاعدة والعدد 4 يسمى أسا. الجدير بالذكر أن التزايد األســي يتزايد بشكل بطيء في البداية، لكنه يـتـسـارع عـلـى نـحـو يـفـوق التخيل مــع تـزايـد الــزمــن مـتـجـاوزًا الـــزيـــادة الخطية أو الــزيــادة التربيعية أو التكعيبية، مما يجعل تصورنا لــه بـعـيـدًا عــن الـحـقـيـقـة. وحــاملــا نـبـلـغ مرحلة التفّرد، حسب ما يقوله كيرزويل، سيتخطى ذكــــاء اآللــــة نــظــيــره الــبــشــري بــمــراحــل كـبـيـرة، ويضع عام 2045 تاريخا متوقعا لبلوغ هذا التفرد الذي يمثل «تحوال عميقا وخطيرًا في القدرات البشرية». صحيح أن العالم األميركي يعترف بأن التزايد األسـي سيبلغ، في نهاية املـــطـــاف، حــــده، لـكـنـه يـشـيـر، فــي الــوقــت ذاتـــه، إلـى أن هـذا الحد سيكون قد تخطى حينذاك األدمغة البشرية مجتمعة بمراحل تصل إلى رقم خيالي من فئة التريليونات، أي إن الدماغ البشري سيكون متخلفا أمام ذكاء اآللة. وبـــــدال مـــن إعـــــادة هــنــدســة الـــدمـــاغ الـبـشـري لفهم الذكاء االصطناعي ومحاكاته، يطرح كيرزويل فكرة تحميل »uploading« الدماغ بــــكــــل عـــمـــلـــيـــة ذهـــنـــيـــة تــــقــــوم عـــلـــى «قــــاعــــدة حــاســوبــيــة جـــبـــارة مــنــاســبــة»، مــوضــحــا أن هـــذه الـتـقـنـيـة ســتــكــون مــتــاحــة بــحــلــول عــام .2040 وعوضا عن هذا «التحميل اإلضافي» والتحول إلى الشكل الرقمي، يرى كيرزويل أن البشر، وعلى األرجح، سيشهدون تحوال تـــدريـــجـــيـــا مــــع تـــعـــزيـــز أجـــــــزاء مــــن دمــاغــهــم بــزراعــات عصبية »neural implants« تزيد نسبة الذكاء الابيولوجي لديهم تدريجيا مع مرور الزمن. وعلى الرغم من أنه لن يكون هـــنـــاك «اخـــتـــبـــار مـــوضـــوعـــي يــحــســم بشكل قاطع» وجــود الوعي أو اإلدراك، فإنه يقول إن الــــذكــــاء االصـــطـــنـــاعـــي ســيــدعــي امــتــاكــه وعيا و«مجاال كاما من التجارب العاطفية والـروحـيـة التي تـعـزى للبشر». وفــي أثناء
مـرحـلـة الــتــفــرد هــــذه، يــتــوقــع كــيــرزويــل «أن تتبدل حياة اإلنسان على نحو ال رجعة فيه» ليتخطى البشر بذلك «القيود البيولوجية املـفـروضـة على أجـسـادنـا وأدمـغـتـنـا»، ومن ثم سيرتقي هذا املنحى التصاعدي وصوال إلى واقـع جديد تصبح فيه «آالت املستقبل بـشـريـة وإن كــانــت ال بــيــولــوجــيــة». بـعـبـارة أخــرى، ستكون هناك تغييرات جذرية على الطريقة التي سيتعلم بها اإلنسان، ويعمل، ويلعب، ويـشـن الــحــروب. ولــن يتوقف األمـر عند هذا الحد وحسب، بل يتوقع أن نشهد ظهور روبوتات نانوية ال يزيد عرضها عن مائة نانو متر (نانو متر يـعـادل: m 9−10( مـعـدة للقيام بوظائف مـحـددة مثل إيصال الــــــــدواء (ديـــلـــفـــيـــري) مـــبـــاشـــرة إلـــــى الـعـضـو املصاب بمرض ما داخــل الجسد، أو القيام ربـمـا بـتـدخـل جــراحــي دقـيـق فــي مــواضــع ال
يمكن للجراحة التقليدية الــوصــول إليها. أي يمكننا أن نسترسل في التخيل إلى حد القول إن الجسد البشري سيكتسب مزايا، والكام لكيرزويل، تجعله قادرًا على «تغيير مامحه البدنية»، كما تغير الحرباء لونها. لـــذلـــك لـــيـــس مــســتــغــربــا أن نـــشـــاهـــد يـــومـــا مـا إنــســانــا يـطـيـر، وآخــــر يــغــوص تـحـت املــــاء من دون معدات للغطس، ويتسلق قمة الهيمااليا بــرشــاقــة يــحــســده عـلـيـهـا مــاعــز الـــجـــبـــال. أمـــا الــنــســبــة إلـــــى الـــهـــويـــات الـــفـــرديـــة أثــــنــــاء هـــذه التغيرات الـجـذريـة، يـرى كيرزويل أن الناس سـيـنـظـرون إلـــى أنـفـسـهـم بصفتهم نـمـوذجـا قــيــد الـــتـــطـــور، ولـــيـــس مــجــمــوعــة مـــحـــددة من الجزئيات، مما يعني (كما يقول كيرزويل) أن هـذا التطور ينحو نحو «مـزيـد مـن التعقيد، وحسن املظهر، وسعة املعرفة، وحـدة الذكاء، وقــــدر أكـبـر مــن الـجـمـال واإلبـــــداع، ووفــــرة من الـصـفـات الـرفـيـعـة مـثـل املــحــبــة». بـالـطـبـع من يقرأ هذا التوصيف يتبادر إلى ذهنه مفهوم الـكـمـال، إن لـم يكن مـا هـو أكـثـر مـن ذلـــك. وما يـــؤكـــد أرجـــحـــيـــة هــــذا الــتــفــســيــر أن كــيــرزويــل يــقــول «إن الــتــحــرر مــن الـــجـــذور البيولوجية هـو فــي حقيقة األمـــر تـوجـه روحـــانـــي». على الـــرغـــم مـــن هــــذه الـــهـــالـــة املـــبـــهـــرة الـــتـــي أحـــاط بها كيرزويل التقنية الجديدة، فإنه يعترف يقينا أن كـــل تكنولوجيا جــديــدة تحمل في طياتها مخاطر سوء استخدامها وفسادها، بـــدءًا مـن الـفـيـروسـات والــروبــوتــات النانوية، وصـــوال إلـى فـقـدان التحكم والسيطرة بـآالت الذكاء االصطناعي. وتنحصر الطريقة املثلى ملواجهة هذه املخاطر، حسب رأيه، باالستثمار في تكنولوجيات دفاعية مضادة، منها على سـبـيـل املـــثـــال الــســمــاح بـــوراثـــيـــات وعــاجــات طــبــيــة جــــديــــدة، ومـــراقـــبـــة الـــعـــوامـــل املــرضــيــة الــخــطــرة، وتـعـلـيـق اســتــخــدام تـكـنـولـوجـيـات مــــحــــددة لـــفـــتـــرة مـــؤقـــتـــة. أمــــــا فــــي مــــا يـخـص الذكاء االصطناعي، فيرى كيرزويل أن أفضل وقــايــة لــــدرء مـخـاطـر ســـوء اسـتـخـدامـه تكمن في تعزيز «قيم الحرية والتسامح، واحترام املـــعـــرفـــة والــــتــــعــــدديــــة، ألن الـــــذكـــــاء الـــنـــانـــوي الابيولوجي سيغدو متجذرًا في مجتمعنا ويــعــكــس قــيــمــنــا». الـــكـــتـــاب بــمــا احــــتــــواه من معلومات مثيرة تقاسم عبارات االستحسان واالســـتـــهـــجـــان مــــن مــــصــــادر مــخــتــلــفــة، مـنـهـا مـا كــان منتشيا بفرحة ال توصف بالبشرى التي سيحملها عصر الذكاء االصطناعي إلى البشرية جمعاء. لكن معظم من هللوا للكتاب، مـثـل بـيـل غـيـتـس وغـــيـــره، هــم أصــــا ينتمون إلـــى الــقــطــاع االســتــثــمــاري فــي التكنولوجيا املــتــقــدمــة، ألنـــهـــم وجـــــدوا فـــي الــكــتــاب فـرصـة لـتـسـويـق هـــذا الــقــطــاع االســتــثــمــاري وزيــــادة األربـاح. كذلك األمر، استقبل كتاب ومحللون سياسيون أميركيون كثيرون الكتاب بحفاوة بــالــغــة، ألنــهــم رأوا فــيــه مـــا يـعـطـي األمــــل في ديمومة القرن األميركي، واستمرار «التفرد» فـــي الـسـيـطـرة عـلـى مـــوازيـــن الـــقـــوى الـعـاملـيـة، األمـــر الـــذي يـدلـل على أن تكنولوجيا الـذكـاء االصـــطـــنـــاعـــي ســتــشــكــل حــــافــــزًا جــــديــــدًا عـلـى توفير وسائل جديدة للصراع الجيوسياسي. بــاملــنــاســبــة، هــــذا تـــحـــديـــدًا مـــا طـــرحـــه مـايـكـل كـــنـــعـــان فــــي كـــتـــابـــه «الــــعــــد الـــتـــنـــازلـــي لــلــذكــاء االصطناعي والسعي الجديد للسيطرة على العالم T-Minus AI: Humanity›s Countdown( to Artificial Intelligence and the New Pursuit ).of Global Power الــذي نشرته دار بـن بيا فـي أغسطس/ آب .2020 يربط املـؤلـف البعد الــجــيــوســيــاســي ملــفــاعــيــل بــرمــجــيــات الـــذكـــاء االصطناعي بمواقف الدول الكبرى في سعيها إلى السيطرة على العالم، ويستشهد على ذلك بموقفني: أوال، فـي عــام 2017 وجهت الصني رسـالـة واضـحـة جريئة، عندما أطلقت خطة وطنية للسيطرة على جميع مجاالت الذكاء االصـطـنـاعـي فــي الـعـالـم. ثـانـيـا، قــال الرئيس الـــــروســـــي بــــوتــــني، وبــــعــــد اإلعــــــــان الــصــيــنــي بأسابيع: «مــن يتحكم بـالـذكـاء االصطناعي سيحكم الــعــالــم». ولـيـس مستبعدًا أن يكون هناك اآلن تطبيقات ذات طبيعة عسكرية من أسـلـحـة مـتـطـورة وغـيـرهـا تعتمد برمجيات الذكاء االصطناعي، بل يمكن القول إن الحرب الــروســيــة األوكــرانــيــة والـــعـــدوان اإلسـرائـيـلـي عـــلـــى غـــــــزة يـــشـــكـــان حــــقــــا تـــجـــريـــبـــيـــا لــهــذه البرمجيات. وما يمنح هذا الكتاب مصداقية عـلـمـيـة أن مـايـكـل كـنـعـان هـــو أول مـــن تـــرأس لجنة الذكاء االصطناعي في القوات الجوية األمـــيـــركـــيـــة، حـــيـــث أشــــــرف ووجــــــــه األبـــحـــاث والدراسات التي تتصل بإعداد استراتيجيات تكنولوجيا الــذكــاء االصطناعي وتطويرها وتـطـبـيـقـهـا، أي يـنـطـبـق عـلـيـه الـــقـــول املــأثــور «أهل مكة أدرى بشعابها». كـــذلـــك انـــبـــرى مــخــتــصــون عــــديــــدون النــتــقــاد الكتاب، استنادًا إلى أسس علمية، وتحديدًا ما يخص «خرافة التزايد األسي» التي اعتمدها كـــيـــرزويـــل. ومــــن هـــــؤالء الـــعـــالـــم واألكـــاديـــمـــي الفيزيائي البريطاني بول ديفيز الـذي يقول إن التزايد األسي ال يمكن أن يستمر إلى األبد، بل يواجه معوقات تحد من استمراريته. رد الفيزيائي البريطاني، ثيودور موديس، على كيرزويل بالقول: «ال شيء في الطبيعة يتبع منحنى أسيا خالصا»، مشيرًا إلى أن املنحنى املنطقي أو الدالة اللوجستية، وهو نوع شائع من املنحنى السيني، يناسب عملية النمو أو الزيادة الحقيقية. ويوضح موديس أن الدالة اللوجستية تبدو شبيهة بالدالة األسية في الــبــدايــة، لكنها تـضـعـف تـدريـجـيـا وتـتـراجـع إلــــى أن تـتـسـطـح كــلــيــا. واســتــشــهــد عــلــى ذلــك باإلشارة إلى أن تعداد السكان العاملي وإنتاج الــواليــات املتحدة مـن النفط بــدآ على شاكلة منحنى تـزايـد أســي صـاعـد، لكنهما تراجعا ألنهما منحنيان منطقيان (دالـة لوجستية). بعبارة مبسطة، يؤكد قانون الطبيعة أن أي شيء يصل إلى ذروتــه، ويبلغ منتهاه، يبقى مــحــكــومــا بــالــنــقــصــان وال يــمــكــن أن يستمر بالزيادة والنمو على نحو مطلق على مبدأ «لكل شـيء إذا مـا تـم نقصان فـا يـغـر بطيب العيش إنسان». وإن رأى أكـاديـمـيـون مختصون فــي اعتماد كيرزويل على التزايد األسـي مبالغة ال تتفق مــــع قــــانــــون الــطــبــيــعــة، ملـــــح آخـــــــرون مــــن غـيـر املختصني إلى أن الدوافع الدينية وراء فكرة الـتـفـرد عـنـد كــيــرزويــل، بــل وعـــدوهـــا محاولة ملــنــطــقــة (مــــــن املــــنــــطــــق) الـــتـــفـــســـيـــر الـــيـــهـــودي املـسـيـحـي لـنـهـايـة الــعــالــم. ومـــن هــــؤالء جــون غــراي (فيلسوف بريطاني) ومــن املناهضني لفكرة عوملة الرأسمالية، الذي يقول «إن كتاب الـــتـــفـــرد يــعــكــس مـــقـــوالت أســـطـــوريـــة لـنـهـايـة العالم يكون فيها التاريخ على وشك أن يشهد حدثا يغير العالم بأسره». بــعــد أن انـتـهـيـت مـــن قـــــراءة كــتــاب كــيــرزويــل، تذكرت مسرحية «روبوتات روسوم» للكاتب الـتـشـيـكـي كـــاريـــل تـشـابـيـك الــتــي نـــشـــرت عــام ،1920 وقــدم فيها اصطاح الروبوت «الرجل اآللــــي». عــرضــت هــذه املسرحية الـتـي تنتمي إلـــى أدب الــخــيــال الـعـلـمـي فــي بــلــدان عــديــدة، وتـرجـمـت إلــى لـغـات عـــدة. تـتـنـاول املسرحية الـتـي تـحـولـت الحـقـا إلــى فيلم سينمائي عن مصنع إلنتاج رجــال آليني من مــواد عضوية مــركــبــة ويــتــشــابــهــون فـــي هـيـئـاتـهـم مـــع بني الــبــشــر، لـكـن الـــرجـــال اآللـــيـــني يـــقـــودون تــمــردًا يؤدي إلى فناء العرق البشري. ومن هنا جاء عنوان هذا املقال «الذكاء االصطناعي: التمرد قـــريـــبـــا» بـــتـــاعـــب لــفــظــي عـــلـــى كــلــمــة «تـــفـــرد» بـــاســـتـــبـــدال حــــرف بـــحـــرف مـــن بــــاب مــحــاكــاة فكرة كيرزويل باستبدال اآللة بالبيولوجيا، وتـــبـــديـــل الــــواقــــع الــحــقــيــقــي بـــآخـــر افــتــراضــي لــيــفــتــح املــــجــــال أمــــــام مـــجـــمـــوعـــة واســــعــــة مـن االحتماالت التي لن يخلو بعضها من حس الفكاهة. وعلى سبيل املثال ال الحصر طبعا، ال تستغربن، عزيزي القارئ، أن يأتيك اتصال ذات يـــوم مــن شـخـص مــا يــقــول لــك «أنــــا عبد الحليم حافظ» بصوته نفسه الـذي غنى فيه قــارئــة الـفـنـجـان. وبفضل الـتـحـرر مــن القيود البيولوجية، سيكون بمقدور السيدات تغيير لـــون الـعـيـنـني أو لـــون الــشــعــر حــســب الـطـلـب، وقس على ذلك أمثلة أخرى. سيسارع قراء عديدون إلى االعتراض بالقول إن املشكلة ليست في مفهوم برمجيات الذكاء االصـطـنـاعـي، بــل فــي مــجــاالت توظيفه، ومن ثم ال يمكن أن نحرم البشرية من تقدم علمي يـسـاهـم فــي حـــل مـشـكـات مستعصية. يـذكـر هــذا الـكـام بفكاهة جــرت على لـسـان صديق عندما أبلغه الطبيب بأنه يعاني من التهاب حاد في الزائدة يستدعي استئصالها. امتقع وجـه الرجل وفــزع فزعا شـديـدًا، فما كـان منا إال أن نـعـتـنـاه بـالـجـن والـخـشـيـة مــن عملية بـسـيـطـة. لـكـنـه رد علينا ردًا مـفـحـمـا بـقـولـه: «والله ال أخشى املبضع بل أخشى يدًا حمقاء قد تعبث به»، وفهمكم كفاية.
رؤية طوباوية لمستقبل قريب يتفوق فيه الذكاء االصطناعي على البيولوجي، ويفتح المجال أمام ما كان باألمس القريب خياًال محضًا
اندماج اإلنسان واآللة على نحو تكتسب بوساطته أدمغتنا مقّدرات ووسائل معرفية جبارة