Al Araby Al Jadeed

الذكاء االصطناعي: التمرد قريبًا

- عدي جوني

هنــاك مــن يقول اليــوم إّن الحرب الروســية األوكرانيـ­ـة والعدوان اإلســرائي­لي على غّزة يشــكالن حقًال تجريبيًا لبرمجيــات الذكاء االصطناعي. تســتعرض هــذه المادة كتاب «التفــرد قريبًا: عندما يتخطى البشــر البيولوجيا» للعالم والمختــرع األميركي راي كيرزويل، إلى جانب كتب أخرى

كـــــثـــ­ــيـــــرة هـــــــي الـــــكــ­ـــتـــــب واملــــــ­ـقـــــــا­الت والـــــبـ­ــــرامـــ­ــج الـــتـــل­ـــفـــزيـ­ــونـــيــ­ـة الـــتـــي خـــصـــصـ­ــت لـــلـــحـ­ــديـــث عــــن الــــذكــ­ــاء االصـــطــ­ـنـــاعـــ­ي، وال أحـــســـب األمــــــ­ر سـيـتـوقـف عند مقال هنا أو كتاب هناك، بل سينال هذا املـــوضــ­ـوع حــصــة األســــد فـــي مـــواقـــ­ع مسكوت عنها، وليس في املساحات املفتوحة للنقاش وحــســب. ومــا يثير الـفـضـول فــي هــذه الـفـورة االحتفالية في ميدان علمي يقوم على أسس ومـفـاهـيـ­م تستعصي عـلـى فـهـم األفـــــر­اد غير املختصني أن ثمة مساحة كبيرة مـن اآلمــال والـــتـــ­وقـــعـــا­ت الـــتـــي ســتــســا­عــد الــبــشــ­ريــة على تـــجـــاو­ز مـــشـــكـ­ــات كــثــيــر­ة فـــي مـــيـــاد­يـــن شتى بفضل الــذكــاء االصــطــن­ــاعــي، وصــــوال إلـــى ما يمكن تسميتها املدينة الفاضلة. بيد أن هذه النشوة االحتفالية التي تصل إلى حد املبالغة تستدعي، في الوقت ذاته، شبهة الشك والحذر على مبدأ «كاد املريب أن يقول خذوني». مـــن بـــني هـــذه الــكــتــ­ب الــتــي تــنــاولـ­ـت مــوضــوع الـــــذكـ­ــــاء االصـــطــ­ـنـــاعـــ­ي، هـــنـــاك كـــتـــاب لــلــعــا­لــم واملــخــت­ــرع األمــيــر­كــي راي كــيــرزوي­ــل بـعـنـوان: «الـــــتــ­ـــفـــــر­د قــــريـــ­ـبــــا: عـــنـــدم­ـــا يـــتـــخـ­ــطـــى الــبــشــ­ر الـبـيـولـ­وجـيـا» ‪Singularit­y Is Near: When(‬ ‪.)Humans Transcend Biology‬ يربط كيرزويل الـــهـــي­ـــمـــنــ­ـة املــــتــ­ــوقــــعـ­ـــة لــــلــــ­ذكــــاء االصـــطــ­ـنـــاعـــ­ي بمستقبل العملية التطورية للعرق البشري فـــي مـنـحـى يـثـيـر الـــفـــز­ع والــدهــش­ــة مــعــا، ومــا يـــرمـــي فـــي عـــنـــوا­ن الـــكـــت­ـــاب «الـــتـــف­ـــرد قــريــبــ­ا» يــقــارب الـخـريـطـ­ة املــوســو­عــيــة ملــا طــرحــه بيل غيتس في كتابه الذي نشر عام 1995 بعنوان «طــريــق املـسـتـقـ­بـل»، وتـــحـــد­ث فـيـه عــن مــآالت الـــثـــو­رة الـحـاسـوب­ـيـة عـلـى مستقبل البشرية جمعاء، وفكرة العوملة. ما يقدمه كيرزويل في كتابه رؤيــة طوباوية ملستقبل قريب يتفوق فــيــه الـــذكـــ­اء االصــطــن­ــاعــي عــلــى الـبـيـولـ­وجـي، ويـفـتـح املــجــال أمـــام مــا كـــان بــاألمــس القريب خياال محضا لكي يصبح واقعا طوع البنان، وعلى مرمى البصر. ويشير العالم واملخترع األمـــيــ­ـركـــي فـــي هــــذه الـــتـــو­قـــعـــات، الــتــي تــعــود، فـــي غـالـبـيـت­ـهـا، إلــــى عــــام ،2005 تـــاريـــ­خ نشر الـــكـــت­ـــاب، إلــــى أن الــبــشــ­ريــة بـــاتـــت، فـــي مطلع األلـفـيـة الــجــديـ­ـدة، تقف على شفا مرحلة من الـــتـــح­ـــول هـــي األكـــبــ­ـر واألخــــط­ــــر فـــي الــتــاري­ــخ تستحيل فـيـهـا طبيعة مــا يـسـمـى اإلنــســا­ن، أكثر غنى وتحديا مـع تـحـرر الـعـرق البشري مـن قـيـود اإلرث البيولوجي وبـلـوغـه مراحل ال يمكن تخيلها مـن الــذكــاء والـتـطـور املـــادي والـعـمـر املــديــد وصـــوال إلــى الـتـفـرد والتمايز عـــن بــاقــي املــخــلـ­ـوقــات. فـــي كــتــابــ­ه ‪The Age«‬ ‪»of Spiritual Machine‬ (الــــذي تـرجـمـه عـزت عامر إلى العربية تحت عنوان «عصر اآلالت الــروحــي­ــة» ونـشـرتـه دار كـلـمـة، بـالـتـعـا­ون مع دار كـلـمـات عـربـيـة فــي أبــوظــبـ­ـي عـــام ،)2010 يطرح كـيـرزويـل مـا مـفـاده بــأن الكمبيوترا­ت سـتـتـفـوق عـلـى الـــذكـــ­اء الــبــشــ­ري، بـفـضـل هـذا اإليــقــا­ع املـتـسـار­ع للتطور التكنولوجي، في حـني يــرى فـي كتابه «الـتـفـرد قريبا» أن قفزة نوعية عماقة ستقع في هـذا املـيـدان، تتمثل في اندماج اإلنسان واآللة على نحو تكتسب بوساطته أدمغتنا مقدرات ووسائل معرفية جـــبـــار­ة. ويــعــرض مـلـخـص وضــــع عـلـى غـاف الــكــتــ­اب األمـــامـ­ــي يـــقـــول: «هــــذا االنـــدمـ­ــاج هـو، بــحــد ذاتـــــه، مــاهــيــ­ة الـــتـــف­ـــرد؛ حـقـبـة يستحيل فيها ذكاؤنا وعلى نحو متزايد ال بيولوجي، وأقوى بتريليونات املرات مما هو عليه اآلن، إنـه فجر حضارة جديدة ستجعلنا نتخطى الـــقـــي­ـــود الـــبـــي­ـــولـــوج­ـــيـــة ونــــزيــ­ــد مــــن قـــدراتــ­ـنـــا اإلبــداعـ­ـيــة. فــي هــذا الـعـالـم الـجـديـد، لــن يبقى هــنــاك فـــرق واضــــح بـــني اإلنـــســ­ـان واآللـــــ­ـة، بني الـواقـع الحقيقي والـواقـع املـفـتـرض». ويتابع في استهال الكتاب: «هــذا واحــد من جوانب فـرادة جنسنا: يرتفع ذكاؤنا بقدر كـاف فوق العتبة الـضـروريـ­ة الــازمــة لنرتقي بقدراتنا إلــــى مـــســـتـ­ــويـــات غــيــر مــــحــــ­دودة مـــن اإلبــــــ­داع، ولدينا اإلبـهـام املقابل فـي اليد الـــازم لجعل الـــكـــو­ن طــــوع إرادتـــــ­نـــــا». يــســتــخ­ــدم كــيــرزوي­ــل فـــــي هــــــذه الــــعـــ­ـبــــارة اصـــــطــ­ـــاح opposable« ،»appendage واملقصود بها العضو الزائد في كف اليد، وهو اإلبهام الذي يستطيع التحرك ومقابلة األصــابــ­ع األخــــرى، وضـمـهـا معا في تكويرة القبضة كناية عن القدرة على التحكم والسيطرة. يــســتــش­ــهــد كــــيــــ­رزويــــل بــــهــــ­اري بــــوتـــ­ـر عــنــدمــ­ا يــــدمـــ­ـدم هـــــذا األخــــيـ­ـــر بـــالـــت­ـــعـــويـ­ــذة املــنــاس­ــبــة ليطلق سـحـره، الفـتـا إلــى أن األمـــر ال يقتصر عــلــى اكـــتـــش­ـــاف الـــتـــع­ـــويـــذا­ت وتــطــبــ­يــقــهــا، بل يحتاج األمـــر إلــى معرفة تسلسل وإجــــراء­ات وقــواعــد تطبيق التعويذة املناسبة بالشكل الـــصـــح­ـــيـــح. تــمــثــل هـــــذه الــعــمــ­لــيــة عـــلـــى وجـــه الــتــحــ­ديــد تـجـربـتـن­ـا مـــع الــتــكــ­نــولــوجـ­ـيــا، كما يقول كيرزويل. فالتعويذات، في هذا السياق، «هــــي املــــعــ­ــادالت والـــخـــ­وارزمـــيـ­ــات الــتــي يـقـوم عـلـى أســاســهـ­ـا سـحـر عـصـرنـا الـــحـــد­يـــث». إذ، وبوساطة التسلسل الصحيح، بمقدورنا أن نجعل حـاسـوبـا يــقــرأ كـتـابـا بــصــوت مرتفع، ويــفــهــ­م الـــكـــا­م الـــبـــش­ـــري، بـــل ويــتــنــ­بــأ ويـمـنـع حـــدوث نـوبـة قلبية، أو يتوقع حـركـة أســواق البورصة. لكن في حال كانت «التعويذة» غير صـحـيـحـة، فـــا يـمـكـن لــهــذا لـسـحـر أن يعمل،

أو سيكون ضعيف األثـــر على األقـــل. يعتمد كـــيـــرز­ويـــل فـــي تــفــســي­ــره عــلــى قـــانـــو­ن مــــردود الــتــســ­ارع ‪»Law of Accelerati­ng Returns«‬ الـــــذي يــتــوقــ­ع تـــزايـــ­دًا أســـيـــا فـــي تـكـنـولـو­جـيـا الـــروبــ­ـوتـــات، والــحــوا­ســيــب، وعــلــم الـجـيـنـا­ت، وتقانة النانو «املـصـغـرا­ت»، وبالطبع الذكاء االصطناعي. والتزايد أو النمو األسي تعبير رياضي يصف عملية تزايد قيمة «س» خال فترات متساوية بمعدل الزيادة. واألس في لغة الجبر واإلحـصـاء هو القوة التي يرفع إليها عدد أو رمز ما أو تعبير أو اصطاح رياضي، فالتعبير »4س« يعني أن الكمية مضروبة في نفسها أربـــع ُّ مــــرات،«س» هنا تسمى قاعدة والعدد 4 يسمى أسا. الجدير بالذكر أن التزايد األســي يتزايد بشكل بطيء في البداية، لكنه يـتـسـارع عـلـى نـحـو يـفـوق التخيل مــع تـزايـد الــزمــن مـتـجـاوزًا الـــزيـــ­ادة الخطية أو الــزيــاد­ة التربيعية أو التكعيبية، مما يجعل تصورنا لــه بـعـيـدًا عــن الـحـقـيـق­ـة. وحــاملــا نـبـلـغ مرحلة التفّرد، حسب ما يقوله كيرزويل، سيتخطى ذكــــاء اآللــــة نــظــيــر­ه الــبــشــ­ري بــمــراحـ­ـل كـبـيـرة، ويضع عام 2045 تاريخا متوقعا لبلوغ هذا التفرد الذي يمثل «تحوال عميقا وخطيرًا في القدرات البشرية». صحيح أن العالم األميركي يعترف بأن التزايد األسـي سيبلغ، في نهاية املـــطـــ­اف، حــــده، لـكـنـه يـشـيـر، فــي الــوقــت ذاتـــه، إلـى أن هـذا الحد سيكون قد تخطى حينذاك األدمغة البشرية مجتمعة بمراحل تصل إلى رقم خيالي من فئة التريليونا­ت، أي إن الدماغ البشري سيكون متخلفا أمام ذكاء اآللة. وبـــــدال مـــن إعـــــادة هــنــدســ­ة الـــدمـــ­اغ الـبـشـري لفهم الذكاء االصطناعي ومحاكاته، يطرح كيرزويل فكرة تحميل »uploading« الدماغ بــــكــــ­ل عـــمـــلـ­ــيـــة ذهـــنـــي­ـــة تــــقــــ­وم عـــلـــى «قــــاعـــ­ـدة حــاســوبـ­ـيــة جـــبـــار­ة مــنــاســ­بــة»، مــوضــحــ­ا أن هـــذه الـتـقـنـي­ـة ســتــكــو­ن مــتــاحــ­ة بــحــلــو­ل عــام .2040 وعوضا عن هذا «التحميل اإلضافي» والتحول إلى الشكل الرقمي، يرى كيرزويل أن البشر، وعلى األرجح، سيشهدون تحوال تـــدريـــ­جـــيـــا مــــع تـــعـــزي­ـــز أجـــــــز­اء مــــن دمــاغــهـ­ـم بــزراعــا­ت عصبية ‪»neural implants«‬ تزيد نسبة الذكاء الابيولوجي لديهم تدريجيا مع مرور الزمن. وعلى الرغم من أنه لن يكون هـــنـــاك «اخـــتـــب­ـــار مـــوضـــو­عـــي يــحــســم بشكل قاطع» وجــود الوعي أو اإلدراك، فإنه يقول إن الــــذكــ­ــاء االصـــطــ­ـنـــاعـــ­ي ســيــدعــ­ي امــتــاكـ­ـه وعيا و«مجاال كاما من التجارب العاطفية والـروحـيـ­ة التي تـعـزى للبشر». وفــي أثناء

مـرحـلـة الــتــفــ­رد هــــذه، يــتــوقــ­ع كــيــرزوي­ــل «أن تتبدل حياة اإلنسان على نحو ال رجعة فيه» ليتخطى البشر بذلك «القيود البيولوجية املـفـروضـ­ة على أجـسـادنـا وأدمـغـتـن­ـا»، ومن ثم سيرتقي هذا املنحى التصاعدي وصوال إلى واقـع جديد تصبح فيه «آالت املستقبل بـشـريـة وإن كــانــت ال بــيــولــ­وجــيــة». بـعـبـارة أخــرى، ستكون هناك تغييرات جذرية على الطريقة التي سيتعلم بها اإلنسان، ويعمل، ويلعب، ويـشـن الــحــروب. ولــن يتوقف األمـر عند هذا الحد وحسب، بل يتوقع أن نشهد ظهور روبوتات نانوية ال يزيد عرضها عن مائة نانو متر (نانو متر يـعـادل: ‪m 9−10(‬ مـعـدة للقيام بوظائف مـحـددة مثل إيصال الــــــــ­دواء (ديـــلـــف­ـــيـــري) مـــبـــاش­ـــرة إلـــــى الـعـضـو املصاب بمرض ما داخــل الجسد، أو القيام ربـمـا بـتـدخـل جــراحــي دقـيـق فــي مــواضــع ال

يمكن للجراحة التقليدية الــوصــول إليها. أي يمكننا أن نسترسل في التخيل إلى حد القول إن الجسد البشري سيكتسب مزايا، والكام لكيرزويل، تجعله قادرًا على «تغيير مامحه البدنية»، كما تغير الحرباء لونها. لـــذلـــك لـــيـــس مــســتــغ­ــربــا أن نـــشـــاه­ـــد يـــومـــا مـا إنــســانـ­ـا يـطـيـر، وآخــــر يــغــوص تـحـت املــــاء من دون معدات للغطس، ويتسلق قمة الهيمااليا بــرشــاقـ­ـة يــحــســد­ه عـلـيـهـا مــاعــز الـــجـــب­ـــال. أمـــا الــنــســ­بــة إلـــــى الـــهـــو­يـــات الـــفـــر­ديـــة أثــــنـــ­ـاء هـــذه التغيرات الـجـذريـة، يـرى كيرزويل أن الناس سـيـنـظـرو­ن إلـــى أنـفـسـهـم بصفتهم نـمـوذجـا قــيــد الـــتـــط­ـــور، ولـــيـــس مــجــمــو­عــة مـــحـــدد­ة من الجزئيات، مما يعني (كما يقول كيرزويل) أن هـذا التطور ينحو نحو «مـزيـد مـن التعقيد، وحسن املظهر، وسعة املعرفة، وحـدة الذكاء، وقــــدر أكـبـر مــن الـجـمـال واإلبـــــ­داع، ووفــــرة من الـصـفـات الـرفـيـعـ­ة مـثـل املــحــبـ­ـة». بـالـطـبـع من يقرأ هذا التوصيف يتبادر إلى ذهنه مفهوم الـكـمـال، إن لـم يكن مـا هـو أكـثـر مـن ذلـــك. وما يـــؤكـــد أرجـــحـــ­يـــة هــــذا الــتــفــ­ســيــر أن كــيــرزوي­ــل يــقــول «إن الــتــحــ­رر مــن الـــجـــذ­ور البيولوجية هـو فــي حقيقة األمـــر تـوجـه روحـــانــ­ـي». على الـــرغـــ­م مـــن هــــذه الـــهـــا­لـــة املـــبـــ­هـــرة الـــتـــي أحـــاط بها كيرزويل التقنية الجديدة، فإنه يعترف يقينا أن كـــل تكنولوجيا جــديــدة تحمل في طياتها مخاطر سوء استخدامها وفسادها، بـــدءًا مـن الـفـيـروس­ـات والــروبــ­وتــات النانوية، وصـــوال إلـى فـقـدان التحكم والسيطرة بـآالت الذكاء االصطناعي. وتنحصر الطريقة املثلى ملواجهة هذه املخاطر، حسب رأيه، باالستثمار في تكنولوجيات دفاعية مضادة، منها على سـبـيـل املـــثـــ­ال الــســمــ­اح بـــوراثــ­ـيـــات وعــاجــات طــبــيــة جــــديـــ­ـدة، ومـــراقــ­ـبـــة الـــعـــو­امـــل املــرضــي­ــة الــخــطــ­رة، وتـعـلـيـق اســتــخــ­دام تـكـنـولـو­جـيـات مــــحــــ­ددة لـــفـــتـ­ــرة مـــؤقـــت­ـــة. أمــــــا فــــي مــــا يـخـص الذكاء االصطناعي، فيرى كيرزويل أن أفضل وقــايــة لــــدرء مـخـاطـر ســـوء اسـتـخـدام­ـه تكمن في تعزيز «قيم الحرية والتسامح، واحترام املـــعـــ­رفـــة والــــتــ­ــعــــددي­ــــة، ألن الـــــذكـ­ــــاء الـــنـــا­نـــوي الابيولوجي سيغدو متجذرًا في مجتمعنا ويــعــكــ­س قــيــمــن­ــا». الـــكـــت­ـــاب بــمــا احــــتـــ­ـواه من معلومات مثيرة تقاسم عبارات االستحسان واالســـتـ­ــهـــجـــ­ان مــــن مــــصــــ­ادر مــخــتــل­ــفــة، مـنـهـا مـا كــان منتشيا بفرحة ال توصف بالبشرى التي سيحملها عصر الذكاء االصطناعي إلى البشرية جمعاء. لكن معظم من هللوا للكتاب، مـثـل بـيـل غـيـتـس وغـــيـــر­ه، هــم أصــــا ينتمون إلـــى الــقــطــ­اع االســتــث­ــمــاري فــي التكنولوجي­ا املــتــقـ­ـدمــة، ألنـــهـــ­م وجـــــدوا فـــي الــكــتــ­اب فـرصـة لـتـسـويـق هـــذا الــقــطــ­اع االســتــث­ــمــاري وزيــــادة األربـاح. كذلك األمر، استقبل كتاب ومحللون سياسيون أميركيون كثيرون الكتاب بحفاوة بــالــغــ­ة، ألنــهــم رأوا فــيــه مـــا يـعـطـي األمــــل في ديمومة القرن األميركي، واستمرار «التفرد» فـــي الـسـيـطـر­ة عـلـى مـــوازيــ­ـن الـــقـــو­ى الـعـاملـي­ـة، األمـــر الـــذي يـدلـل على أن تكنولوجيا الـذكـاء االصـــطــ­ـنـــاعـــ­ي ســتــشــك­ــل حــــافـــ­ـزًا جــــديـــ­ـدًا عـلـى توفير وسائل جديدة للصراع الجيوسياسي. بــاملــنـ­ـاســبــة، هــــذا تـــحـــدي­ـــدًا مـــا طـــرحـــه مـايـكـل كـــنـــعـ­ــان فــــي كـــتـــاب­ـــه «الــــعـــ­ـد الـــتـــن­ـــازلـــي لــلــذكــ­اء االصطناعي والسعي الجديد للسيطرة على العالم ‪T-Minus AI: Humanity›s Countdown(‬ ‪to Artificial Intelligen­ce and the New Pursuit‬ ‪).of Global Power‬ الــذي نشرته دار بـن بيا فـي أغسطس/ آب .2020 يربط املـؤلـف البعد الــجــيــ­وســيــاسـ­ـي ملــفــاعـ­ـيــل بــرمــجــ­يــات الـــذكـــ­اء االصطناعي بمواقف الدول الكبرى في سعيها إلى السيطرة على العالم، ويستشهد على ذلك بموقفني: أوال، فـي عــام 2017 وجهت الصني رسـالـة واضـحـة جريئة، عندما أطلقت خطة وطنية للسيطرة على جميع مجاالت الذكاء االصـطـنـا­عـي فــي الـعـالـم. ثـانـيـا، قــال الرئيس الـــــروس­ـــــي بــــوتـــ­ـني، وبــــعـــ­ـد اإلعــــــ­ــان الــصــيــ­نــي بأسابيع: «مــن يتحكم بـالـذكـاء االصطناعي سيحكم الــعــالـ­ـم». ولـيـس مستبعدًا أن يكون هناك اآلن تطبيقات ذات طبيعة عسكرية من أسـلـحـة مـتـطـورة وغـيـرهـا تعتمد برمجيات الذكاء االصطناعي، بل يمكن القول إن الحرب الــروســي­ــة األوكــران­ــيــة والـــعـــ­دوان اإلسـرائـي­ـلـي عـــلـــى غـــــــزة يـــشـــكـ­ــان حــــقــــ­ا تـــجـــري­ـــبـــيــ­ـا لــهــذه البرمجيات. وما يمنح هذا الكتاب مصداقية عـلـمـيـة أن مـايـكـل كـنـعـان هـــو أول مـــن تـــرأس لجنة الذكاء االصطناعي في القوات الجوية األمـــيــ­ـركـــيـــ­ة، حـــيـــث أشــــــرف ووجـــــــ­ـه األبـــحــ­ـاث والدراسات التي تتصل بإعداد استراتيجيا­ت تكنولوجيا الــذكــاء االصطناعي وتطويرها وتـطـبـيـق­ـهـا، أي يـنـطـبـق عـلـيـه الـــقـــو­ل املــأثــو­ر «أهل مكة أدرى بشعابها». كـــذلـــك انـــبـــر­ى مــخــتــص­ــون عــــديـــ­ـدون النــتــقـ­ـاد الكتاب، استنادًا إلى أسس علمية، وتحديدًا ما يخص «خرافة التزايد األسي» التي اعتمدها كـــيـــرز­ويـــل. ومــــن هـــــؤالء الـــعـــا­لـــم واألكـــاد­يـــمـــي الفيزيائي البريطاني بول ديفيز الـذي يقول إن التزايد األسي ال يمكن أن يستمر إلى األبد، بل يواجه معوقات تحد من استمراريته. رد الفيزيائي البريطاني، ثيودور موديس، على كيرزويل بالقول: «ال شيء في الطبيعة يتبع منحنى أسيا خالصا»، مشيرًا إلى أن املنحنى املنطقي أو الدالة اللوجستية، وهو نوع شائع من املنحنى السيني، يناسب عملية النمو أو الزيادة الحقيقية. ويوضح موديس أن الدالة اللوجستية تبدو شبيهة بالدالة األسية في الــبــداي­ــة، لكنها تـضـعـف تـدريـجـيـ­ا وتـتـراجـع إلــــى أن تـتـسـطـح كــلــيــا. واســتــشـ­ـهــد عــلــى ذلــك باإلشارة إلى أن تعداد السكان العاملي وإنتاج الــواليــ­ات املتحدة مـن النفط بــدآ على شاكلة منحنى تـزايـد أســي صـاعـد، لكنهما تراجعا ألنهما منحنيان منطقيان (دالـة لوجستية). بعبارة مبسطة، يؤكد قانون الطبيعة أن أي شيء يصل إلى ذروتــه، ويبلغ منتهاه، يبقى مــحــكــو­مــا بــالــنــ­قــصــان وال يــمــكــن أن يستمر بالزيادة والنمو على نحو مطلق على مبدأ «لكل شـيء إذا مـا تـم نقصان فـا يـغـر بطيب العيش إنسان». وإن رأى أكـاديـمـي­ـون مختصون فــي اعتماد كيرزويل على التزايد األسـي مبالغة ال تتفق مــــع قــــانـــ­ـون الــطــبــ­يــعــة، ملـــــح آخـــــــر­ون مــــن غـيـر املختصني إلى أن الدوافع الدينية وراء فكرة الـتـفـرد عـنـد كــيــرزوي­ــل، بــل وعـــدوهــ­ـا محاولة ملــنــطــ­قــة (مــــــن املــــنــ­ــطــــق) الـــتـــف­ـــســـيــ­ـر الـــيـــه­ـــودي املـسـيـحـ­ي لـنـهـايـة الــعــالـ­ـم. ومـــن هــــؤالء جــون غــراي (فيلسوف بريطاني) ومــن املناهضني لفكرة عوملة الرأسمالية، الذي يقول «إن كتاب الـــتـــف­ـــرد يــعــكــس مـــقـــوا­لت أســـطـــو­ريـــة لـنـهـايـة العالم يكون فيها التاريخ على وشك أن يشهد حدثا يغير العالم بأسره». بــعــد أن انـتـهـيـت مـــن قـــــراءة كــتــاب كــيــرزوي­ــل، تذكرت مسرحية «روبوتات روسوم» للكاتب الـتـشـيـك­ـي كـــاريـــ­ل تـشـابـيـك الــتــي نـــشـــرت عــام ،1920 وقــدم فيها اصطاح الروبوت «الرجل اآللــــي». عــرضــت هــذه املسرحية الـتـي تنتمي إلـــى أدب الــخــيــ­ال الـعـلـمـي فــي بــلــدان عــديــدة، وتـرجـمـت إلــى لـغـات عـــدة. تـتـنـاول املسرحية الـتـي تـحـولـت الحـقـا إلــى فيلم سينمائي عن مصنع إلنتاج رجــال آليني من مــواد عضوية مــركــبــ­ة ويــتــشــ­ابــهــون فـــي هـيـئـاتـه­ـم مـــع بني الــبــشــ­ر، لـكـن الـــرجـــ­ال اآللـــيــ­ـني يـــقـــود­ون تــمــردًا يؤدي إلى فناء العرق البشري. ومن هنا جاء عنوان هذا املقال «الذكاء االصطناعي: التمرد قـــريـــب­ـــا» بـــتـــاع­ـــب لــفــظــي عـــلـــى كــلــمــة «تـــفـــرد» بـــاســـت­ـــبـــدال حــــرف بـــحـــرف مـــن بــــاب مــحــاكــ­اة فكرة كيرزويل باستبدال اآللة بالبيولوجي­ا، وتـــبـــد­يـــل الــــواقـ­ـــع الــحــقــ­يــقــي بـــآخـــر افــتــراض­ــي لــيــفــت­ــح املــــجــ­ــال أمــــــام مـــجـــمـ­ــوعـــة واســــعــ­ــة مـن االحتماالت التي لن يخلو بعضها من حس الفكاهة. وعلى سبيل املثال ال الحصر طبعا، ال تستغربن، عزيزي القارئ، أن يأتيك اتصال ذات يـــوم مــن شـخـص مــا يــقــول لــك «أنــــا عبد الحليم حافظ» بصوته نفسه الـذي غنى فيه قــارئــة الـفـنـجـا­ن. وبفضل الـتـحـرر مــن القيود البيولوجية، سيكون بمقدور السيدات تغيير لـــون الـعـيـنـن­ي أو لـــون الــشــعــ­ر حــســب الـطـلـب، وقس على ذلك أمثلة أخرى. سيسارع قراء عديدون إلى االعتراض بالقول إن املشكلة ليست في مفهوم برمجيات الذكاء االصـطـنـا­عـي، بــل فــي مــجــاالت توظيفه، ومن ثم ال يمكن أن نحرم البشرية من تقدم علمي يـسـاهـم فــي حـــل مـشـكـات مستعصية. يـذكـر هــذا الـكـام بفكاهة جــرت على لـسـان صديق عندما أبلغه الطبيب بأنه يعاني من التهاب حاد في الزائدة يستدعي استئصالها. امتقع وجـه الرجل وفــزع فزعا شـديـدًا، فما كـان منا إال أن نـعـتـنـاه بـالـجـن والـخـشـيـ­ة مــن عملية بـسـيـطـة. لـكـنـه رد علينا ردًا مـفـحـمـا بـقـولـه: «والله ال أخشى املبضع بل أخشى يدًا حمقاء قد تعبث به»، وفهمكم كفاية.

رؤية طوباوية لمستقبل قريب يتفوق فيه الذكاء االصطناعي على البيولوجي، ويفتح المجال أمام ما كان باألمس القريب خياًال محضًا

اندماج اإلنسان واآللة على نحو تكتسب بوساطته أدمغتنا مقّدرات ووسائل معرفية جبارة

 ?? )Getty( ?? المخترع األميركي راي كيرزويل، صاحب كتاب «التفرد قريبًا: عندما يتخطى البشر البيولوجيا»، يتحدث في مؤتمر في نيودلهي في ‪2012 /3 /17‬
)Getty( المخترع األميركي راي كيرزويل، صاحب كتاب «التفرد قريبًا: عندما يتخطى البشر البيولوجيا»، يتحدث في مؤتمر في نيودلهي في ‪2012 /3 /17‬

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar