هل االنمحاء والتنميط ثمن النجاح الجماهيري؟
فيلم أميركي جديد يطرح أسئلة عن الكتابة ومتطلبات السوق وصناعة السينما، من خالل سيرة كاتب أسود يواجه تحديات ومآزق وتنانين النشر والتوزيع
يــصــغــي الـــكـــاتـــب إلـــــى تــوجــيــهــات الــــنــــاشــــر واملــــنــــتــــج الـــســـيـــنـــمـــائـــي. يــرفــض الــخــضــوع لتوجيهاتهما الـفـنـيـة. هـــذا حـــاصـــل فـــي American Fiction لــكــورد جــفــرســون، الـفـائـز بـجـائـزتـي «بـافـتـا» البريطانية (النسخة 18 77، فبراير/شباط )2024 و«أوسكار» الهوليوودية (النسخة 69، 10 مارس/آذار ،)2024 في فئة أفضل سيناريو مقتبس، عن روايـة بعنوان «انمحاء» )2001( لبرسفل أفيريت (السيناريو لكورد). انمحاء مـــــن أمــــــام مـــــــاذا؟ انـــمـــحـــاء شــخــصــيــة الــكــاتــب وأسلوبه (أداء متميز لجيفري رايت) أمام ما يسميه جيرار جينيت «مجموع الخصائص العامة أو املتعالية التي ينتمي إليها كل نص على حدة». هذه خصائص سابقة على ميالد الكاتب. يرفض الكاتب االنمحاء أمــام جامع الــــنــــص. يـــرفـــض الـــكـــتـــابـــة وفـــــق الــخــصــائــص العامة املتعالية، املكرسة ككليشيهات. يريد تـرك بصمته األدبـيـة، لـذا ال تستقبل رواياته بترحاب. من هنا ولدت الدراما في فيلم يجدل ضفيرتي وقائع على الصعيدين الشخصي والــفــنــي، فـــي حــيــاة كـــاتـــب أســــود غــاضــب ألن كــتــبــه تـــصـــنـــف فـــي املــكــتــبــات فـــي خـــانـــة عــرق الكتاب الـسـود، ال على أســاس النوع األدبــي، أو املواضيع. عــلــى الـصـعـيـد الــشــخــصــي، يــتــضــح (بـحـسـب الـفـيـلـم) أن نـصـف الـشـعـب األمــيــركــي يعاني األرق. بحثا عن السالم والعزلة، يهرب البطل من أسرته ليتفرغ للكتابة. يتعايش مع تفكك عائلي شديد، ومع تدهور مهول ملوقع العائلة في حياة الفرد. انقرض املتزوجون في األفالم األمــيــركــيــة. بــقــي أوالد مــطــلــقــون، يــحــرضــون أمهم على أبيهم امليت. إلنقاذ األم من الحزن، يخبرونها أنــه كـان يخونها. تجيبهم بأنها كانت تعرف. يصدمون. في االستهالل الفني، يـــتـــحـــرق الـــكـــاتـــب أمــــــام الــصــفــحــة الــبــيــضــاء. يتخيل شخصياته تتحدث أمامه ليفهمها. يـــريـــد أن يــــنــــزاح عــــن الـــســـائـــد، ويـــمـــلـــي عـلـى القراء موضوعه وأسلوبه، ويحظى بالقبول
ّْ والــنــجــاح. لـكـن ســوق النشر تـفـرض عليه أن ينمحي ليتطابق مع قانونها. الكاتب مصر على مقاومة االنمحاء. مشغول بأسئلة أدبية أسلوبية، للتعبير عن ذاته. فجأة، يجد نفسه مـــتـــورطـــا فـــي مــتــطــلــبــات حــيــاتــيــة ال تـنـتـهـي، وهــذا يغير نظرته لحياته العائلية، وللفن.
مـن تلك الــورطــة، ولـــد الـحـل. يكتشف الكاتب أن القليل من الصبر مع أفــراد عائلته أفضل لصحته من قطع عالقته بهم. الفيلم كوميديا سينمائية عن بيئة جامعية موبوءة، تعيش تنافسا مَرضيا بـني مـن يكتب ويحفر بحثا عن العمق، ومـن ينشر كتابا كـل ستة أشهر، ويجري ليلمع فيطفو كبيض فاسد. ينصح األســـتـــاذ الـجـامـعـي زمــيــلــه: «اتــــرك التجسس على حياتي، وركز على الكتابة». هذا الفيلم حقنة فنية للتعقيم الذاتي ضد كل
ََ ما يتهدد الذوق الرفيع. سبق الحكم الوصف، لذا سيلي التعليل الحكم. تتوالى فيه كادرات كــــلــــوحــــات. يــــحــــرص كـــــــورد جــــفــــرســــون عـلـى وضوح مفاصل األحداث. يجري االنتقال بني املشاهد باقتصاد في الكادرات، في فيلم عن معايير كتابة الرواية وتسويقها في أميركا. في معرض الكتاب، في بوسطن، هناك قاعة خالية وأخـــرى مـزدحـمـة. تلغى نـــدوة القاعة األولـــى لـعـدم تــوفــر الـجـمـهـور. حينها، يتجه الكاتب إلــى القاعة املمتلئة، فيالحظ تزاحم الــجــمــهــور عــلــى الــكــاتــبــة الــنــمــوذجــيــة. يــقــارن أسـلـوبـهـا بـأسـلـوبـه. الفيلم مـحـاكـاة سـاخـرة
محاكاة سينمائية ساخرة وجميلة للنوع الروائي المطلوب
لــلــنــوع الــــروائــــي املـــطـــلـــوب. يــفــضــل أن يكتب روائـــــي أســـود عــن الـــزنـــوج، لـيـنـشـر لــه كتابه. أفـــضـــل روايــــــة تــلــك الـــتـــي تــحــكــي عـــن شـــرطـــي أبـــيـــض يــطــلــق الـــرصـــاص عــلــى شــــاب أســــود. هـــكـــذا يـــفـــرض الـــنـــاشـــر خــصــائــص املـــوضـــوع واملنظور، لضمان الربح. أمـا أن يكتب كاتب أبيض عن هذه الواقعة، فاحتمال نشر روايته ضعيف. يضع احتمال النشر بـشـدة إن يكن الـــكـــاتـــب األبــــيــــض يـــعـــيـــش قــــصــــة طـــــــالق. فـي مـعـرض الـكـتـاب فـي بـوسـطـن، تتبع الكاميرا الروائي الذي ينفذ توجيهات الناشر، ويكتب روايـة تشبه سلسلة «لعبة العروش». يفضل أن يكتب كــل كـاتـب عـن عـرقـه. يبحث الناشر واملـنـتـج عــن سـجـني ســابــق. تتطابق معايير الناشر واملنتج. أفضل إشهار ألي رواية إعالن شــرائــهــا القـتـبـاسـهـا ملـسـلـسـل، أو للسينما. صارت السينما معيارًا لألدب. انقلب الوضع الـــذي كــان ســائــدًا فــي الــقــرن الـعـشـريـن. يطرح الــفــيــلــم نـــظـــريـــة فـــي الـــكـــتـــابـــة، مـــؤســـســـة على املعرفة التجريبية الضرورية للكاتب. يشرح له الناشرون أن املطلوب رواية عن شاب أسود يتعرض إلطـالق رصـاص من شرطي أبيض. يطلبون رواية تستثمر الكليشيهات املألوفة لـدى املتلقي. روايـــة بقلم كاتب أســود يعيش في الغيتو، ويتحامق ويتغابى لتباع كتبه. الطلب يقرر شكل الـعـرض. إذًا، ال جــدوى من مقاومة التنميط باسم التفرد واالستقاللية الـفـنـيـة. يــبــدو أن تــونــي مــوريــســون خضعت للخصائص العامة أو املتعالية املطلوبة، في روايـتـهـا «أكــثــر الـعـيـون زرقــــة» ،)1970( التي فيها فتاة سوداء تحلم بعيون «باربي». حـني يلتقي الكاتب منتجا سينمائيا، يدقق بالشروط: على الكاتب سـرد وقـائـع، وتجنب إصـــــدار أحـــكـــام. عـلـيـه أن يـكـتـب مــن املعايشة واملعاينة، ال من اإللهام. مطلوب سرد مطابق فـي جمل قصيرة واضــحــة، ووصـــف سلوكي. ال مــكــان لـلـكـتـابـة اإلنــشــائــيــة فـــي الـسـيـنـاريـو السينمائي. مطلوب نص خام، وكتابة مقتطعة مــن مــأســاة الـعـالـم الحقيقي. كتابة كتحديق فـي جــرح مفتوح. مطلوب ســرد كـــوارث حياة السود بلغة الشارع. من الجيد أن يكون الكاتب خرج َّمن السجن، ليكون سرده واقعيا مقنعا ومـــؤســـســـا عــلــى املــعــايــشــة واملـــعـــايـــنـــة. يختم املنتج: «ال بد من عنوان رنان وواضح. ال يمأل غموض الروايات قاعات السينما، لذا يحتاج االقتباس إلى وضوح كبير. نهاية الرواية غير مـنـاسـبـة لـفـيـلـم. تـحـتـاج األفــــالم إلـــى نـهـايـات كبيرة». هذه خصائص أسلوبية للكتب األكثر مبيعا. يزعم الكتاب الذين ال تباع كتبهم أن االنمحاء والتنميط ثمن النجاح الجماهيري. أيها الكاتب، ال أحد يهتم بقصتك حتى تفوز. لكي تفوز، هناك وصفة أدبية وفنية تتشابه فـيـهـا خــصــائــص الــبــقــر، ويــدعــمــهــا ويتبعها الناشر واملنتج.