«البروباغندا» والحرب في الشرق

إســرائــيــل دولـــة تـحـب الــخــوف، وال شـــيء يمنحها بسهولة الثقة واالطمئنان. وادعاؤها أنها تعتمد على ذاتها في الدفاع عن نفسها قد عبر عنه باالعتداء الصارخ على األطفال والنساء من املدنيني. وأنها ملا هوجمت باملسيرات والصواريخ من داخل إيـران توقفت كلية عن القتال في غزة ملدة تقارب خمس ساعات، ولكنها عادت إلى ذلك فورًا بعد إعالن إيران على لسان بعثتها في األمم املتحدة إنهاء حملتها على إسرائيل. وال شك أن إسرائيل بقيادة حكومتها الـحـالـيـة تـسـتـخـدم الــحــرب الـنـفـسـيـة، والـــكـــذب، ودس املـعـلـومـات، والصور من أجل تسجيل نقاط ضد أعدائها. ولعل أكثر مـا يضحك فعال هـي صــورة لرئيس حكومتها وهو واقـــف عـابـسـا أمـــام طــائــرة مـقـاتـلـة فــي أحـــد املـــطـــارات العسكرية وهو يرتدي جاكيتا جلدية على غرار بعض الصور الترويجية لـ «تـوم كـروز» في فيلم « توب غن .»TOP GUN على األقـل ممثل هوليوود طيار مرخص، أما نتنياهو فهو يفهم في الطيران قدر معرفته بجغرافيا كوكب أورانوس. وإسرائيل تطبق هذه األيام في دعايتها العسكرية نفس الوسائل الكالسيكية التي فصلها كل من الفرد واليزابيث لي ALFRED AND ELIZABETH LEE في كتابهما املوسوم «الفن الرفيع للبروباغندا» املنشور عام .1939 أي قبيل انفجار الحرب العاملية الثانية. ومن أهم هذه الوسائل كيل الشتائم لقادة الــدول، التعميمات الرنانة، التمويل ،TRANSFER والشهادات الكاذبة، والكالم البسيط ملخاطبة الجماهير، وتجميع الحقائق بشكل يؤدي إلى النتيجة التي تريدها، أو اللجوء إلى ما يسمى باللهجة العامية املصرية « الجمهور عايز كده». وببساطة، فإن تعريف البروباغندا هو «نشر املعلومات والحقائق، والجدليات، وانصاف الحقيقة أو الكذب من أجل التأثير على الرأي الــعــام مــن خـــالل نـشـرهـا عـبـر وســائــل اإلعــــالم الـغـربـيـة الـتـي تقع في دائـرة النفوذ الصهيوني، فإنها تلجأ إلى نفخ هذه املعلومات أو الـحـقـائـق، وتجسيدها بالتحليل على مــن يــســمــون بالخبراء واملختصني إليـصـال هــذه األبـاطـيـل على أنـهـا حقائق غير قابلة للنقض أو الجدل. ويقصد بهذه اآلراء إقناع الجمهور اإلسرائيلي بصوابيتها بقصد الطمأنة، والجمهور في الــدول املعادية بهدف كسر املعنويات. ولكن إسرائيل ومـن يؤيدونها إبــان حـرب غزة لـم يـجـدوا الفضاء اإلعـالمـي فـارغـا إال منهم، بـل وجـــدوا فيه من ينافسهم على مساحته، ويسرق منهم املشهد. فالشباب العرب واملسلمون واألفــارقــة وحتى الشباب الجديد املتحرر من سجن األفكار الصهيونية املتراكمة لم يقبلوا أن يبقوا صامتني. ورغم كل مساعي شركات التواصل اإللكتروني العمالقة، والتي يتحكم فيها رأس املال الصهيوني، إال أن هؤالء الفتية قدموا رواية مختلفة وبأساليب متطورة ما أربــك اإلسرائيليني والسياسيني في دول الغرب. ولــردود فعل الــدول الغربية أنماط محنطة ال تحيد عنها، ونحن نذكر ردود فعل ساسة الغرب بعد عملية السابع من شهر أكتوبر/ تشرين األول عام .2023 لقد دانـوا املقاومة بأسلوب فج بعيد عن الرقي في ألفاظه وجمله، ودانوا ونافقوا إلى درجة مقززة. وملا أحرجتهم الحكومة اإلسرائيلية وجيشها بأعمالهم الهمجية فـي التدمير والقتل، بـــدأوا يتراجعون إذعـانـا ملطالب جماهيرهم في بلدانهم، وبسبب الخشية على مصالحهم. وملـا قامت إيـران فجر الرابع عشر من شهر إبريل/ نيسان بإرسال 350 مسيرة وصاروخا إلى إسرائيل رأينا إدانــة قاسية إليــران حتى من قبل األمني العام لألمم املتحدة، ومن قبل مستشار أملانيا أوالف شولتز وغيرهم، علما أنهم كانوا واثقني أن الضربة اإليرانية قادمة، وأن إيران لن تسكت على اعتداء إسرائيل على قنصليتها في العاصمة السورية ومقتل سبعة أعضاء بارزين من قوات الحرس الثوري. وعند انتهاء املعركة بدأت الدعاية املضادة وماكينتها بالعمل. وقد استخدموا فيها إثارة نقاط تظهر أن إيران قد قامت بهذه الهجمة الجوية على إسرائيل من أجل أن تخدم إسرائيل عن طريق إلهاء الناس عما يجري في قطاع غزة، وتحويل التعاطف في دول الغرب والعالم إلى إدانة إيران بدال من إسرائيل وحكومتها وجيشها، وإلى تعزيز الــدور اإليـرانـي في املنطقة. وبمعنى آخـر أن هناك مؤامرة متفقا عليها لتحقيق هذه النتائج، وفتح الباب أمام إسرائيل لتعود إلى التظاهر بأنها الضحية وليست الجالد، وأنها هي بحاجة إلى دعـم الـواليـات املتحدة وفرنسا وغيرها إلسقاط وسائل الهجوم الجوية اإليرانية قبل وصولها إلى األراضي اإلسرائيلية. وبالتزامن مع هذا النقاش، بدأت لعبة البروباغندا باألرقام. صحيح أن إيـــران أرسـلـت أكثر مـن 300 طـائـرة مسيرة وصــــاروخ، ولكن بفضل الــتـعـاون مــع كــل مــن الـــواليـــات املـتـحـدة وفـرنـسـا واململكة املتحدة فقد تم التصدي لنحو %99 منها. وبمعنى آخر، فإن عدد املتفجرات التي سقطت على إسرائيل هي أقل من أربعة، ووردت هــذه اإلحصائية على لـسـان رئـيـس الــواليــات املتحدة فـي املكاملة الهاتفية التي أجراها مع رئيس الحكومة اإلسرائيلية. والتي أراد أن يقنعه بها أال يرد على الهجمة اإليرانية بسبب انتصار إسرائيل وفشل إيران. ولكن وسائل اإلعالم ذكرت أن القذائف والصواريخ واملسيرات التي أطلقت على إسرائيل قد ضربت تل أبيب والقدس وايــــالت والـــجـــوالن الـــســـوري املـحـتـل والــنــقــب. وهــــذه تتطلب على األقل خمس وسائل. وتقول إيران باملقابل إن %50 من الوسائل الهجومية الجوية التي هاجمت بها إسرائيل قد وصلت ألهدافها. ومالحظ هنا أن البروباغندا اإلسرائيلية في غـزة ال تظهر عدد القتلى والجرحى اإلسرائيليني رغم أنهم يقولون بالكلمات وليس بالصور أنهم على سبيل املثال قد قتلوا أكثر من مائتي مقاتل من حماس بعد احتالل مستشفى الشفاء دون أن نـرى ولـو صورة واحــدة تثبت صحة ادعائهم. فلعبة التالعب بـاألرقـام، إظـهـارًا أو إخفاء، تضخيما أو تقليال، أو كذبا أو بعض الكذب ال يمكن الوثوق بها. وباملقابل، فإن إظهار أرقام الشهداء من أهل غزة على أساس يـومـي تـراكـمـي، وأعــــداد الـجـرحـى، وتفصيل األرقــــام بــني النساء واألطفال والرجال قد ساهم ومع الصور في إظهار حقيقة إسرائيل التي تــرد بــأن ارقـــام وزارة الصحة فـي غــزة مبالغ فيها. والكذب بــاألرقــام واإلحـــصـــاءات هـو لعبة مـن أهــم الـوسـائـل للترويج ضد األعـداء ولدعم املعنويات لدى الشعب الذي تقوم حكومته بتقديم هذه األرقام الكاذبة. ولكن الوقت دائما كفيل بكشف الحقائق. ولم أعلم عن حرب مورس فيها الدجل والكذب كهذه الحرب املستعرة منذ السابع من أكتوبر من العام 2023 وحتى اآلن.