Al Araby Al Jadeed

الشرق األوسط: معارك الردود اآلمنة

- مدى الفاتح (كاتب سوداني في لندن)

ال أحـــبـــذ فـــي الــــعـــ­ـادة اســـتـــخ­ـــدام مصطلح «الــــشـــ­ـرق األوســـــ­ــط» االســـتــ­ـشـــراقــ­ـي غـامـض الــداللــ­ة، وأفـضـل اسـتـخـدام املـشـرق العربي أو العالم العربي. ولكن ال مفر، في بعض األحــــــ­يــــــان، مــــن اســــتـــ­ـخــــدام هــــــذا املــصــطـ­ـلــح حينما نتطرق إلى أطراف غير عربية، كما في حالة الحديث عن التجاذبات اإليرانية اإلسرائيلي­ة. تابع املاليني في املنطقة، ليلة السبت املاضي، األخبار عن هجوم إيراني بعشرات الصواريخ والطائرات بدون طيار، التي توجهت لضرب أهداف مختارة داخل الكيان الصهيوني. كان الجميع يأمل في أن تسدد إيــران ضربة ناجحة في عمق كيان االحـتـالل. ولكل طـرف أسبابه التي تدفعه إلى هذا األمل، فمناصرو إيران وأصدقاؤها كانوا يـرون أن تحركا كهذا سيجعل البلد يستعيد هيبته، خصوصا بعد أن أصبح مــــحــــ­ل تــــنــــ­در بـــعـــد مـــــــرو­ر أســـبـــو­عـــني عـلـى استهداف مبانيه الدبلوماسي­ة في دمشق وقتل قادة عسكريني منه، دون أن ينتج ذلك أي رد فعل. في املقابل، كان خصوم إيران، ومن يرونها تــهــديــ­دًا إقـلـيـمـي­ـا، يــأمــلــ­ون فـــي أن تحصل هــذه الـضـربـة، الـتـي كــان يمكن أن تدخلها في مواجهة دولية مباشرة، إلشغالها في صــراع معقد قــادر على عرقلة محاوالتها التمدد والسيطرة على املنطقة. وكـان هناك متحمسون كثيرون، متأثرون بــالــعــ­دوان وبــالــجـ­ـرائــم اإلســرائـ­ـيــلــيــ­ة، التي تمر من دون عقاب في قطاع غزة ومستمرة تحت نظر العالم. وكان أولئك يرون أن مثل هذه الضربة، وبغض النظر عمن وراءهـا، يـمـكـن أن تـحـقـق نــوعــا مــن الـــثـــأ­ر، الــــذي قد يمثل ردًا متواضعا على مقتل عشرات آالف من املدنيني وتهديد حياة أكثر من مليون شخص بالجوع أو بفقدان العالج. لم يكن األمـر كما توقع الجميع، فالعملية جــــرى تــنــســي­ــق مــســبــق لــهــا مـــع مـجـمـوعـة مــن األطـــــر­اف، مــا أفـقـدهـا عنصر املـفـاجـأ­ة، وجــعــلــ­هــا تــتــم بـــال خــســائــ­ر تــقــريــ­بــا. إيــــران حــاولــت بـهـذا الـتـحـرك املــــدرو­س حـفـظ مـاء وجهها وإسكات من يقولون إنها تخشى املـــواجـ­ــهـــة. كــــان الـــتـــح­ـــرك املــــــد­روس يتمثل فـــي «رد آمــــن» ال يـثـيـر غـضـبـا واســـعـــ­ا وال يـجـر الــدولــة، الـتـي ال تنقصها التعقيدات االقـتـصـا­ديـة وال السياسية، ملـواجـهـة هي ليست على استعداد لها. ردود الـفـعـل عـلـى الـعـمـلـي­ـة انـقـسـمـت وفـق مــنــطــل­ــقــات املـــتـــ­ابـــعـــن­ي، فـــكـــان اإلحــــبـ­ـــاط من نصيب مــن كــانــوا يـتـمـنـون مـواجـهـة أكثر جدية. كان أولئك يظنون أن خيارات طهران تنحصر فـي خـيـاري الـــرد وعــدمــه، وكـانـوا يــرون، وفقا لذلك، أنــه، وبسبب حـرج كبير أنتجه هجوم دمشق، ال مفر من رد إيراني. ما فـات هــؤالء أن إيــران ابتكرت، منذ وقت طويل، طريقا ثالثا، وهـو ما سميناه الرد بأمان. هجمات السبت، التي كانت دعائية بشكل كاف إلحداث جلبة واسعة وحالة من التأهب األمني اإلقليمي، أوضح مثال لذلك الرد اآلمن. مثل هذا التحرك آمن، ألن أقصى مـا يمكن أن ينتجه إدانـــات غربية ودعــوة إلى مزيد من العقوبات االقتصادية. عـــلـــى الــــرغــ­ــم مــــن ظـــهـــور حـــجـــم «الـــهـــج­ـــوم» الــــحـــ­ـقــــيـــ­ـقــــي وإعـــــــ­ـــــالن إيــــــــ­ــــران عــــبــــ­ر وزيــــــر خـارجـيـتـ­هـا حـسـني أمــيــر عـبـد الـلـهـيـا­ن أن عملية الرد انتهت، إال أن صور رموز النظام اإليـــران­ـــي ظـلـت مـحـل احـتـفـاء فــي صفحات التواصل االجتماعي عند من كان يرى في العملية التي حملت اسم «الوعد الصادق» ردًا حاسما وقـويـا وخـطـوة شجاعة. كتب كـثـيـرون مــن هـــؤالء عــن العملية بتمجيد. وعـــلـــى طـــريـــق­ـــة اإلعــــــ­ــالم الــــدعــ­ــائــــي، مـضـى بــعــضــه­ــم إلــــى نــشــر صــــور مــلــفــق­ــة وأخــــرى مــنــتــز­عــة مـــن ســـيـــاق­ـــات أخـــــرى ملـــا ســمــوهــ­ا حرائق ودمارًا أصاب الداخل اإلسرائيلي. وجهة النظر الثالثة، التي شملت كثيرين متأثرين بـاملـأسـا­ة الفلسطينية، كـانـت أن هــذا الـتـحـرك، وإن احـتـوى بعض الدعاية، إيجابي في ظل الصمت العربي والتواطؤ الــعــامل­ــي الــعــاجـ­ـز عــن ردع االحـــتــ­ـالل أو عن معاقبته على جرائمه بأي شكل. ال تــقــتــص­ــر مـــســـأل­ـــة الــــــــ­ــردود اآلمــــنـ­ـــة عـلـى طـــهـــرا­ن، فـتـل أبــيــب نفسها تـسـتـخـدم هـذه االستراتيج­ية منذ عقود، وإذا كانت األولى تنفي مسؤوليتها عن العمليات التي تقوم بها املجموعات العسكرية املوالية لها، فإن

ال أحد من الفاعلين يرغب في تعميق فوضى المنطقة

الثانية ترفض االعتراف بأي عمل عسكري مــوجــه إلـــى إيــــران. تنتقل الــكــرة الــيــوم إلـى امللعب اإلسرائيلي، ليصبح تساؤل الساعة عن كيفية الــرد على الــرد اإليـرانـي. ويظهر الــبــحــ­ث عـــن الـــــــر­دود اآلمـــنــ­ـة فـــي الـتـنـسـي­ـق والـــــــ­تـــــــشـ­ــــــاورا­ت، خــــصــــ­وصــــا مـــــع الـــجـــا­نـــب األميركي، فاملطلوب هندسة رد موجع، ال يؤدي، في الوقت ذاته، إلى غضب جارف ال يمكن التحكم به. ال يمكننا بهذا أن نتوقع ضربة إسرائيلية في قلب املنشآت النووية. وزيـــر خـارجـيـة الــكــيــ­ان، الـــذي كــانــت بــالده مـحـاصـرة أخـالقـيـا وشـبـه مــعــزولـ­ـة، حــاول مـــن خـــالل بــرقــيــ­ات أرســلــهـ­ـا إلـــى عـــدة دول يتعامل معها تحقيق مـا سـمـاه «هجوما دبلوماسيا»، باستغالل العملية اإليرانية وتوجيه األنظار عما يحدث في فلسطني، في محاولة إللباس الجاني املتهم باإلبادة الجماعية ثوب الضحية. مــن الـطـريـف التفكير فــي كيفية انتقالنا، خالل أيام معدودة، من التساؤل حول مكان الرد اإليراني وزمانه إلى بحث طريقة الرد اإلسرائيلي. الدول، التي كانت تحاول ثني إيـران عن التهور أو عن القيام بأي هجوم ال تحمد عقباه انتقلت اليوم لتطلب الطلب ذاتــــــه مــــن الـــغـــر­يـــم اإلســـرائ­ـــيـــلــ­ـي. الــــوالي­ــــات املـتـحـدة وبـريـطـان­ـيـا، الـتـي نـجـح ضغطها عــلــى إيــــــرا­ن فـــي خـــــروج الـــــرد بـــهـــذا الـشـكـل الباهت اآلمــن، تأمل في أن تنجح في فعل مـثـلـه، وأن تـكـبـح الــرغــبـ­ـة اإلسـرائـي­ـلـيـة في االنتقام. ... واملؤكد أن ال أحد من الفاعلني يرغب في تعميق فوضى املنطقة.

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar