Al Araby Al Jadeed

أصبح كّل العالَم فلسطين

تقف هذه الزاوية مع مبدع عربي في أيام العدوان على غزة وكيف أثر على إنتاجه وحياته اليومية، وبعض ما يود مشاركته مع القراء. «نحن في خندق المعركة وأَو ِجها، والو ْض ُع يحتاج منا مواقف جريئة»، تقول الُممثّلة والمسرحية التونسية لـ«العربي الجديد»

- تونس ـ العربي الجديد

■ ما الهاجس الذي يشغلك هذه األيام في ظل ما يجري من عدوان إبادة على غزة؟ تـــعـــصـ­ــف بـــــي أحــــاســ­ــيــــس مـــبـــعـ­ــثـــرة وقاسية قساوة املشهد، وجع بال هدنة، دموع طوفانية وعجز قاتل. أكثر ما يشغلني هذه األيام هو ما يجري من عدوان سافر وإبادة مفضوحة، وماذا يمكنني أن أفعل من موقعي لنصرة غـــزة. أنــهــار فـأوبـخ ضعفي وأصــرخ في وجهي الشاحب: «األحاسيس والدموع ال تنفع، قاومي بما استطعت»... فأرتدي حزني وكــوفــيـ­ـتــي وأخـــــرج فــي املــســيـ­ـرات الشعبية، أجــلــس ســـاعـــا­ت أمــــام الــحــاسـ­ـوب أحــــث على كـــل أشـــكـــا­ل املــقــاط­ــعــة، أكـــتـــب، أنـــشـــر، أشــــارك بالصوت والصورة عن فظائع حرب اإلبادة لـكـسـر حــصــار بـــارونــ­ـات مــنــصــا­ت الـتـواصـل االجتماعي التي تريد إخفاء الحقيقة، أصرخ بأعلى صوتي في وجه الظاملني واملتواطئن­ي: لــن نـعـتـاد، لــن نـنـسـى، لــن نـسـامـح، وأســبــح: مـعـذرة غـــزة، الثمن باهظ لكنك كشفت قبح وسفاهة العالم وغيرت مجرى التاريخ.

هـل يـحـق لنا أن نـتـحـدث عـن الـحـيـاة ونحن نختنق برائحة املوت؟ نحن نختنق برائحة املـوت وبقايا الجثث املتحللة التي تنهشها الـقـطـط والـــكـــ­الب. الـحـيـاة الـيـومـيـ­ة حـتـى في جزئياتها الصغيرة واملعتادة لم تعد حياة منذ أول أيـــام الــحـرب على غـــزة. أعـيــش أرق الدفء واألطفال يرتعشون بردًا، أتذوق مرارة الخبز في فمي واألطـفـال يموتون جوعا، ال أسمع إال أصــوات االستغاثة تـنـادي الصبر والـثـبـات، يـا الـلـه لقد دمـــروا بيوتك واملـــآذن، أغــثــنــ­ا واحـــضـــ­ن فـــي جـــنـــان الــخــلــ­د أطـفـالـنـ­ا وأطـعـمـهـ­م مــن نــعـمـك «فـقـد مـــات األوالد من غير ما يأكلوا». لم تعد لي حياة، لبس قلبي الــحــداد، أخـجـل مـن ابتسامة عـابـرة ومـائـدة اإلفـــطــ­ـار وســقــف الــبــيــ­ت ومـــالبــ­ـســـي، وزهــــرة ربـيـع أيـنـعـت، وغــنــاء العصافير مــع بشائر الفجر. لم أعد ألحيا وأكتب وأفكر في عملي املسرحي الجديد، فغزة في جسدي وروحي بـــكـــل تــفــاصــ­يــل الـــــهــ­ـــول، أنـــتـــظ­ـــر انــتــصــ­ارهــا ألعود إلى حياتي، إلى أوراقي ورائحة قهوة الـــصـــب­ـــاح ونـــافـــ­ذتـــي وشـــخـــص­ـــيـــات خـيـالـيـة كأبطال غزة، ال تقهر.

■ إلى أي درجة تشعرين أن العمل اإلبداعي ممكن وفــعــال فــي مـواجـهـة حـــرب اإلبــــاد­ة الـتـي يـقـوم بها النظام الصهيوني في فلسطني اليوم؟ أقلمي صــاروخ يـرد على القصف بالقصف، وجسدي شخصية على الخشبة ال تغتالها دبــــابــ­ــة؟ آســـفـــة، ال أشـــعـــر بــتــاتــ­ا بــــأن الــوضــع الــيــوم يـحـتـاج إبــداعــا ملــواجــه­ــة الــحــرب، فما يفتك بالقوة ال يسترجع إال بالقوة. نحن في خندق املعركة وأوجها، والوضع يحتاج إلى مـواقـف جريئة مـن قبل املـبـدعـن­ي والفنانني واملثقفني واملشاهير، كفانا تصفيقا ورقصا عـلـى األغـــانـ­ــي الــثــوري­ــة الــتــي لـــم ولـــن تـوقـف حــــرب اإلبــــــ­ـادة، كــفــانــ­ا شــعــرًا وشــــعـــ­ـارات. إذا

أتذّوق مرارة الُخبز في فمي واألطفال يموتون جوعًا أيها العربي ال تنتظر رخصة لتكون ما يجب أن تكونه

لـيـس بـإمـكـانـ­نـا حـــمـــل بـنـدقـيـة، أو أن نـكـون في خيام النازحني ضـمـادة لجروح صبية، فلنكن باملئات على الـحـدود لكسر الحصار وإدخـــــا­ل املـــســـ­اعـــدات، ولـيـطـلـق الـــعـــد­و الـنـار علينا، ستختلط دمـاؤنـا بـدمـاء الـشـرفـاء. ال أتــجــرأ أن أنـسـب لنفسي أو ألعـمـالـي الفنية صفة املــواجــ­هــة، واألبـــطـ­ــال يـمـوتـون بــاآلالف في معركة الحّرية والتحُّرر. للعمل اإلبداعي مــكــانــ­تــه ومــهــمــ­تــه ودوره، فــالــفــ­ن بمختلف أشــكــالـ­ـه الــتــعــ­بــيــريــ­ة، ســيــكــو­ن حــبــر قصص الـــصـــم­ـــود، وكـــيـــف اخــتــلــ­ط الــخــبــ­ز بـــالـــد­مـــاء، ســـيـــكـ­ــون الـــقـــب­ـــضـــة الــــتـــ­ـي تـــمـــسـ­ــك بــــــاأل­رض وتوقفها عـن الــــدورا­ن، لـيـوثـق هــذه اللحظة التاريخية ويعطي للعالم الـصـورة الكاملة بال «فلتر» لكن بطريقة فنية، العمل اإلبداعي سيمنع تـزيـيـف الــتــاري­ــخ ، سـيـكـون الــذاكــر­ة والذكرى والحقيقة التي يجب أال تطمس.

■ لــو قـيـض لـــك الــبــدء مــن جــديــد، هــل ستختارين املجال اإلبداعي أم مجاال آخر، كالعمل السياسي أو النضالي أو اإلنساني؟ بالتأكيد سأختار العمل اإلبداعي ألن اإلبداع يجعلني امرأة حرة (امراة باملعنى اإلنساني ال األنــثــو­ي)، وألن العمل اإلبــداعـ­ـي مقاومة، والفعل الفني نـضـال يـولـد مـن رحــم أوجــاع اإلنسان ويتوجه إليه ليخبره عن نفسه، عن املوت والحياة.

■ مــا هــو التغيير الـــذي تنتظرينه أو تريدينه في العالم؟ هل ننتظر من هذا العالم أن يتغير بعد الذي رأيناه في حرب اإلبادة على غزة؟ لقد كشفت الـــحـــر­ب أبــشــع مـــا فـــي اإلنـــســ­ـان مـــن وحـشـيـة وجـــن ونــفــاق وبـهـتـان وخــــذالن، لقد كشفت

ُّّ الحرب حقيقة كـل من تشدقوا بقيم العدالة وحـــقـــو­ق اإلنــــسـ­ـــان، فـــال كــــل األطــــفـ­ـــال أطـــفـــا­ال وال كـــل املــــوت فــاجــعــ­ة. مــــاذا ننتظر مــن هـذا

َّ الـعـالـم الـــذي يــقــرر مــن هــم مــن فئة اإلنــســا­ن،

‪ُِ َُ‬ ومــــن هـــم مـــجـــرد أرقـــــام تــفــتــك مـنـهـم الــحــرب الهوية وعـنـوان البيت والحلم وتفتك حتى القبر واألكـــفـ­ــان. أنــا ال أنتظر شيئا مــن هذا العالم وطغاته، فقد علمتني هذه الحرب أن نكون نحن القضية ونحن التغيير. سنغير قــبــح هــــذا الـــعـــا­لـــم إلــــى حـــدائـــ­ق عــــدل وحــريــة وإنــســان­ــيــة، نــعــم، سـنـغـيـر الـــعـــا­لـــم، نـحـن من نعتنا الصهيوني بـ «الحيوانات البشرية». ■ شخصية إبـداعـيـة مـقـاومـة مـن املــاضــي تودين لقاءها، وماذا ستقولني لها؟ فـي هــذا الـظـرف االستثنائي، أود لـقـاء ناجي الــــعـــ­ـلــــي وســــــأق­ــــــول لـــــــه: دفـــــعــ­ـــت حــــيــــ­اتــــك ثــمــن رســــومــ­ــاتــــك وغـــــــز­ة تـــدفـــع حـــيـــاة اآلالف ثــمــن الـــحـــر­يـــة. قــتــلــك الــــرصــ­ــاص يـــا نـــاجـــي وبـقـيـت رسوماتك الساخرة، وغــزة تباد لكنها ثابتة

َُ وسـتـبـقـى. آه يــا نــاجــي، لــو كــنــت حــيــا ورأيـــت كـــل مـــا يــجــري فـــي أطـــفـــا­ل غـــــزة، هـــل سيلتفت «حنظلة» لنا؟ وماذا عساك ترسم على وجهه، دمعة أم ابتسامة؟ سترسم األمل يا ناجي، أنا متأكدة أنك سترسم األمل.

■ كلمة تقولينها للناس في غزة؟

أبشروا، لقد أصبح كل العالم فلسطني، أنتم طوفان العزة والنخوة واملستحيل والشرف والنصر إن شاء الله، إن وعد الله حق.

■ كلمة تقولينها لإلنسان العربي في كل مكان؟ كن أنت العروبة، الثورة، الطوفان، ال تتسول حـــريـــت­ـــك وكــــرامـ­ـــتــــك مــــن أحـــــــد، وال تـنـتـظـر رخـــصـــة أو إشــــــار­ة لــتــكــو­ن اإلنــــسـ­ـــان الـــذي يـــجـــُب أن يـــكـــون: الـــســـا­لم والــــحــ­ــّب والــقــلـ­ـم، وإذا اغــتــصــ­بــوا أرضـــــك وعــــرضــ­ــك: الـسـيـف والغضب.

■ حـني سئلت الطفلة الجريحة داريـــن البياع التي فقدت معظم أفراد عائلتها في العدوان، ماذا تريدين من العالم، أجابت «رسالتي للناس إذا بيحبوا دارين يكتبوا لي رسالة أو أي إشي».. ماذا تقولني لدارين وألطفال فلسطني؟ أحبك دارين، أحبكم أطفالي، ليتني أستطيع أن أكــــون لــكــم األم، األخـــــت، الـصـديـقـ­ة الـتـي تسحبك من يدك نركض معا خلف الفرح في

األزقة والساحات وفي األقصى، ليتني أكون

ُّ الــدمــيـ­ـة الــتــي ضــاعــت بـــن شـظـيـة وقـذيـفـة، ليتني أستطيع أن أكـون سماء تمطر خبزًا وحلوى وماء ودواء، وشجرة زيتون وزعترًا وفرحًا وبهاء، ليتني أستطيع أن أكون رعدًا يــحــول صـراخـكـم إلــى غـنـاء، وغضبًا يـمـزق األكفان ويهديكم للعيدَ لعبةّ وأجمل كساء. ليتني أستطيع أن أكون الجدة ، حن يأتي

َّ املساء، أضع على النار قدر الحساء، آخذكم إلــى أحضاني وأقـــص عليكم قـصـة األمـيـرة داريـــــن الــتــي أحــبــهــ­ا املـــايــ­ـن، وكــيــف ينبت عـبـق الــوطــن والـصـمـود بــن أصــابــع أطـفـال فلسطن، فـيـتـحـول­ـون مــن أطــفــال الـحـجـارة إلى مجاهدين. صغيرتي دارين، أطفالي في غـــزة، لـو تعلمون كـم أحـبـكـم، أهـديـكـم قلبي فتعالوا إلى روحي تضمكم.

 ?? ?? ليلى طوبال
ليلى طوبال
 ?? ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Qatar