مابعد المطر
في عشايانا الماطرة ننقسم، إخوتي وأنا، إلى ثلاث فرق. إحداها تلقف أمي (الفرت)، تغطي السطح لنتقي فوضى المطر، وننعم بنوم هانئ لا ينغصه صوت (القاطر) في (الصحاف) المرصوصة في (الخلوة) و(الدار القاصية)، وفرقة أخرى يقوم بها الصغار، يبعدون حطب (القرض) عن المطر حتى نتمكن من إشعاله في اليوم التالي، والفرقة الأخيرة تتولى مساعدة أبي في الاعتناء بالغنم، تسير بنا عشيتنا الممتلئة بتناقضات كثيرة، برودة الطقس، ودفء العلاقة الأسرية، تواضع الحياة التي نعيشها، وشبعنا من التفاصيل الغنية المبهحة التي تمر في يومنا الماطر. أذكر ذات مطر، امتلأ بيتنا القديم بالماء المتسرب من بين (الجراع) المرصوص في السقف، كان أكثر ما يهمني حقيبتي المدرسية تحديدا دفاتري، فالكتب سأجد بديلا لها من المدرسة، لكن الدفاتر كانت مصدر قوة وفخر لعنايتي بخطي، واهتمامي بتزيين الدفتر، حتى أحصل على (ممتاز) وتلك النجمات الثلاث بالقلم الأحمر، وأحيانا لي فيها مآرب أخرى. فقد يتكرم أحدهم ممن يأتي لمساعدة أبي ببناء الجدران، بطلبها وتأملها وامتداحها، وبالتالي فمن يراها من هؤلاء يعجبه خطي فيكافئني بمبلغ لا يزيد عن عشرين ريالا، يحفزني لعناية أخرى واهتمام مضاعف. هذه المظاهر المثقلة بمشاعر الحب بين كل أفراد القرية، هي الآن حلمي في قريتنا الثقافية الكبيرة. وليت كل أفراد مؤسسة ثقافية ينقسمون إلى فرق ثلاث أو أقل أو أكثر، بعيدا عن التحزبات والتكتلات غير المجدية. ليتنا نؤمن أن العمل الثقافي عمل جمعي لا فردي، أي لا يقبل ولا يحتمل أن يتخذه أحدنا ميدان منافسة وسلما تسلق على حساب الكيان الثقافي ومصلحته العامة. المنافسة تكون بالإبداع الفردي أو بين المؤسسة والأخرى، ومن ضمن ما تمنيته أن يبقى معي من ذكريات قريتي ومظاهرها التي اختفت مع دفاتري، تمنيت أن أجد أولئك المحفزين بين أئمة الثقافة وبُناتها، كبارنا الذين سبقونا إلى محراب الإبداع وأخذوا بتلابيب المجد الثقافي والأدبي، ليتهم يزينون لنا ما كانوا عليه، وينظرون لنا على أننا صالحون لإكمال مسيرتهم، ويكافئوننا بالتحفيز والثقة ليس كما أرى، وأحبطني أغلب الرواد، يرون أن زمن الثقافة والأدب انتهى بخروجهم من الدائرة، ينظرون لزمنهم على أنه العصر الذهبي، وزمننا معدن رخيص لا قيمة له، وكم أتمنى أن تعود تلك العشايا الماطرة لتوحد صفنا!
للتواصل أرسل SMS إلى: 815139 جوال 615665 موبايلي – 716262 زين بها رقم 291 ثم مسافة ثم رسالتك
kfa@alwatan.com.sa