Al-Watan (Saudi)

مرام مكَّاوي

موقف العرب من الرئيس التركي محير بالفعل فهناك من يراه المهدي المنتظر في مقابل من يعتقد على ما يبدو بأنه المسيح الدجال

- Maram@alwatan.com.sa

في أوقات الراحة والدعة يدعي كثير منا تمسكه بالمبادئ السامية والقيم النبيلة، لكنها الأوقات الصعبة والأحداث الجسيمة هي التي تضعنا في مواجهة حقيقية مع هذه الأسس التي ألزمنا أنفسنا بها. بحسب ويكبيديا العربية فإن المبدأ هو: "النقطة الأولى التي ينطلق منها تفكير الإنسان، ومنها يمكن تحديد ما هو الصواب والخطأ. وبالتالي يمكن للإنسان أن يتخذ قراره وفقا لما توصل إليه من نتائج، وطبقا لمدى تمسكه وإيمانه بضرورة تنفيذ ما لا يتعارض مع مبدئه"، فهل مجتمعاتنا العربية بصفة عامة، ومثقفونا بصفة خاصة، ملتزمون بمبادئ لا يحيدون عنها أم أن مجرد حضور الهوى كفيل بنسف هذه المبادئ؟

لنأخذ الأحداث التركية الأخيرة، أي الانقلاب العسكري الفاشل الذي كاد يهز المنطقة بأسرها وليس الجمهورية التركية وحدها، سنجد أن المبدأ والمنطق والشرع يرفضون الخروج على الحاكم، خاصة أن الحكم ديمقراطي والرجل منتخب، ويرفضون الإخلال بالأمن، ونشر الفوضى والانقسام، وإعطاء فراغ في السلطة يمكن أن يستغل من قبل الجماعات الإرهابية. لذلك كان يفترض أن تكون ردود الأفعال في الإعلام العربي الرسمي والشعبي متقاربة ورافضة، لكن للأسف كان ذلك أبعد ما يكون عن الواقع. فقد وجدنا تطرفا على أقصى نقيضين: فهناك من اعتبر الانقلاب فتحا من الله وهلل وكبر له قبل أن يخيب أمله لاحقا بالكيفية التي انتهى إليها، وهناك من اعتبره في الطرف المقابل إشارة السماء إلى عظمة الحكومة التركية وقائدها. والسبب في هذين الموقفين المتناقضين هو أنهما بنيا بشكل أساسي استنادا على المشاعر من الرئيس التركي: رجب طيب إردوغان.

موقف "العرب" من الرئيس "التركي" محير بالفعل! فهناك من يراه المهدي المنتظر في مقابل من يعتقد على ما يبدو بأنه المسيح الدجال! أحدهم يراه أقرب ما يكون لخليفة المسلمين في العصر الحالي، وسيحاولون تبرير ما لا يبرر له من مواقف سياسية أو شخصية، وهي المواقف ذاتها التي لا يقبلونها من حكومات بلدانهم العربية. وآخر العكس تماما، فيراه منافقا متآمرا على الأمة لتحقيق أغراض حزبية ضيقة، أو زعامة غير مستحقة للعالم الإسلامي، أو بسط نفوذ توسعي تقوده أحلام الخلافة العثمانية. وينسفون أي إنجاز سياسي أو اقتصادي ملموس للرجل على أرض الواقع. ويتناسى كلا الفريقين أن السيد إردوغان في البداية والنهاية رئيس للجمهورية التركية، وقد وصل إلى السلطة بأصوات الناخبين الأتراك القادرين على عزله في الانتخابات المقبلة فيما لو شعروا بأنه لا يلبي متطلباتهم المحلية التي يريدها كل شعب: عدالة اجتماعية وحقوق إنسان واقتصاد قوي ونهضة في التعليم والصحة والصناعة، وغيرها من قطاعات الدولة الحيوية.

السؤال هنا: ما الدوافع التي تحرك كلا الفريقين وأدت إلى هذه المشاعر المتناقضة بين الحب الجارف والكره العميق؟

بالنسبة لفريق المحبين فلعله اليأس من الأوضاع التي آلت إليها الأمور في المنطقة بعد 5 أعوام من الكابوس العربي، وكذلك الأمل القديم الجديد بأن حال الأمة لا ينصلح إلا بفرد لديه عصا سحرية يحقق بها المعجزات ويعيد لها عزتها وكرامتها. هؤلاء ضحايا كتب التاريخ العربية التي لا تتحدث إلا عن الأفراد الأبطال مثل صلاح الدين الأيوبي والسلطان محمد الفاتح وغيرهما. لا تتحدث عمن ساعدهم ودعمهم، ولا عن أمة ناهضة يقوم كل فرد فيها بواجبه في بناء الحضارة وصناعة التاريخ. هؤلاء أعجبوا سابقا بسفاحين وديكتاتوري­ين وصلوا للحكم بانقلابات عسكرية، ويبدو أنهم لم يتعلموا شيئا من الخيبات المتوالية والكوارث الكونية التي تسبب بها هؤلاء، فهم يحتاجون جرعة وعي للعودة للواقع.

أما فرق الكارهين فحالهم أكثر سوءا، لأن هؤلاء مصابون بمتلازمة "الإخوان المسلمون" الذين يعتبرون بأن الرئيس التركي ينتمي لها. هؤلاء يلمحون أشباح الإخوان وفكرهم في كواكب الفضاء ونجوم السماء وقيعان المحيطات! يكفي أن تختلف معهم في موقف سياسي أو فكري حتى تأتيك التهمة المعلبة: "إخواني!". وبالرغم من أن حركة الإخوان قد تلقت أقوى الضربات في تاريخها في مصر عقر دارها، فرئيسها المنتخب محكوم بالمؤبد، ومرشدها في السجن مع جل قيادتها، وتم تجريم الحزب والانتماء إليه في الكثير من الدول العربية، وبات الجميع يحاول النأي بنفسه عنها، ومع ذلك فإن الجماعة لا توال تشكل فزاعة للكثيرين بشكل يستدعي ربما الذهاب إلى طبيب نفسي. بعض هؤلاء مستعدون أن يجدوا خيرا في أفعال نتنياهو، وأن يمتدحوا ديمقراطية الكيان الصهيوني، ولكنهم لا يستطيعون فعل الشيء نفسه مع أي حزب إسلامي يصل للسلطة ويحقق نجاحات سياسية أو اجتماعية.

ما حصل في تركيا قبل عدة أيام واضح، ولا يفترض أن يختلف عليه صاحب مبدأ، الديمقراطي­ة -في الدول التي اختارتها طريقها- هي اختيار الشعب، والانقلابا­ت العسكرية، في الشرق والغرب، عليها هي انقلاب على الشرعية وعلى خيار الشعب، وبغض النظر عمن يجلس في سدة الحكم ومن يقود الانقلاب، فهي خطأ لا يأتي بخير إلا في حالات نادرة جدا. فالعسكر لم يخلقوا للحكم ولا يجيدونه، وسيذكر التاريخ الرئيس السوداني عبدالرحمن سوار الذهب كأشرف رئيس عسكري، فقد تولى الحكم حين لزم الأمر لكنه سرعان ما سلم السلطة مختارا بعد ذلك بعام إلى الرئيس المنتخب، هنا رئيس وطني حقيقي وعسكري شجاع يعرف أن مكانه ليس على كرسي الحكم.

وإذا كانت الانقلابات العسكرية بصفة عامة مذمومة، فهي في الحالة التركية أشد ذما، لأنه لا مبرر لها داخليا أو خارجيا، فداخليا إنجازات الرئيس إردوغان وحزبه تتحدث بالأرقام وبدون دعاية عن النقلة التي صنعت في تركيا في هذا العهد، وخارجيا وجود دولة تركية قوية ومستقرة بقيادة حكومة معتدلة ضرورة لمواجهات الدول المشاغبة في المنطقة كسورية وإيران والعراق، وأيضا جماعات الذبح والحرق والنحر والسبي كداعش. هذه الأسباب هي التي جعلت الأغلبية الساحقة من العرب يرفضون الانقلاب ويفرحون لدحره، ولذلك من المعيب أن نجد من يتهم هؤلاء المواطنين الشرفاء بأنهم طابور خامس، أو بأنهم يوالون غير بلدانهم، أو يعترضون أصلا على متابعتهم للشأن التركي!

كل الأمور تتغير، ولكن المبادئ هي التي يجب أن تثبت، فهي الظل الوحيد في صحراء هائلة ستشعر بالأمان وأنت تحتمي فيه حينما تسود الفوضى واللامنطق، وقد تكون وحيدا هناك، وحيدا جدا، لكنك ستكون قد خسرت العالم وكسبت نفسك.

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia