Al-Watan (Saudi)

لماذا تسعى إسرائيل لربط نفسها بالمملكة

-

أحد أهم النقاط التي مثلت جوهر المشروع الفكري للمفكر الراحل عبدالوهاب المسيري هي هدم نظرية المؤامرة اليهودية العالمية ذات السياق التاريخي الممتد، وهو بهذا الهدم يعيد قدرة الفعل للعرب كجماعة على عكس من كونهم مجرد مفعول بهم، فالقوة النفسية لنظرية المؤامرة هي تمكنها من نزع قدرة الفعل لدى الإنسان، من خلال توليد إيمان لديه بأن الأحداث من حوله مدبرة بشكل مسبق، وتقف خلفها جماعات وقوى خفية. استندت هذه النظريات بشكل كبير على دور اليهود في المجتمعات التي عاشوا فيها، لكن المسيري ومن خلال مشروعه، يوضح كيف أن وضع اليهود كأقلية بين الأمم التي عاشوا بينها فرض عليهم التحول لما أسماه "الجماعات الوظيفية"، أي تلك التي تضطلع بدور وظيفي معين في المجتمع، وهو غالبا دور منبوذ من الأغلبية، وعليه اضطلع كثير من اليهود في المجتمعات الأوروبية بالوظائف المنبوذة أخلاقيا واجتماعيا، مثل الربا والقمار والدعارة وغيرها، ومع الوقت باتت جزءا من تخصصهم ونجاحهم ومصدر قوتهم كجماعة. ما يكشفه المسيري هو أنه ليس لليهود أي قوة خارقة تميزهم عن غيرهم من الجماعات الإنسانية، سوى أنهم قاموا بتوظيف ظروفهم بالشكل الملائم، وأن ما يتأوله الكثيرون على أنه مؤامرة يهودية – صهيونية كونية ليس إلا وهم العاجز (يمكن العودة لكتاب المسيري: اليد الخفية وهو يلخص بشكل جيد أفكاره في هذا المجال).

عندما أطلق ثيودور هرتزل مشروعه الصهيوني، كان يسعى لتحرير اليهود من دورهم كجماعة وظيفية بين الأمم من خلال إنشاء دولة قومية على غرار الدول الأوروبية التي عاش اليهود أنفسهم بينها، دون أن يكونوا جزءا أصيلا منها أو يندمجوا فيها كجماعة. لكن من سخرية القدر أنه بعد 65 عاما من إنشاء دولة إسرائيل، التي أريد لها أن تحرر اليهود من هذا الدور، نجد أن إسرائيل نفسها تحولت إلى "دولة وظيفية"، كونها وعلى ذات الغرار دولة أقلية بين أمة دول ليست جزءا أصيلا منها أو قادرة على الاندماج فيها. ومن هذا المنطلق يمكن لنا أن نفسر الكثير من السياسات الإسرائيلي­ة الأخيرة في المنطقة.

خلال الأعوام الثلاثة الماضية ارتفعت وتيرة النبرة الإسرائيلي­ة القائلة بوجود تحالف خليجي – إسرائيلي (الأهم فيه هو السعودية)، وتعاون أمني لمواجهة إيران في المنطقة، وأن مصالح الدول الخليجية باتت متطابقة مع إسرائيل في المنطقة، يضاف إلى ذلك كون إسرائيل تتمتع بمعاهدتي سلام مع مصر والأردن، وهما دولتان حليفتان للدول الخليجية. كما ازدادت نسبة التعليقات الغربية الإعلامية على هذا الأمر، وبات النغمة المستساغة هي التحالف بين إسرائيل والدول السنية العربية. وواقع الأمر أنه ليس هناك دول سنية عربية ودول شيعية عربية، هناك دول عربية فقط، والدولة الشيعية الوحيدة في المنطقة هي إيران. محاولات الإعلام الغربي والإسرائيل­ي من صحافة ومراكز تفكير لدفع هذا الإطار النظري paradigm)( هي محاولة لفرض واقع غير موجود على الأرض وتسويقه حتى ينطبع في الأذهان على أنه الحقيقة، ويعكس هذا الأمر بشكل كبير حالة الحصار الجيو-سياسي التي يعاني منها الإسرائيلي­ون في المنطقة.

التغير الأكبر الذي تواجهه إسرائيل جيو-سياسيا هو تحولها لدولة هامشية في المنطقة وتوازناتها الناشئة عن صراعاتها. وإذا كانت إسرائيل لا تزال عسكريا بالقوة التي تجعلها لاعبا رئيسيا فإن دورها السياسي إقليميا انتهى، فرص دخولها في حرب كبرى في المنطقة تكاد تكون معدومة راهنا، وتقاطعاتها مع الصراع الإقليمي هامشية. حروب إسرائيل في العقدين الماضيين كانت صغيرة وضد جماعات، ووضعها ضمن محور التوازنات الإقليمي بين السعودية وإيران وتركيا لا يضيف أو ينقص من أي طرف. دول المنطقة الداخلة في صراع التوازنات تعي ذلك، وإسرائيل نفسها تحاول الفكاك من هذه المعضلة، بمحاولة التسويق لوجود تحالف بينها وبين أحد الأطراف. والورقة التي تعتمد عليها إسرائيل في هذا الأمر هي قدراتها التكنولوجي­ة استخباراتي­ا وعسكريا "التجسس والتحليل والبرامج التقنية"، ومن خلال هذه الورقة تتحول إسرائيل لمجرد دولة وظيفية تقوم بالدور الخفي الذي تريد دول أن تترفع عنه، فالمرابي اليهودي الأوروبي الذي كان في القرن الثامن عشر يقدم خدماته نيابة عمن لا يريدون الظهور أمام الناس تحول اليوم للإسرائيلي الذي يمكن له فك شفرات أجهزة آبل أو القيام بمهام التجسس كوكيل عن آخرين لا يريدون القيام بذلك بأنفسهم.

إسرائيل معزولة جيو-سياسيا وتسعى لفك عزلتها بالتحرك في كل الاتجاهات، أعادت علاقاتها مع تركيا وتحركت في منطقة الشرق الإفريقي وتغازل دول الخليج، وهي تعي أن دورها الوظيفي للولايات المتحدة يتراجع هذا الوضع على إسرائيل ليست مرتفعة، فهي من جهة تأقلمت بشكل كبير مع حالة الحرب المحدودة التي تشن عليها من فترة لفترة، وانسحابها الأحادي من غزة - على سبيل المثال - دليل على فكرة تأقلمها مع رسم حدود يمكن لها التعايش معها، ومن جهة أخرى لم تتوسع دعوات المقاطعة الاقتصادية ضدها بالشكل الذي يجبرها على تغيير مسار سياساتها، ففي مقابل مقاطعة منتجات المستوطنات الزراعية في أوروبا - على سبيل المثال - تتوسع مبيعات السلاح

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia