Al-Watan (Saudi)

الغموض في الكتابة نستطيع أن نخفف على بعضنا توتر العلاقات من خلال الحد من العنف الهوياتي. من خلال الاعتراف بهويات الآخرين وتميزها واستحقاقها للفرادة، حتى وإن لم تسعفنا علاقتنا معهم في اكتشاف ذلك

-

استمتعنا الأسبوع الماضي بمحاضرة مهمة للدكتور سعد البازعي، بعنوان "الفلسفة بين السطور". المحاضرة كانت مشغولة بتأثير أحوال حرية التعبير على كتابة الفلاسفة، وكيف ألجأتهم القيود على الكتابة بشكل غامض لتمرير ما يريدون من أفكار دون أن تطالهم يد الرقيب. أطروحة البازعي تمتد لمناقشة كيفية فهم وقراءة الفلسفة أخذا بعين الاعتبار تلك الحقيقة التاريخية. الأستاذ شايع الوقيان له أطروحات مهمة في تصنيف الغموض في الكتابة، باعتباره ناتجا أحيانا عن موضوع الكتابة ذاته، وأحيانا من أسلوب الكتابة، وأحيانا بسبب التكلف أو عجز الكاتب عن التعبير عن ذاته. كل هذه تحليلات أساسية في فهم قضية الغموض في الكتابة، وسأحاول في هذا المقال الحديث عن عامل مهم آخر، أرى أنه يقف خلف الغموض في الكتابة ولو أحيانا. هذا العامل سأسميه الدافع النفسي خلف الغموض. هذا الدافع مرتبط بصراع الفرد لتشكيل هويته الذاتية، هو صراع نفسي اجتماعي سأحاول شرحه من خلال المثال التالي:

في شتاء حائلي قارس توجهت إلى مكتب صحيفة "الرياض" في البرج الشهير وسط مدينة حائل. كان الأستاذ فهد السلمان مدير مكتب الجريدة في حائل يفتح مكتبه للزوار بعد المغرب، ليتحول مكتبه إلى صالون ثقافي له رواده ومحبوه. ناولت الأستاذ السلمان بعض التأملات التي كتبتها أملا في أن يساعدني على نشرها في الجريدة. قبل أن يبعثها بالفاكس لمكتب الرياض قرأ السلمان ما كتبته بهدوء من جهته وترقب من جهتي. بعد أن انتهى السلمان من القراءة وضع الورقة في جهاز الفاكس استعدادا لإرسالها وأخبرني: لم أفهم شيئا مما في الورقة يا عبدالله، لكني سأرسلها على كل حال. ردة فعلي تجاه عبارة السلمان هي ما أريد تأمله هنا. أبهجتني عبارة السلمان. تفسيري لتلك البهجة هو التالي: إذا كان الكاتب القدير السلمان لم يفهم ما كتبت فهذا يعني أن كتابتي عالية الجودة لدرجة تتجاوز حدود الكتابة العادية. كتابتي استثنائية وخاصة، لدرجة أنه لا يمكن فهمها بشكل سريع. ربما تشبه كتاباتي تلك العبارات التي أعجز عن فهمها شخصيا في الكتب. لم يذهب تفكيري إلى الاتجاه المعاكس للاعتقاد بأن الغموض علامة على رداءة الكتابة. الغموض كان علامة على التميز والفرادة في ذهني. حين أكتب ما هو غامض فهذا يعني أن لدي ما هو عسير على الآخرين الوصول إليه.

إذا حاولنا تحليل المثال السابق من خلال علاقة الذات بالآخر فإننا يمكن أن نقول إن الغموض يبدو كعلامة تميز للذات على الآخر، باعتبار أن الذات تملك ما لا يمكن للآخر الوصول إليه. لكن لماذا يبدو انغلاق الـذات على الآخر بهذه الدلالة؟ أعني لماذا تبدو فكرة امتلاكي ما لا يملك الآخر ذات جاذبية؟ يمكن الجواب على هذا السؤال بالإحالة على تصورات كثيرة عن طبيعة الإنسان باعتباره كائنا أنانيا، لكنني سأحاول التفكير في السؤال من منظور العلاقات الاجتماعية. أطروحتي كالتالي: في البيئات التي تتم فيها منازعة الآخرين في هوياتهم تنتج ردود فعل حادة لتشكيل الهوية. أقصد في المجتمعات التي تقوم العلاقات الاجتماعية على عدم احترام فرادة الإنسان يلجأ الناس لإظهار فرادتهم بأشكال حادة. إذا أردنا استخدام هذا المعنى في تفسير مثالنا أعلاه فإن القصة تبدو كالتالي: في بيئة اجتماعية وتعليمية لم تحترم هويتي الشخصية، بمعنى أن المعلمين في المدرسة مثلا لم يعطوا اعتبارا ولا اهتماما بما كنت أفكر فيه أو اعتقده، تولدت رغبة شخصية لإنقاذ هويتي الشخصية من خلال الاعتقاد بوجود تميز ذاتي لا يستطيع أغلب الآخرين الوصول إليه. بعبارة أخرى كأنني أقول للمجتمع الذي يعتقد أنه لا قيمة لما يميزني شخصيا أنه غير قادر على الوصول لما أمتلك. العيب فيهم وليس فيّ وإذا لم يستطيعوا فهمي فهي مشكلتهم وليست مشكلتي. الغموض هنا تذكير على تفاوت المكانة بيننا وتذكير بأن المعادلة القديمة تم تجاوزها إلى نقيضها.

إذا كان هذا التفسير دقيقا وواقعيا فإن السؤال التالي يتبع: هل تنتهي هذه الحالة مع تقدم الكاتب في العمر، وحصوله على اعتراف اجتماعي؟ أعتقد أن هذا هو المتوقع، لكن لننتبه للتالي: التقدم في العمر بحد ذاته لا يكفي. لا بد أن تستقر هوية الشخص إلى درجة معينة، بحيث يتوقف عن الاعتقاد بأن وجوده قائم على طمس الآخرين، وأن ذكاءه يحضر بكشف غباء غيره، أو أن نصه يمتلك قيمته بانغلاقه على الآخرين. مما نشاهده في الواقع يمكن القول إن تحقق هذا مربوط بقضايا معقدة، لذا تجد شخصيات نالت من النجاح والشهرة الكثير، ولكنها لا تزال حادة في علاقتها مع الآخرين ومع آرائهم. لكن الذي نستطيع فعله هو أن نخفف على بعضنا توتر العلاقات من خلال الحد من العنف الهوياتي. من خلال الاعتراف بهويات الآخرين وتميزها واستحقاقها للفرادة، حتى وإن لم تسعفنا علاقتنا معهم في اكتشاف ذلك. كمعلمات ومعلمين يمكن أن نساعد طالباتنا وطلابنا بأن يكونوا أكثر أمانا واستقرارا على ذواتهم، من خلال استضافتنا لما هو مختلف وغريب ومفاجئ فيهم. حينها سيكون الانفتاح على الآخر والتواصل معه ووضوح تعبيراتنا له هو الهدف. الآخر هنا لم يعد تهديدا يجب الاحتماء منه بالتعابير الغامضة. هنا يكون الغموض تعبيرا عن الخوف والقلق، والوضوح تعبيرا عن الأمان والاستقرار.

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia