Al-Watan (Saudi)

الباحث المستجد ولقاء أصحاب المعالي نادية الشهراني

- Nalshahran­i@alwatan.com.sa

خلال السنة الأولى من برامج الدكتوراه في أغلب الجامعات العريقة يحضر الباحثون برنامجا تحضيريا مكثفا لإعدادهم وشحذ مهاراتهم. يتعرف الباحث المستجد خلال هذه السنة على فلسفة البحث وتصميمه وأدواته وتفاصيل أخرى تساعده على اجتياز السنة الأولى بسلام، وتعزز ثقته بنفسه، وتجوِّد مهاراته، كما تعدّه جيدا لوظيفته الأهم وهي البحث العلمي.

يفرِد المشرفون على مثل هذه البرامج ساعات مهمة لتعليم الباحث أبجديات البحث، ومنها على سبيل المثال اختيار المراجع المناسبة للدراسة. يتعلم الباحث مثلا الفرق بين الدراسة التي يعتّد بها والدراسة التي لا يصح الاعتماد عليها، ويعتبر عامل الزمن من العوامل المهمة جدا في الحكم على الدراسة. في بعض المجالات كالعلوم الإنسانية أو الإدارية تعتبر الدراسة التي تجاوز عمرها 7 سنوات دراسة قديمة. لبعض الباحثين في هذا قول معروف وهو "إذا لم تجد دراسات حديثة تناقش موضوعك، فإما أن موضوعك ميت أو أنت ميت"، وما لجرحٍ بميّتٍ إيلامُ كما يقال. من ضمن الشروط المهمة لاختيار الدراسة كذلك موثوقيتها، فلا يصح في مجتمع البحث العلمي أن يستخدم الباحث دراسة غير مؤصلة لدعم مشكلته البحثية أو لتبرير نتائجه، فالغاية هنا لا تبرر الوسيلة.

من ضمن المهارات المهمة التي نتعلمها كذلك مهارة تحديد العينة، إذ لابد من معرفة المجتمع الأصلي للدراسة، وتحديد حجم العينة، وتوضيح طريقة اختيار العينة، والهدف من اختيار هذه الطريقة دون غيرها. لن يقبل منك المشرف مثلا عينة عشوائية لمشكلة بحثية تستدعي عينة طبقية أو عنقودية، لأن صحة اختيار العينة شرط من شروط نجاح الدراسة. فمن غير المنطقي على سبيل المثال أن أختبر دراسة عن التعليم الابتدائي في مؤسسة تجارية كالعثيم أو صافولا..

تعتبر الأمانة العلمية والمصداقية كذلك من أهم مكونات شخصية الباحث، فلا يصح مثلا أن يلوي الباحث عنق النتائج، سواء بإخفاء بعضها أو تغيير ما لا يناسبه بالزيادة أو النقصان للتأثير على النتائج، فالباحث بمثل هذا الفعل غير الأخلاقي لا يهدِّد مصداقيته أو مصداقية بحثه فقط، بل يؤثر على مجتمع بحثي كامل، لأن شركاءه في المجتمع العلمي سيبنون برامجهم المستقبلية على نتائجه المغلوطة دون علم. صحيح أن المجتمع العلمي سيكتشف ما قام به الباحث عاجلا أو آجلا، لكن التزام المصداقية من البداية أولى وأشرف لكل من ينتمي لعالم الباحثين.

نتعلّم في هذه البرامج كذلك خطورة التعميم، فالمشكلة البحثية غالبا تناقش حدثا معينا في مكان معين ومجتمع معين، تحت شروط وظروف معينة. وكباحث تدرك تماما أن التعميم عدو الفهم السليم.

من أجمل نتائج مثل هذه البرامج تنامي مهارة التفكير الناقد عند الباحث، إذ يدخل أغلب الباحثين لمثل هذه البرامج وهم مستعدون لتصديق أي شيء. أغلبهم تتلخص مهارتهم الأقوى في مهارة هزّ رؤوسهم بالموافقة للأعلى صوتا والأقدر على الإقناع، لكن مع توالي النقاشات العلمية يقل عدد الرؤوس المهتزة ويزداد عدد الأيدي المرتفعة بالتساؤلات والاقتراحا­ت والاعتراضا­ت. قال لنا أحد المدربين مرة نقلا عن الفيلسوف النمساوي ‪Karl Popper‬ "لن تتعلم شيئا ذا قيمة ما دمت تصرّ على تعطيل ملكة النقد لما تعتبره من المسلمات في مجالك".

بالقياس على ما قرأت، اسأل نفسك الأسئلة التالية:

١- هل تنطبق شروط اختيار المراجع العلمية على الدراسات التي استشهد بها أصحاب المعالي ليصفنا أحدهم بالكسل، ويصرّح الآخر بأننا على وشك الإفلاس "مع التنويه بشجاعته على تقديم الاعتذار"، الأمر الذي أدى لظهورنا على الصفحات الأولى للصحف العالمية كشعب كسول في وطن على وشك الإفلاس؟

٢- صرّح نائب وزير التخطيط بأن التوسع في بعض المشاريع ترف، ثم قَبِل إشارة الشريان للجامعات الجديدة على أنها ترف، هل التعليم الذي يعلِّمنا مثل هذه المهارات المعرفية ترف؟

٣- هل للمجتمع حق المطالبة بمحاسبة وزارة التخطيط على فشل المشاريع السابقة؟ باعتبار أن فشل المشاريع هو نتيجة فشل التخطيط، وهي الجهة الأعلى للتخطيط في الحكومة؟

٤- ومستقبلا: هل للمجتمع حق المطالبة بمحاسبة الشخصيات الاعتبارية على التصريحات غير المحسوبة والتي ربما تسيء إلى الوطن والمواطن؟

يمكننا أن نضيف لهذه الأسئلة الكثير، فهذا اللقاء هو المشكلة البحثية للمجتمع السعودي حاليا. مناقشة هذا اللقاء يجب أن تتم بواقعية وموضوعية وإنصاف واستعداد لتقبل جميع الاحتمالات مع إخضاع ما ورد فيه لمعايير النزاهة والمصداقية والشفافية. وعلى المتحدث -أيا كان- ألا يتوقع مرورا سهلا لتصريحاته وعباراته، سواء داخل الوطن أو خارجه، فالعالم اليوم يتكلم فقط بلغة العلم والأرقام، أما عبارة "أثبتت الدراسات" فلم تعد مجدية.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia