Al-Watan (Saudi)

الزهد بخلا

-

بعيدا عن القضايا المهمة التي تتعب رقباء التحرير، اخترت الكتابة عن مسألة اجتماعية مُعاشة، لأرتاح، وأريح. بعد سنوات طويلة، التقيت – صدفة في أحد البنوك - بأحد زملاء الدراسة في كلية اللغة العربية بأبها، ولم أكد أعرفه إلا بعد سماع صوته؛ لأن مظهره يشي بأنه لا يكاد يجد قوت يومه، فقلت له: ما هذه »الهبلة«؟ وما هذا الشيب؟ ولماذا لا تغير هذه »الشماغ« الممزقة؟ وأنت معلم، وتملك ثلاث عمارات بها اثنتا عشرة شقة؟ فقال: المظاهر لا تهم، وهل تريد مني أن أصبح مثل النساء، فألبس في كل مناسبة »شماغا« جديدة؟ ثم حدثني عن الزهد، وسرَد عليّ بعض حكايات زهّاد العصرين الأموي والعباسي. أعرف أن صاحبي قارئ ممتاز في كتب التراث، ومعجب بالسالفين، حتى إنه يرى فيهم النماذج المثالية، لكنه انتقائي، فلا يقرأ أخبار الذين كانت تظهر عليهم مظاهر النعمة، مكتفيا بقراءة أخبار الزهاد والدراويش. عدت إلى المنزل، وقرأت عن الزينة والتزين في: »كتاب الطبقات«، و»عيون الأخبار«، و»الأغاني«، ثم كتبت إليه على »واتس أب« هذه الرسالة: العزيز أبا خالد: تميل الطبيعة البشرية إلى التزين، ويحرص الإنسان على أن يظهر بالمظهر الجميل، وليس الولع بالزينة مقصورا على النساء دون الرجال، فحسن المظهر يجعل الإنسان مقبلا على الحياة، شاعرا بالثقة في الذات، معتدّا بالنفس. الفقر قد يكون عذرا لغيرك؛ لأن الزينة والملابس الجيدة والجديدة تحتاجان إلى قدراتٍ مادية، ولذا كثرت الزينة ولبس الجديد عند الأغنياء وأهل الحواضر، وقلّت عند الفقراء وأهل البادية، ممن تقتدي بهم، ولستَ منهم، فأنت غني زادك الله من فضله، فلماذا لا تحمد الله، وتهتم بمظهرك؟ أبا خالد: تشير كتب التراث إلى شيوع أنواع من مظاهر التزين عند الرجال والنساء، فقد انتشر استعمال الخضاب عند الرجال، وهو زينة تلك العصور، وممن ذكر ابن سعد أنهم كانوا يخضبون رؤوسهم ولحاهم بالحناء محمد بن الحنفية، وعلي بن الحسين، وقد كان بعضهم يخضبون بالسواد كعمرو بن عثمان بن عفان، وكان ابن عباس يكثر استخدام الطيب، ومثله عبدالله بن الزبير ـ رضي الله عنهم ـ كما عُرف عن بعض أبناء الصحابة لبس الخواتم الفضية. نعم، كانت المرأة أكثر اهتماما بزينتها من الرجل، وقد صوّر الشعر أمثلة كثيرة لحسْن الزينة عند النساء؛ لأن الجمال بالنسبة إليهن غاية مشتركة يسعين إليها بكل الإمكانات التي أتاحتها لهن البيئة والعصر، لكن ذلك لا يعني أن التزين خاص بهنّ، ولا يعني أن الحرص على الزينة عبث بالنعمة، لأن ما قرأناه في كتب التراث عن وجود مبالغات في التزين، ناجم عن تحسن الأوضاع الاقتصادية بعد اتساع الدولة الإسلامية، مما أدى إلى شيوع بعض مظاهر الـترف فـي التزين، فقد كانـت فاطمة بنت علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ تلبس مسكا غلاظا، وكانت عائشة بنت سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ تلبس قلائد الذهب وخواتم الفضة. لم تكن الزينة مهيأة لكل من رغب فيها، وإنما كانت الإمكانات تحدّدُ شكل الزينة ونوعها، ومصدر صناعتها، وأنت قادر على أن تلبس أغلى الثياب وأجملها، وتركب أفضل السيارات، وتستمتع بما وهبك الله، فلماذا تفعل بنفسك ما تفعله؟ لم يجبني برغم أنه قرأ الرسالة، فأرسلت إليه: أبا خالد: أقسم لك بالله إنني شعرت بحزن شديد بعد أن التقيت بك اليوم. أجابني برسالة نصها: »طيب تكسيني؟«، وبعدها أيقونة وجه ضاحك. أدركت أنه يبخل على نفسه، وأن حجاجه دفاعا عن الزهد لم يكن سوى غطاء يستر به بخله، وقلت في نفسي: ليتني ارتحت، ولم أحاول إقناعك بشواهد من التراث الذي أنت مغرم به، وبشخصياته.. »إي والله ليتني ارتحت«.

tehani@awatan.com.sa

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia