Al-Watan (Saudi)

مجاهد عبدالمتعال­ي

كل ما هو ثقافي عندنا هو في حقيقته على ضفاف المتن وليس جزءا أصيلا فيه، كل كتاب ثمين في عالم الثقافة لا تعرفه مطابعنا

- Mujahed@alwatan.com.sa

الأصم الذي لا يسمع الشعر ولا الموسيقى لن يصيب حياته شيء، لكن الحياة بالشعر والموسيقى أجمل.

الأعمى الذي لا يرى منظر الغروب على البحر، أو الشروق على رؤوس التلال الخضراء، أو معروضات اللوفر العالمية أو تصاميم قصور إشبيلية في إسبانيا ومعمار جامع السلطان أحمد في تركيا عدا أهرامات مصر لن يصيب حياته شيء، لكن الحياة وأنت ترى هذه المناظر والآثار أجمل، الطفل بلا أبوين في دار الرعاية لن يصيب حياته شيء، لكن حياته في كنف أبوين ستكون أجمل.

تخيلوا المملكة العربية السعودية بدون طارق عبدالحكيم وبدون سراج عمر، بدون طلال مداح وبدون محمد عبده، بدون سعد خضر إلى ناصر القصبي، تخيلوا المملكة العربية السعودية بدون شعر محمد حسن عواد، أو بدون شعر محمد الثبيتي، بدون روايات غازي القصيبي وتركي الحمد ومحمد علوان وعبده خال، تخيلوا أننا بلا هيئة صحفيين ولا نقابة فنانين، بلا سينما ولا مسرح (بعض ما طلبت تخيله فعلا غير موجود)، تخيلوا أن بعض كتابنا بكل كبرياء مزيف يستكثر على بغداد وبيروت ودمشق والقاهرة زعامة الثقافة العربية، لأنه يستطيع شراء كل دور نشرها، وكل منتجاتها السينمائية والفنية، متناسيا عجزه في فتح معهد موسيقي عدا أن يكون هناك معهد فنون تابع (للتعليم العالي)، فكيف لو كان عندنا (دار أوبرا) مع فرقة أوركسترا سعودية تتبنى العود العربي كعمود فقري لها كما ناضل فنانو المراكز الثقافية في سبيل تعريب البيانو عبر إدخال ربع الصوت (في عام 1920 صمم معمل بلييل الفرنسي الشهير لصناعة البيانو بيانو يؤدي ربع الصوت، وكان ذلك بناء على طلب الموسيقي اللبناني وديع صبرا.... وهناك محاولة وجيهة عبدالحق مع أخويها لاستنباط بيانو شرقي أطلقت عليه اسم »قيثارة دمشق«، وقد تم عرضه في قصر اليونيسكو بباريس 19 نوفمبر 1974 برعاية الأب يوسف خوري، مدير المعهد الوطني للموسيقى في لبنان، ورئيس لجنة الإنتاج الموسيقي في المجمع العربي للموسيقى وقتئذ، وقد افتتحت وجيهة عبدالحق العرض بمعزوفات عربية تراثية، (للاستزادة راجع كتاب الموسيقى العربية وموقع العود فيها للدكتور نبيل اللو ص 154ــ155)... هل عرفتم كم هذا كثير وكبير على مقاسنا الثقافي.

كل ما هو ثقافي عندنا هو في حقيقته على ضفاف المتن وليس جزءا أصيلا فيه، كل كتاب ثمين في عالم الثقافة لا تعرفه مطابعنا، شارع المتنبي في بغداد ـ-رغم سوء الحال- قد تجد فيه من الكتب ما لن تجده في أعظم مكتباتنا الناشرة التي سقطت في لعبة أولئك الذين يؤلفون بضمانة شهرتهم لا بضمانة الإبداع في ما يكتبون، وشهرتهم تبيع لجماهيرهم لكنها عاجزة عن اصطياد قارئ واحد، فمصطلح (جماهير) في عالم الكتب لا علاقة له بمصطلح (قُرَّاء).

كل ما هو ثقافي عندنا يشبه مواسم الربيع في صحرائنا، لا يستطيع الرهان على ديمومته إلا مغامر لا يعرف تقلبات مناخ الصحراء بين ربيع فاتن، وصيف مغبر يجعل الرئة الضعيفة في خطر الاختناق، ولهذا فمواسم الهجرة الثقافية ملحوظة بأسماء معروفة تحاول امتطاء المهني والوظيفي وحتى التجاري لتكون مهاجرة (خارج الحدود)، فتعيش حياتها الثقافية بكامل أوكسجينها، دون حذلقات الممكن والمتاح التي ترى حتى في صوت فيروز بشكل علني (داخل الحدود) خرقاً لكل قوانين الفيزياء الاجتماعي، والسبب (خصاصة فكرية) وليست خصوصية عجزت عن معرفة الفرق بين أن يكون الشعب (محافظا) على فلكلور آبائه وأجداده الفني والثقافي منذ القرون العربية الأولى ليضيف إليها كل جديد ومثرٍ، وبين أن يكون (منغلقا) حتى دون تراث الآباء والأجداد في الفنون بأنواعها، ولولا الجنادرية وعكاظ كمعقل أخير لحفظ التراث والثقافة المتنوعة والثرية، لكان الانغلاق سيد الموقف تحت مسمى (المحافظة)، ولهذا فتزمت (البلد المنغلق) لا علاقة له بتقاليد (البلد المحافظ)، ومن لا يعرف الفرق سيسوق لنا بقايا فقه من جلدوا حمد الجاسر على ترخصه في لبس البنطال، ليُحرِّموا كل التفاصيل الصغيرة المبهجة في الحياة، لنعيش حياة الأصم والأعمى التي حكيت عنها في أول المقال.

حتى تاريخ كتابة هذا المقال لا أستطيع أن أدعي -كما يدعي غيري من السعوديين- أننا استلمنا الراية الثقافية من عواصم المشرق العربي القديمة على المستوى الثقافي، ربما يمكن المزايدة عليها على المستوى الأمني والاقتصادي، ولكن قدرتي الاقتصادية لشراء قلم فاخر جدا ومرصع بالجواهر، لا تعني أبدا أن خطي يتفوق مثلا على خط عباس البغدادي.

أقول كل هذا عندما صدمني مثلا تاريخ نشأة المعاهد الموسيقية في الوطن العربي، وموقعنا في هذا، وصدمني أكثر أن يكون كتاب الأغاني لأبي فرج الأصفهاني من الكتب التي حفظها التاريخ العربي من القرن الرابع الهجري، والتي تؤكد ما أشرت إليه من الفرق بين (الشعوب المحافظة) على تراثها وحضارتها وبين (الشعوب المنغلقة) لتخسر حتى تاريخها الفني والحضاري، فكيف بمن يقرأ كتاب الأغاني ولا يفهم الهدف الأصلي للكتاب في حفظ إشارات الموسيقى التي دونها الأصفهاني عن غناء (أهل الحجاز) والكوفة وبغداد ودمشق، وكيف عجزنا عن تأمل إسحاق بن إبراهيم الموصلي في القرن الثاني الهجري (أيام عز الخلافة الإسلامية) الذي كان يجالس الفقهاء والمفسرين وأهل الحديث، وله باع في هذه العلوم مع باع أطول في الموسيقى والغناء، فهل عجزنا أن نكون أهل حضارة واكتفينا بأن نكون أهل بيوت أسمنتية (منغلقة) تخاف استخدام النوافذ وتعجز عن استخدام البلكونة (الروشن/ الشرفة) إلى حد الإلغاء، وشوارع واسعة لكنها ترسب في اختبار المطر، ونشتري الأقلام الفاخرة ونكتب بخط رديء، ونشتري الساعات الثمينة ونضيع الوقت في جدال عقيم يضحك الثكلى: هل تقود المرأة السيارة أم تركب مع الليموزين؟ وهل طلال مداح أفضل من الخليفة البغدادي أم لا؟ وأخيرا يصر بعضهم على ريادتنا الثقافية وهو يطبع كتابه بالتمرير إلى النوادي الأدبية وبالتنسيق مع (دور نشر لبنانية)، أرجوكم القليل من التواضع لا يكفي، بل نحتاج الكثير والكثير كي نفيق من قراءة واقعنا الثقافي وفق قامة خلف بن هذال في (إن دندنت طبلة الحراب دندنا)، وواقعنا الفني وفق معطيات مسرح سعودي عاجز عن تجاوز تاريخ (عبدالعزيز الهزاع) في توفير (أم حديجان).

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia