Al-Watan (Saudi)

فأ ال يينحيارةوه­وحىافنؤايد­ةي إلا مىكلمةسجد الحرام، الذي لم أزره يوماً إلا وشعرت بروحانية لا يمكن وصفها، بل لا أظن أنه ليس في لغات البشر وكلماتهم ما يمكن أن يصف ما يزخر به كل شبر فيه

-

كلما طرحت على نفسي سؤالا: لماذا أزور بيت الله الحرام؟ لا أصل إلى جواب محدد، فتارةً أظنني ألوذ بهذا المكان هرباً من أكدار الحياة، وتارةً أجدني أبحث عن فترة مستقطعة ألتقط فيها أنفاسي بعد شوط طويل من الركض خلف قوت اليوم، وتارةً أخرى أراني أحاول التحرر من هموم الدنيا ومشاغلها، وحين أستعرض الأسباب تلو الأخرى أجدني لا أقتنع، فكم أتيت إلى هذا المكان وأنا مرتاح البال مطمئن لا أشكو من علة! هو الشوق إذًا واللهفة المجردة والتي لا تسبقها علل وأسباب، فإلى هذا الوادي غير ذي زرع تهوي الأفئدة، أفئدة المحتاجين والمكتفين، الأغنياء والفقراء، المهمومين والسعداء، أفئدة من مات لهم قريب ومن رزقهم الله بمولود جديد.

وهكذا أجدني كلما ابتعدت وانشغلت بالحياة وفي الحياة هوى فؤادي إلى المسجد الحرام، الذي لم أزره يوماً إلا وشعرت بروحانية لا يمكن وصفها، بل لا أظن أنه ليس في لغات البشر وكلماتهم ما يمكن أن يصف ما يزخر به كل شبر فيه، لذا وكمحاولة لتجنب الحديث عن صفة هذه الروحانية وحالها، سأتحدث عن حجم هذه الروحانية ومقدارها، ورغم إقراري بأنها مفهوم لا تنطبق عليه قوانين المادة، فلا حدود لها ولا ملامح إلا أنني في آخر زيارة تخيلتها كبالون من الممكن أن يتضخم ويتمدد، ومن الممكن أن ينكمش ويتضاءل، وهذه الفكرة على غرابتها وعدم منطقيتها إلا أنها الوحيدة التي طرأت عليّ في آخر زيارة، ففي آخر زيارة حدث أني لم أجد هذه الروحانية كما عهدتها، فقد عهدتها رحبة ممتدة لأقاصي مكة وأبعد أطرافها، لأجدها مؤخراً قد انكمشت وتجمعت داخل المسجد الحرام فقط!.

وهذا ليس حديث مسٍ وجنون، ففي الماضي حين كنت أتجه إلى مكة المكرمة أجد الطمأنينة وراحة البال والسكينة والشعور بالسلام على أطرافها البعيدة، أجد هذه الأحاسيس حتى قبل التمكن من رؤية المسجد الحرام، أما اليوم فلكي أنعم بالطمأنينة والشعور بالسلام عليّ أن أتواجد داخل المسجد الحرام! فما الذي حدث حتى جعل هذه الروحانية على رحابتها تنحسر؟ هل تقلصت؟ هل فعلاً تجري عليها قوانين المادة فتتضخم وتنكمش! لا شك عندي أن الخلل معظمه في أنا، في ضميري وتبدل قناعاتي ومفاهيمي، ربما كان الأمر عائداً إلى تكرار الزيارات، مما حوله إلى ما يشبه العادة، أو ربما الأمر يعود إلى تراكم الذنوب وتعاظم الخطايا، أو ربما لأن هموم الحياة ومشاغلها باتت قيداً ثقيلاً يصعب التخلص منه، الأسباب الداخلية كثيرة ومتعددة، لكن ماذا عن الأسباب الخارجية، ماذا عن مكة ذاتها؟.

مبدئياً، لست من المتباكين على الماضي، فقوانين التغيير ستجري على مكة كما تجري على كل المدن شئنا هذا أم أبينا، عليه فمن الطبيعي جداً ألا تكون مكة اليوم هي مكة الأمس، من الطبيعي أن تطغى المدنية وتتمدن مكة ويزدهر العمران فيها وتتطاول الأبنية، الإشكالية ليست في تمدن مكة وتطورها، إنما في ألا يكون التمدن والتطور على حساب الروحانية، فمكة بلا روحانية كجسد بلا روح، ومكة اليوم مدينة يجري تطويرها بطريقة لا تختلف كثيراً عن تطوير جدة أو الرياض أو الدمام، مشاريع ضخمة تُسهم بشكل كبير في حصر روحانية مكة المكرمة داخل المسجد الحرام.

مكة اليوم لا تختلف عن أي مدينة أخرى في أي شيء إلا في وجود المسجد الحرام، أذهب بعائلتي قاصدين بيت الله، فنمر على مولات وكباري وفنادق وأبراج والكثير الكثير من المعالم المدنية الجميلة والمطلوبة، لكن إن سألني أحد الأبناء عن التاريخ فلا أملك له إلا سرد الحكايات، سأحكي له حكايات بلا معالم واضحة، وسيأتي اليوم الذي تتحول فيه هذه الحكايات إلى مفاهيم مبهمة، والسبب هو هذا التمدن غير المحسوب، فاليوم لا أثر في مكة يدل على حدث من التاريخ، لذا سأضطر أن أحكي لابني أن في موقع هذا المول حدثت غزوة أو قصة، وتحت هذا الكبرى استشهد صحابي، وبجانب ذلك البرج أو ربما في تلك الزاوية بين هذين البرجين تمت البيعة! لا أدري ماذا سأقول لابني إلا أني سأطلب منه ألا يصدق من يخبره بأن التاريخ والآثار تعتبر بؤر بدع وشركيات.

إن التاريخ والآثار أكبر من أوهامنا ومثاليتنا الزائدة، فشجرة الحياة في البحرين والتي يزيد عمرها على الأربعمئة عام، تجبرك وأنت تتأملها أن تردد سبحان الله، ورؤية الحشود تتدافع لرؤية شعيرات النبي –عليه الصلاة والسلام- في إسطنبول أمر يدهشك ويمتعك في كل آن معا.

إن آثار مكة التاريخية تسهم في المحافظة على روحانيتها رحبة ممتدة حتى الأطراف البعيدة، بالإضافة إلى أنها تربط أبناء اليوم بتاريخهم ربطاً يهذب حتى أخلاقياتهم، كيف لا وهم يرون مآثر أولئك الأخيار ماثلة أمامهم، أما الاكتفاء بسرد الحكايات والبكاء على الأطلال فسيأتي اليوم الذي يمل فيه الناس من كثرة السرد وتجف فيه الدموع، وسيأتي اليوم أو ربما قد أتى اليوم الذي نقول فيه لمن ينشد روحانية مكة: توجه إلى المسجد الحرام ومنه إلى ساحة الطواف، هنالك ستجد الروحانية منكمشة على نفسها، كأنها تلوذ بالكعبة المشرفة تشتكي إلى الله من جور التمدن.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia