Al-Watan (Saudi)

عثمان الصيني

ربط أولوية السكن بأولوية الترفيه غير صحيح، وفي بعض الأحيان غير بريء، فالسكن بمشروعاته ووعوده وآمال الناس وآلامهم موضوع حقيقي، ولكن لا علاقة له بصناعة الترفيه

- Othman@alwatan.com.sa

حين كنا طلابا في قسم اللغة العربية بكلية الشريعة في مكة، طلب أستاذنا الدكتور ناصر الرشيد من إدارة الكلية تنظيم رحلة علمية لنا إلى نجد، للوقوف على شاعرية المكان في الشعر الجاهلي، لأنها تعين على فهم المواضع في الشعر، ولأمر ما رفضت إدارة الكلية، فخسرنا مصدرا معرفيا مهما لنا، ونحن ندرك أهمية ذلك حينما نقرأ الشروح المضحكة لبيت امرئ القيس: كأن ثبــيرا في عرانــين وبلــه

كبــير أنــاس في بجــاد مزمــل ونحن نشاهد جبل ثبير يطل علينا كل يوم عند منصرفنا من الكلية، ووقفنا عليه في متجهنا إلى غار حراء، وتخيلنا ونحن مخيمون في الوادي منظر الجبل الأشم والسيول تحف به، وكيف رآه امرؤ القيس شيخ قومه في البجاد المزمل.

وبعد التخرج، سافرنا إلى الرياض لاستكمال أوراق التعيين، وشاهدنا قبل دخولنا إليها من جهة ديراب جانبا من جبال طويق، ثم جوانب أخرى بعد ذلك من جهة طريق المزاحمية، وفهمنا وقتها بيت عمرو بن كلثوم: فأعرضـت اليمامـة واشـمخرت

كأســياف بأيــدي وبيت راكان بن حثلين: وخشـوم طويـق فوقنـا كـن وصفهـا

صقيـل السـيوف الـلي تجـدد جرودها ويطل بأذهاننا منظر جبال العارض أو عارض اليمامة كالسيوف المصلتة كلما رأينا السيوف المرفوعة في العرضة النجدية قبل أن تصبح العرضة السعودية.

واليوم، اختلف كل شيء، فالحياة غير الحياة، والنهج غير النهج، والظروف المحيطة اختلفت، وجيلنا يختلف تماما عن جيل الألفية، ولم تعد الشاعرية والمركا يصنعان لنا مكانا متقدما في هذا العالم المتلاطم، وهو أمر أدركه أبو فراس الحمداني عندما قال له الدمستق في الأسر: أنتم أصحاب كتابة وقلم ولا تعرفون الحرب، فأجابه: نحن نطأ بلادكم منذ أعوام، أكنا نطؤها بالأقلام أم بالسيوف؟ وقال قصيدته المشهورة.

ومنذ أن أعُلن عن مشروع القدية الطموح والفريد، كان الناس ما بين فَرِح مستبشر -وهم الأغلب- وبين متخوف أو حائر أو متبرم لاعتبارات تمحور أغلبها حول ثلاث نقاط هي: تأمين السكن لمحتاجيه أولى من هذا المشروع الضخم الترفيهي، ولماذا يشكل الترفيه أولوية والناس مثقلة بالديون أو ضعيفة الدخل؟، ولماذا الرياض دون باقي مناطق المملكة؟.

ومع أن هذه الأسئلة مشروعة ومن حق أصحابها أن يطرحوها، ومن حقهم أيضا أن يحصلوا على إجابات، فإن هذه الأسئلة نابعة من فكرة مسطحة عن الترفيه، وأنه مجرد نوع من اللهو وقضاء وقت الفراغ وتوسيع الصدر، وهي فكرة استقرت عند الناس منذ زمن، ثم قام بعض الناس في الفترة الأخيرة بتسييسها باسم الدين، وغرس فكرة أننا في مهد الإسلام لا يصح لنا الانصراف إلى الترفيه، متجاهلين قصدا -وهم عارفون- حديث حنظلة في صحيح مسلم حين ظن أن حديث الجنة والنار في مجلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومعافسة الأزواج والأولاد والضيعات من النفاق، فقال له الرسول: »يا حنظلة ساعة، وساعات« ثلاث مرات.

اليوم اختلف كل شيء، فبعد أن كنا نسمع عن المشاريع المليارية التي نُفذ بعضها على أكمل وجه، وبعضها يرقل، وبعضها صرْفه أكبر من نفْعه، لم نتساءل وقتها عن أهداف هذه المشاريع، وإن عرفناها لم نسمع بمن يحاسب، هل حققت أهدافها؟

ومؤشر قياس الأداء مثل العنقاء، نسمع به ولا نراه، وبعد أن كنا نعيش مرحلة المشاريع الريعية أو الأبوية، دخلنا مرحلة المشاريع التي تحقق دخلا وتصبح موردا مصلتينــا آخر بجانب البترول، لا ينضب ولا يتأثر بالاضطراب الدولي أو العرض والطلب.

ربط أولوية السكن بأولوية الترفيه غير صحيح، وفي بعض الأحيان غير بريء، فالسكن بمشروعاته ووعوده وآمال الناس وآلامهم موضوع حقيقي ولكن لا علاقة له بصناعة الترفيه، ووصلت نسبة قطاع السفر والسياحة إلى نحو 10% من قيمة الاقتصاد العالمي، ويتوقع أن يصل عدد السياح عام 2020 حول العالم إلى 1.6 مليار سائح لمسافات قريبة نسبيا غير المسافات البعيدة، وستصل نسبة النمو في الشرق الأوسط وما حوله 5%، أي أعلى من بقية المحطات التي تبلغ 4.1%، وستحظى الاقتصادات الناشئة بحصة الأسد من هذه الزيادات التي تفوق الاقتصادات المتقدمة، هذا عدا الحج والعمرة المسماة اصطلاحا بالسياحة الدينية، وهي عبادة وليست سياحة، وفي بريطانيا مثلا، التي تصل في المرتبة الثامنة عالميا في السياحة يشكل هذا القطاع 9% من إجمالي الناتج المحلي، وبلغت قيمة القطاع أكثر من 7 تريليونات ريال بين عامي 2013 ‪.2014 –‬

اليوم اختلفت الأمور، فمشروع القدية ليس ترفيها وتوسيع صدر، وإنما هو صناعة ترفيه وسياحة، ولذلك لا تقاس الأمور بأن بعضنا دخْله ضعيف وعليه ديون، فمثل هذه المشاريع تكون إيجابية في الدخول الضعيفة، فمداخيلها تحرك دورة الاقتصاد المحلي، وستكون هناك فرص عمل متوفرة للمواطنين ورجال الأعمال، وينعكس بدوره على الوطن والمواطن، والجميل في الأمر، أن المشروع أطُلق دون أن تصحبه وعود بعدد الوظائف التي يتيحها، فهناك سوابق غير جيدة في ذاكرتنا الإعلامية لمشروعات اقتصادية وسياحية لو صدقت أرقام الوظائف التي وعدت بتوفيرها آنذاك لتوظف جميع أبنائنا وأحفادنا الذين ولدوا والذين لم يولدوا بعد، والأجمل أن التركيز في المشروع كان على القطاعات ومحتويات المشروع، في أنه سيكون استثمارا منتجا وليس ريعيا.

أما لماذا الرياض؟ فهو سؤال دائري، فلو كان في جدة أو الطائف لقيل لماذا جدة أو الطائف؟ وأرى الأمر من زاويتين: الأولى أن الرؤية تضمنت أكثر من مشروع في أكثر من منطقة، بعضها أعُلن كالطائف الجديدة، أو في طور الإعداد، وربما يكون في منطقة تبوك، وبعضها ستكشف عنه الأيام.

والزاوية الثانية: نحن نحتفي دائما بدبي وإسطنبول وباريس ولندن وفيينا، ونجلد أنفسنا بأننا لسنا مثلهم، وتعتصر قلوبنا حين نرى أن ترتيب دبي في أفضل المدن في العالم الـ74، وأبو ظبي الـ79، في حين أن الرياض الـ167، وجدة الـ169، ولكن عندما نخطط لأن تدخل الرياض وجدة في قائمة المئة، يتساءل البعض: لماذا الرياض؟

اليوم اختلفت الأمور، وأصبحنا نهتم بالسياحة والترفيه بكونها صناعة ومصدر دخل متعددا، وأصبحنا نهتم بالتوطين ببرامج عملية واقعية بدأ تنفيذها فعليا وليست مجرد برامج حالمة تتزين بها الخطط الخمسية، خاصة ونحن نعلم أن القطاع السياحي قدم ثلث الوظائف الجديدة في بريطانيا بين عامي 2010 – 2013؛ وأن مقاطعة بريطانية واحدة يصل عدد العاملين في القطاع السياحي نصف العاملين في نصف بريطانيا.

الآن اختلفت الأمور، لأن الظروف تغيرت، ليس فقط بسبب أزمة انخفاض أسعار البترول، ولكن لأن معطيات الطاقة تغيرت، والتقنية تغيرت، والنقل في العالم الجديد سيتغير، وجيل الألفية يفكر ويتعاطى مع الأمور بشكل مختلف، لذلك لا بد أن تكون الرؤية مختلفة حتى يكون وضعنا عام 2020 أفضل من 2016؛ وموقعنا في 2030 متقدما عن أيامنا هذه.

 ??  ??

Newspapers in Arabic

Newspapers from Saudi Arabia